«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

سيّدة فلسطينيّة في مواجهة أحد المستوطنين، الشيخ جرّاح 2021 | Getty

 

إنّ ثمّة العديد من الظواهر الاجتماعيّة اللافتة، الّتي ضجّت بها مشهديّة الهبّة الشعبيّة الفلسطينيّة، الّتي بدأت بوادرها في منتصف نيسان (أبريل) 2021، وذلك مع وضع سلطات الاستعمار حواجز حديديّة في «ساحة باب العمود» المؤدّية إلى البلدة القديمة في القدس والمسجد الأقصى؛ وقد جاءت هذه الهبّة لتوحّد الفلسطينيّين في الضفّة وغزّة والقدس وأراضي 48، على مبدأ المقاومة والمواجهة[1].

 

أجمل ما فينا

وقد كان من بين العبارات اللافتة الّتي ظهرت إبّان سيرورة الهبّة، عبارة ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت عنوان «المواجهة تُخرج أجمل ما فينا»، وقد جاءت مترافقة مع أمثلة على التكافل والتضامن الاجتماعيّ، الّتي امتلأت بها ساحات فلسطين وميادينها، سواء في الضفّة أو غزّة أو القدس أو مناطق 48، ومن ضمن هذه الأمثلة: تخصيص بعض العائلات في غزّة منازل غير مسكونة لهم، من أجل إيواء عائلات أخرى تعرّضت بيوتهم لقصف وتدمير من الاستعمار، وإيصال سائقي المواصلات العامّة في الضفّة الغربيّة الشبابَ والشابّات إلى مناطق التماس مع قوّات الاستعمار مجّانًا، في يوم «إضراب الكرامة». ومن ضمن الأمثلة – أيضًا - تشكيل الشباب والشابّات، في مناطق 48 لجانًا شعبيّة لحماية الأحياء العربيّة من هجمات العصابات الإسرائيليّة، وتطوّع مجموعة من المحامين فيها من أجل الدفاع عن المعتقلين الّذين اعتُقلوا على خلفيّة الهبّة.

إنّ حضور مظاهر التضامن الاجتماعيّ، ووجودها ظاهرةً اجتماعيّة عامّة في هذه الهبّة تدفع إلى التساؤل حول سبب هذا الحضور، وحول ماهيّة التغييرات الّتي تقوم بها الهبّات والانتفاضات في المنظومة القيميّة السائدة بين الناس عمومًا...

وإنّ حضور مظاهر التضامن الاجتماعيّ، ووجودها ظاهرةً اجتماعيّة عامّة في هذه الهبّة تدفع إلى التساؤل حول سبب هذا الحضور، وحول ماهيّة التغييرات الّتي تقوم بها الهبّات والانتفاضات في المنظومة القيميّة السائدة بين الناس عمومًا، وتدفع بهم نحو تبنّي منظومات قيميّة واجتماعيّة مغايرة، تقوم في الأساس على إعلاء قيم الجماعيّة والتضامن الاجتماعيّ على حساب قيم الفرديّة والمصلحة الشخصيّة الأخرى.

وضمن إطار الإجابة عن السؤال السابق، يمكن القول إنّ الفعل الانتفاضيّ الّذي جاءت به الهبّة الفلسطينيّة، هو فعل كان مدفوعًا إلى حدّ كبير بالقيم والمبادئ الأساسيّة، الّتي استيقظت في أذهان الفاعلين؛ أي المنتفضين، ووجدانهم؛ فتلك القيم لم تزوّد المنتفضين الفلسطينيّين بحافز قويّ للفعل والاستمراريّة فيه فقط، بل إنّها زوّدتهم أيضًا بالدوافع اللازمة لتحمّل تكاليف الفعل[2].

 

الجماعيّة

وإنّ واحدة من أبرز القيم الّتي أعلنتها الهبّة الشعبيّة ورفعتها، لدى جموع المنتفضين الفلسطينيّين، هي قيمة الهويّة الجمعيّة المشتركة؛ فالهبّة الّتي اشتعلت في جميع أنحاء فلسطين، أيقظت في نفوس جماهيرها ووجدانهم، هويّتهم الجمعيّة الوطنيّة المشتركة، ودفعت بهم نحو الالتفاف حولها، وتجاوز كلّ التناقضات الداخليّة الأخرى[3]، وهو ما يدلّل عليه - مثلًا - خفوت صوت الحامل الأيديولوجيّ والحزبيّ في شعارات المتظاهرين الّذين خرجوا في الضفّة الغربيّة، للمشاركة في الهبّة، وتوفير السند الشعبيّ الجماهيريّ لها، ومن أبرز هذه الشعارات: "يلّي بتحكي انقسام... فتح بتهتف للقسّام".

وتبعًا لذلك؛ فالملاحظ هنا أنّ الهبّة الشعبيّة عملت على الارتقاء بمعانٍ مجتمعيّة معيّنة، ودفعها لتحلّ مكان معانٍ مجتمعيّة أخرى؛ فالهبّة حملت معاني الجماعيّة والوحدة ضدّ الفئويّة، والوطن ضدّ الانقسام، والفعل الشعبيّ والجماهيريّ ضدّ العزلة الفصائليّة، والتاريخ والجغرافيا والاجتماع ضدّ هيمنة البعد السياسيّ[4].

ويمكن النظر إلى قيمة الجماعيّة – الّتي ذكرناها - باعتبارها من أبرز القيم الّتي عملت الهبّة على إعلائها في أذهان جموع المنتفضين الفلسطينيّين ووجدانهم، فتَأجُّج علاقة الصراع مع المستعمِر الإسرائيليّ وعودتها لتَتّخذ أشكالها الصداميّة العنيفة دفعٌ بجموع المنتفضين إلى إعلاء كلّ القيم الّتي تأتي في إطار هذه العلاقة الصراعيّة والصداميّة، موجّهة ضدّ هذا المحتلّ. وإنّ أشكال التضامن الاجتماعيّ الّتي أفرزتها الهبّة، في إطار العلاقة الصراعيّة مع المحتلّ، تأتي لتُدلّل على أنّه أُعلِيت قيم العضويّة على حساب قيم الاستقلال الفرديّ، وقيم الاعتماد على الذات على حساب قيم الاتّكاليّة، وقيم التضحية والكرامة والهويّة والحرّيّة وغيرها[5].

وضمن الإطار السابق، يمكن تفسير سبب الدعاوى، الّتي كانت تظهر إبّان الهبّة، بضرورة تأجيل النقد المشروع للفعل المقاوم، حتّى لو وجدت العديد من المآخذ عليه؛ ففي إطار تأجّج العلاقة الصداميّة مع المستعمِر، لا يمكن التطرّق لنقد أيّ ممارسة ضدّه، من حيث إنّها موجّهة ضدّه؛ لأنّ أيّ تصعيد في الفعل المقاوم، مهما كان نوعه، يؤثّر إيجابيًّا في التماسك والتعاضد المