لجان التحقيق في إسرائيل: شارون الصبيّ وكاهان النبيّ (6/6)

أ ف ب

فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هذه المقالة السادسة والأخيرة من سلسلة مقالات تحت عنوان "لجان التحقيق في إسرائيل"، والّتي تستند إلى ما توصّلت إليه في رسالة الماجستير في حقل الدراسات الإسرائيليّة، عبر بحث كلّ من "لجنة كاهان" (1982) و"لجنة أور" (2000-2004).

السؤال النهائيّ لهذه السلسلة من المقالات كما للرسالة، هو: ما الّذي تقوم به لجنة التحقيق بالفعل، عندما يتعلّق الأمر بجرائم الدولة في إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين؟

الإجابة المبسّطة على الأقلّ، أنّها تُعيد إنتاج الحقيقة الرسميّة. شيء غير عقلانيّ الافتراض؛ أنّ ثمّة دولة في العالم يمكنها بالفعل أن تُقرّ باعتراف جريمة إبادة جماعيّة، طواعيةً. وتكمن الأهمّيّة، في مشهديّة لجان التحقيق، في أنّها تقوم بما يُشبه عمليّة جراحيّة دقيقة لترميم الحقيقة الرسميّة، حول الدولة الحديثة بكلّ ما لهذا الوصف من معنًى. وما إن تنطق اللجنة بهذه الحقيقة، كحقيقة ’لجنة كاهان‘ حول أنّ إسرائيل لا تتحمّل المسؤوليّة المباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، فلا شيء آخر يهمّ حقًّا، على الأقلّ لا شيء سيهمّ الدولة بعد ذلك؛ لأنّ الحقيقة غير الرسميّة حتّى لو كانت موثّقة أو مصوّرة، هي حقيقة غير مؤذية على المستوى الرسميّ، ولا تُشكّل تهديدًا لشرعيّة النظام القائم.

 

تفاهة الشرّ كما تراها آرندت

لماذا آيخمان؟ آيخمان ادّعى أنّه لم يكن يعرف، ولم يشعر بالحاجة إلى أن يعرف، وأنّه حاول أن يكون على قدر عالٍ من الكفايَة طوال الوقت. جعلت حنّه آرندت من آيخمان أنموذجًا بيروقراطيًّا لِما يمكن أواليّة بيروقراطيّة عمياء أن تُسفر عنه؛ شرًّا مطلَقًا. ألّا تعرف شيء، وألّا ترغب في أن تعرف شيء آخر. قد يكون ادّعاء آيخمان أنّه صديق لليهود، حاول مساعدتهم بكلّ الوسائل الممكنة لكنّه فشل في النهاية، قد يكون ادّعاء صحيحًا إلى حدّ ما، لا مجال هنا لإثباته، لكنّ الادّعاء نفسه، يحمل في طيّاته قدرة عمياء على الجهل البشريّ، بل إرادة عمياء للجهل البشريّ. لقد اختار آيخمان ألّا يعرف، بل حين حاول مسؤول نازيّ اصطحابه إلى مواقع "الحلّ النهائيّ"، أي معسكرات الاعتقال النازيّة لليهود، أصرّ آيخمان على أنّه لا يستطيع رؤية هذه المشاهد، واختار ألّا يراها[1]. هذا ما وصفته آرندت، بأنّه "تفاهة الشرّ"، أي الشرّ عندما يكون نِتاج أواليّة بيروقراطيّة عمياء، لا تُسائِل نفسها عن شيء، ولا يتقدّم أيٌّ من أفرادها لمساءلة أيّ عمليّاتها أو عناصرها. الشرّ عندما يكون فارغًا من الأيديولوجيا؛ فآيخمان أصرّ على أنّه لا يعرف شيئًا عدا "اللغة الإداريّة". صحيح أنّ هذه اللغة ساقت اليهود كالخراف إلى مصائرهم، ومعهم الغجر والمعاقون والمثليّون والشيوعيّون وغيرهم، إلّا أنّ آيخمان ظلّ مصرًّا طوال الوقت على ألّا يعرف أيّ شيء عدا "اللغة الإداريّة".

شارون، أمام لجنة التحقيق، كان أَشبَه بالصبيّ المتعصّب لرأيه، الفوضويّ المشاغب، الّذي لا يريد أن يستمع لأحد أو يُصغي لأحد، بينما كانت اللجنة تمثِّل "العقل"، العقل الّذي ليس مترفّعًا فحسب عن "طفولة شارون" وغبائه السياسيّ وتطرّفه الأعمى، بل المترفّع حتّى عن أيديولوجيا الدولة نفسها والمجتمع

هنا لا أشابِه بين سلوك آيخمان التكنوقراطيّ، وسلوك شارون الأيديولوجيّ القوميّ المتطرّف، بل أشابه بين لغة آيخمان ولغة لجنة التحقيق.

شارون، أمام لجنة التحقيق، كان أَشبَه بالصبيّ المتعصّب لرأيه، الفوضويّ المشاغب، الّذي لا يريد أن يستمع لأحد أو يُصغي لأحد، بينما كانت اللجنة تمثِّل "العقل"، العقل الّذي ليس مترفّعًا فحسب عن "طفولة شارون" وغبائه السياسيّ وتطرّفه الأعمى، بل المترفّع حتّى عن أيديولوجيا الدولة نفسها والمجتمع؛ لا لأنّها تتنصّل من تلك الأيديولوجيا، ولا لأنّ أفرادها لا يعتنقون الأيديولوجيا ذاتها، بل لأنّها تمثِّل فكرة الدولة، تمثِّل فكرة الرسميّ، وقد شُكِّلت للحفاظ على هذا الرسميّ، من أيّ شرّ أيديولوجيّ قد يُعيده إلى مجرّد أيديولوجيا حركة صهيونيّة متطرّفة. هي - مرّة أخرى - نبيّ بورديو المناقبيّ، الّذي عليه أن يقوم بالدور الّذي لا يُتقِن - ولا يستطيع - أحد غيره أن يقوم به؛ عليه أن يتكلّم ليُطهِّر المجتمع من شرور نفسه، وعليه أن يصوغ الكلمات الّتي لا أحد غيره قادر على صياغتها، بلا أن يُنبَذ من الجماعة الوطنيّة.

حذّر شارون الحكومة من قبول تقرير "لجنة كاهان"؛ لأنّ مجرّد القبول في نظره كان سيُعَدّ إقرارًا بالذنب، والصبيّ المشاغب المتعصّب لم يكن ليقبل حتّى أن يُزَجّ في النقاش حول المجزرة، فكيف أن يتحمّل المسؤوليّة غير المباشرة كاملة؟ لكنّه والحكومة، وحسب مذكّراته، كانوا يعرفون جميعًا، أنّ عدم قبول التقرير يعني أن تتقدّم الحكومة باستقالتها، وأن تَجري الدعوة إلى انتخابات مرّة أخرى؛ لأنّ الدولة لم تعُد على توافق مع نفسها، الحكومة من جهة، و"المحكمة العليا" الّتي من قُضاتها تشكّلت لجنة التحقيق من جهة أخرى. وهكذا تجرّع شارون مرارة الاستقالة وهو يتذكّر أباه الّذي عاش في زمن - في مخيّلته - لا يهوديّ سيُسائل يهوديًّا آخر عمّا فعله إن كان فعله لحماية يهوديّ آخر.

لذلك؛ تمسّكَت اللجنة بلغتها الرسميّة، "اللغة الإداريّة"، لغة آيخمان الّتي تدّعي أنّ الدولة مذنبة، لكن ليس بما يتّهمها الآخرون، بل بأنّها لم تكن على قدر أعلى من الكفايَة التكنوقراطيّة، تمامًا كما ادّعى آيخمان أنّه مذنب، لكن ليس بما يتّهمه به الآخرون. شارون يصرّ على أيديولوجيّة سلوكه، بينما اللجنة عبر خطابها تفرض عليه الصمت، وتُفرِّغ أفعاله من محتواها الأيديولوجيّ، وتتّهمه بأنّه لم يكن على قدر المسؤوليّة بصفته وزير دفاع. وكذلك تفعل مع بقيّة الجهلاء التسعة. كلّ أفعالهم الّتي هي في النهاية أفعال إبادة جماعيّة ضدّ الفلسطينيّين، تُفرِّغها اللجنة من محتواها الأيديولوجيّ والقوميّ، وتُحيلها إلى مجرّد تراكم أخطاء بيروقراطيّة وتكنوقراطيّة، جرّاء احتمال الخطأ البشريّ.

باللغة الإداريّة تُطهِّر اللجنة المجتمع من شروره الأيديولوجيّة، الّتي تطفو على السطح بين الحين والآخر، على هيئة جثث متعفّنة وبطون حوامل مبقورة، وتُحافظ على تماسكه بخطابها الدولانيّ حتّى لو رُفِض هذا الخطاب، وحتّى لو لم يقبل المجتمع به، فإنّه غير قادر على رفضه.

شارون يصرّ على أيديولوجيّة سلوكه، بينما اللجنة عبر خطابها تفرض عليه الصمت، وتُفرِّغ أفعاله من محتواها الأيديولوجيّ، وتتّهمه بأنّه لم يكن على قدر المسؤوليّة بصفته وزير دفاع. وكذلك تفعل مع بقيّة الجهلاء التسعة.

ذلك هو نبيّ بورديو، والنبيّ في هذه الحالة هو القاضي يتسحاق كاهان، الّذي يروي شارون أنّه لمّا دخل قاعة التحقيق، وكان في انتظاره كاهان والقاضي باراك، كانا يحدجانه بنظرات حادّة عدائيّة "كأنّهما غُرابان أسودان"[2]. بصفته صهيونيًّا متطرّفًا يؤمن بمبادئ الحركة أوّلًا ومن ثَمّ الدولة، رأى شارون في تلك النظرات ما سيحدث، وهو أن يُتّهم بالمسؤوليّة عن المجزرة، لكن يمكن القول إنّ تلك النظرات كانت بمنزلة سخط الدولة على شارون المارق عن مبادئ الدولة.

 

"كان عليهم أن يعرفوا أفضل"

في حالة "لجنة كاهان"، ولتشييد منطق المسؤوليّة غير المباشرة، كان على اللجنة أوّلًا، أن تقبل "أخلاقيّة" حجّة الجيش الإسرائيليّ في استخدام الكتائب في عمليّاته، في مخيّمَي صبرا وشاتيلا[3]. قبل كلّ شيء؛ لم يُسمّ الجيش أو أيّ مسؤول في الجيش، أو الحكومة الإسرائيليّة، ما حدث في صبرا وشاتيلا بـ "عمليّة للجيش الإسرائيليّ"، الحقيقة أنّها في النهاية، سواء نفّذتها الكتائب، أو قوّات سعد حدّاد التابعة للجيش الإسرائيليّ، أو الجيش نفسه، فهي عمليّة - operation للجيش الإسرائيليّ، وهو ما لم يُتطرَّق إليه بالمُطلَق. اقتنعت اللجنة بحدود المنطق الّذي فرضه الجيش عليها؛ أي أنّ الجيش استخدم الكتائب للقيام بحرب عصابات على 2000 مقاتل فلسطينيّ، لا يزالون موجودين في بيروت الغربيّة، وتحديدًا في مخيّمَي صبرا وشاتيلا، وكان ذلك - تبعًا للجيش - للحفاظ على حياة الجنود الإسرائيليّين، وبسبب الانتقادات الّتي طالبت بإشراك الكتائب في الحرب، ما داموا يقطفون ثمارها ولا يتحمّلون أعباءها حتّى اللحظة، وانتهاءً بكون الكتائب أقدر على التعرّف على "الإرهابيّين" الفلسطينيّين[4]. وعلى الرغم من وعي اللجنة بكلّ الانتقادات الّتي وُجِّهت إلى هذا السلوك، ووعيها بإدراك بعض المسؤولين الإسرائيليّين أو كلّهم بطبيعة الكتائب الدمويّة، وسلوكهم القتاليّ الوحشيّ، إلّا أنّها اعتبرت أنّ هذا الإدراك الجزئيّ ليس سببًا كافيًا لتحميل الجيش المسؤوليّة عمّا حدث؛ لأنّ القدرة على التنبّؤ بما حدث لم تكن حتميّة[5].

كان هذا الجزء الأوّل من منطق المسؤوليّة غير المباشرة، وهو التسليم بصحّة حجّة الجيش الإسرائيليّ وأخلاقيّتها في استخدام الكتائب لدخول المخيّمات. وكان الجزء الثاني التسليم بحالة الشكّ، الّتي أحاطت بالإجابة عن سؤال إذا ما كان المسؤولون الإسرائيليّون قادرين على التنبّؤ بما كان سيقع في المخيّمات، في حالة دخول الكتائب، وإذا ما كان المسؤولون الإسرائيليّون قد علموا بما يجري في وقت مبكّر أو متأخّر قليلًا، ولم يُسارعوا إلى منعه، وهذا ما يظهر في الفقرة الآتية من تقرير اللجنة:

"نحن لا يمكننا قبول هذا الموقف، فإذا ما اتّضح بالفعل أنّ أولئك الّذين قرّروا دخول الكتائب إلى المخيّمات، كان عليهم أن يتوقّعوا - من خلال المعلومات الّتي لديهم، ومن أشياء تُعَدّ معلومات عامّة - أنّ ثمّة خطرًا كان محتمَلًا في وقوع مذبحة، ولم يتّخذوا أيّ خطوات كانت ستمنع هذا الخطر، أو على الأقلّ ستقلّل بشكل كبير احتمال وقوع أعمال من هذا القبيل. إذن، فأولئك الّذين اتّخذوا القرارات وأولئك الّذين طبّقوها، مسؤولون مسؤوليّة غير مباشرة عمّا حدث، حتّى لو لم يكونوا يقصدون أن يقع ذلك، بل كلّ ما فعلوه تجاهل ذلك الخطر المتوقَّع. وتقع مسؤوليّة غير مباشرة أيضًا مشابِهة، على أولئك الّذين علموا بهذه القرارات؛ إذ كان من واجبهم بحُكم مناصبهم أن يحذّروا من الخطر، ولم يحذّروا. وليس من الممكن أيضًا استثناء أولئك الأشخاص الّذين حين تسلّموا التقارير الأوّليّة لِما كان يحدُث في المخيّمات، لم يسارعوا لمنع استمرار الأعمال الكتائبيّة، ولم يفعلوا شيئًا تحت سلطتهم لإيقاف ذلك..."[6].

لم يُسمّ الجيش أو أيّ مسؤول في الجيش، أو الحكومة الإسرائيليّة، ما حدث في صبرا وشاتيلا بـ "عمليّة للجيش الإسرائيليّ"، الحقيقة أنّها في النهاية، سواء نفّذتها الكتائب، أو قوّات سعد حدّاد التابعة للجيش الإسرائيليّ، أو الجيش نفسه، فهي عمليّة - operation للجيش الإسرائيليّ، وهو ما لم يُتطرَّق إليه بالمُطلَق...

إضافةً إلى ما سبق، فاللجنة تفترض أنّ قرار دخول غربيّ بيروت، في الليلة بين 14 و15 أيلول (سبتمبر) 1982، كان قرارًا لا بدّ منه؛ لأنّ القوّة العسكريّة الوحيدة الّتي كان من الممكن أن تسيطر على الأوضاع غربيّ بيروت، وتمنع أيّ أعمال انتقاميّة دمويّة بين أطراف الحرب الأهليّة اللبنانيّة، الجيش الإسرائيليّ. ولذلك؛ "يمكن افتراض أنّه لو لم تدخل قوّات الجيش الإسرائيليّ إلى غربيّ بيروت، لوقع العديد من الفظائع هناك في غياب سلطة حقيقيّة، ويمكن الرأي العامّ العالميّ أن يكون قد ألقى آنذاك بالمسؤوليّة على إسرائيل؛ لإحجامها عن العمل"[7].

يلخّص التقرير المسؤوليّة غير المباشرة لإسرائيل في الفقرة الآتية:

"نؤكّد أنّ الفظائع الّتي وقعت في مخيّمات اللاجئين، قد قام بها أفراد الكتائب، وأن ليس ثمّة أيّ مسؤوليّة مباشرة تقع على عاتق إسرائيل، أو عاتق أولئك الّذين يعملون من أجلها. وفي نفس الوقت، من الواضح أنّ قرار إدخال الكتائب إلى المخيّمات قد اتُّخذ بغير اعتبار الخطر، الّذي كان على صانعي القرار ومنفّذيه، أن يتوقّعوا أنّ الكتائب سوف يرتكبون مذابح وجرائم ضدّ سكّان المخيّمات، وبغير فحص لوسائل منع وقوع هذا الخطر. ويتّضح أيضًا، من سياق الأحداث، أنّه عندما بدأت الأنباء تتسرّب عن أفعال الكتائب في المخيّمات، لم تُتّخذ الإجراءات المناسبة، ولم تُستخلص الاستنتاجات الصحيحة منها، ولم يُتّخذ أيّ عمل حيويّ وفوريّ، لضبط الكتائبيّين ووقف أعمالهم. إنّ هذا يعكس مسؤوليّة إسرائيل غير المباشرة عمّا حدث في مخيّمات اللاجئين، وسوف نناقش مسؤوليّة أولئك الّذين عملوا من أجل مصلحة إسرائيل وباسمها"[8].

 

الجهلاء التسعة

حمّلت اللجنة في ختام تقريرها المسؤوليّة غير المباشرة، لتسعة مسؤولين إسرائيليّين في الحكومة والجيش الإسرائيليّ، وقد صاغت اللجنة اتّهاماتها لهؤلاء التسعة على النحو الآتي:

وزير الدفاع الإسرائيليّ آرئيل شارون: رأت اللجنة أنّ آرئيل شارون كان مهملًا لخطر وقوع المذبحة؛ وبصفته وزيرًا للدفاع، فإنّه يتحمّل مسؤوليّة منح الكتائب فرصة الدخول إلى المخيّمات، بغير اتّخاذ إجراءات للإشراف الثابت والمستمرّ على أعمالهم هناك. وكان اشتراكه في الحرب عميقًا، وكان الاتّصال بالكتائب تحت رعايته المستمرّة، وإذا كانت حقيقة الأمر أنّ وزير الدفاع لم يعتقد أنّ قرار دخول الكتائب إلى المخيّمات، بلا إشراك الجيش الإسرائيليّ في العمليّة، لم يعتقد أنّه سيؤدّي إلى هذه الكارثة الّتي وقعت بالفعل، فإنّ التفسير الوحيد الممكن لهذا أنّه غفِل عن أيّ توقّعات عمّا كان يجب توقّعه. وفي رأي اللجنة، فإنّ وزير الدفاع قد ارتكب خطأ فاحشًا، حين تجاهل خطر وقوع أعمال انتقاميّة وسفك دم، من قِبَل الكتائب ضدّ مواطني مخيّمات اللاجئين. وفي ما يتعلّق بمسؤوليّة وزير الدفاع، اكتفت اللجنة بتأكيد أنّه لم يصدر أيّ أمر للجيش الإسرائيليّ لاتّخاذ الإجراءات المناسبة.[9]

تتشابه أنماط المسؤوليّة غير المباشرة بين شارون، وبيغن، وإيتان، وشامير، ويارون، وكلّ الّذين حمّلتهم اللجنة المسؤوليّة غير المباشرة عن المجزرة؛ فالجنرال رفائيل إيتان، رئيس هيئة الأركان، وجّهت له اللجنة الاتّهام ذاته الّذي وجّهته إلى شارون، وهو عدم اتّخاذه أيّ إجراءات لمنع أيّ خطر كان عليه أن يتوقّع حدوثه في المخيّمات لدى إدخال الكتائب، وأنّه لم يوجّه أيّ أسئلة إلى ضبّاط الكتائب، في اجتماعه معهم يوم الجمعة 17 آب (أغسطس) 1982، عن أيّ أعمال مخلّة أو أعمال خطرة وقعت في المخيّمات. وأمّا بقيّة الّذين "حُدِّدت مسؤوليّتهم"، فهم على النحو الآتي، إضافةً إلى ما أُخِذ من توصيات بشأنهم:

رئيس الوزراء، وزير الخارجيّة ورئيس الموساد: رأت اللجنة أنّه بما يتعلّق بالاستنتاجات حول مسؤوليّة المذكورين سابقًا، رأت أنّه يكفي تحديد المسؤوليّة، وليس ثمّة حاجة إلى مزيد من التوصيات[10].

انتهى تحقيق اللجنة، إلى لا شيء تقريبًا؛ ثمّة جريمة، لكن ما من مجرمين. في بداية التقرير، أكّدت اللجنة مرارًا رواية الجيش الإسرائيليّ، وهي وجود 2000 مقاتل فلسطينيّ في المخيّمات، وقد استخدمت اللجنة مصطلح "إرهابيّين - Terrorist"، لتأكيد أخلاقيّة المنطق الإسرائيليّ باستخدام الكتائب للتعرّف عليهم...

قائد المنطقة الشماليّة الميجر جنرال أمير دروري: رأت اللجنة أنّ دروري كان مسؤولًا عن مهامّ صعبة ومعقّدة، خلال الأسبوع الّذي دخل فيه الجيش الإسرائيليّ غربيّ بيروت، مهامّ كان عليه إنجازها بعد فترة طويلة من حرب صعبة، وقد اتّخذ بعض الإجراءات لإيقاف عمليّات الكتائب، لكن يكمن ذنبه في أنّه لم يستمرّ بهذه الإجراءات، وأخذًا بعين الاعتبار هذه الظروف؛ يظهر أنّه يكفي تحديد المسؤوليّة للجنرال دروري بلا الحاجة إلى مزيد من التوصيات[11].

رئيس هيئة الأركان رفائيل إيتان: توصّلت اللجنة إلى استنتاجات خطيرة، في ما يتعلّق بالأعمال والإهمال الّذي مارسه إيتان، لكنّ إيتان على وشك إنهاء فترة خدمته في شهر نيسان (أبريل) 1982. وأخذًا بعين الاعتبار حقيقة أنّ تمديد فترة خدمته ليس موضع تفكير؛ فلا أهمّيّة عمليّة للتوصية بشأن استمراره في منصبه رئيسًا لهيئة الأركان، ولهذا قرّرت اللجنة أنّه يكفي تحديد المسؤوليّة[12].

مدير الاستخبارات العسكريّة يشوع ساغي: وجدت اللجنة في عمليّات ساغي أثناء المجزرة وقبلها، ملامح تقصير خطيرة جدًّا ومتعدّدة، وإهمالًا بواجبات منصبه، وأوصت اللجنة ألّا يستمرّ بمنصبه مديرًا للاستخبارات العسكريّة[13].

قائد الفرقة جنرال عاموس يارون: وجدت اللجنة أنّ يارون ارتكب أخطاء خلال خدمته العسكريّة، وأثناء مجزرة صبرا وشاتيلا، وأوصت ألّا يستمرّ بخدمته بصفة قائد ميدان في الجيش الإسرائيليّ، وأنّه لا يُعاد النظر بهذه التوصية قبل مرور ثلاثة أعوام[14].

 

انتهى التحقيق...

انتهى تحقيق اللجنة، إلى لا شيء تقريبًا؛ ثمّة جريمة، لكن ما من مجرمين. في بداية التقرير، أكّدت اللجنة مرارًا رواية الجيش الإسرائيليّ، وهي وجود 2000 مقاتل فلسطينيّ في المخيّمات، وقد استخدمت اللجنة مصطلح "إرهابيّين - Terrorist"، لتأكيد أخلاقيّة المنطق الإسرائيليّ باستخدام الكتائب للتعرّف عليهم؛ تلك لغة القمع الهويّاتيّ واللاأنسَنة الّتي استخدمتها اللجنة، لتفادي أيّ مساءلة عقلانيّة عن سبب استخدام الكتائب في المخيّمات، وفي أيّ سياق يكون التعرّف على "الإرهابيّين" المزعوم وجودهم داخل المخيّمات؛ فثمّة رجال كما ثمّة نساء وأطفال، ولم تُكلِّف اللجنة نفسها عناء البحث في تعريف "الإرهابيّ" عند الجيش الإسرائيليّ أو عند الكتائب[15]، بل على النقيض تمامًا؛ فقد استخدمت اللجنة هذا الوصف لتثبيت حقيقة لم يُصرَّح عنها تمامًا، وهي أنّ المدنيّين الّذين قُتلوا كانوا في النهاية أضرارًا جانبيّة، لعمليّة تطهير للعناصر "الإرهابيّة" الّتي كانت في تلك البقعة الجغرافيّة.

ما إنْ صدر تقرير كاهان، حتّى لم يعُد شيء يهمّ بعد تلك اللحظة؛ فالحقيقة الّتي أراها الآن، أنّ الحقيقة ما دامت غير رسميّة، تكون حقيقة غير مؤذية ولا وزن لها. الّذي فعَلَته اللجنة أنّها رفعت عبء المجزرة عن المجتمع الإسرائيليّ، وتركت الحكومة الإسرائيليّة تعود إلى مزاولة عملها بشكل طبيعيّ

لقد أدّى نبيّ بورديو دوره على أكمل وجه؛ ما إنْ صدر تقرير كاهان، حتّى لم يعُد شيء يهمّ بعد تلك اللحظة؛ فالحقيقة الّتي أراها الآن، أنّ الحقيقة ما دامت غير رسميّة، تكون حقيقة غير مؤذية ولا وزن لها. الّذي فعَلَته اللجنة أنّها رفعت عبء المجزرة عن المجتمع الإسرائيليّ، وتركت الحكومة الإسرائيليّة تعود إلى مزاولة عملها بشكل طبيعيّ، وتركت المجتمع يتطهّر من شروره الأيديولوجيّة، ليعود مرّة أخرى إلى خداع نفسه، والإيمان بديمقراطيّة الدولة وعدالتها، ومن ثَمّ بعدالة المجتمع نفسه. ما كان يهمّ اللجنة والحكومة الإسرائيليّة أن تنطق اللجنة بخطاب رسميّ، يؤكّد انعدام أيّ مسؤوليّة مباشرة تقع على عاتق إسرائيل عن المجزرة. قد يؤكّد تشومسكي عكس ذلك، لكن مَنْ سيسمع له حقًّا؟ قد يؤكّد هاليفي عكس ذلك، وأفنيري، مَنْ يسمع لهما؟ لا أحد. اللجنة لا يعنيها إن اقتنعتُ أنا، أو غيري من مواطني العالم، إن كان شارون حقًّا لم يعرف أو كان مقصّرًا فحسب، يعنيها أن تظهر في لحظة من الارتباك السياسيّ والاجتماعيّ، وتنطق بخطاب رسميّ تعرف مسبقًا أنّ الجميع سيوافق عليه، على مضض أو عن اقتناع، لا يهمّ، وبعد تلك اللحظة، سيعود كلّ شيء إلى ما كان عليه. تُعيد إنتاج الحقيقة الرسميّة: هل ارتكبت إسرائيل مجزرة؟ يُجيب النبيّ: كلّا، لكن كان عليكم أن تكونوا على قدر أكبر من الكفايَة، هذا كلّ ما في الأمر. كآيخمان؛ هل ارتكبتَ جريمة حقًّا؟ كلّا، في الواقع أدّيت عملي، لكن كان عليّ أن أعرف أكثر.

..........

إحالات:

[1] حنّه آرندت، آيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ (الجزائر: ابن النديم للنشر والتوزيع 2014)، ص 86.

[2] دافيد شانوف، مذكّرات آريئيل شارون (بيروت: مكتبة بيسان، 1992)، ص 679.

[3] Falk, Richard. "Banishing the Palestinian Ordeal". MERIP Reports, no. 115 (1983), 24-28.

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6]  "تقرير لجنة كاهان بمذابح صبرا وشاتيلا"، ترجمة مفيد الديك (القدس: أبو عرفة للصحافة والنشر، 1983)، ص 86-82.

[7] المرجع نفسه، ص 87.

[8] المرجع نفسه، ص 89.

[9] المرجع نفسه، ص 101-107.

[10] المرجع نفسه.

[11] المرجع نفسه.

[12] المرجع نفسه.

[13] المرجع نفسه.

[14] المرجع نفسه.

[15] Falk, Banishing the Palestinian Ordeal.

 

للاطّلاع على سلسلة المقالات السداسيّة بعنوان "لجان التحقيق في إسرائيل"، اضغط هنا.

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة بيرزيت، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة في الجامعة نفسها. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما.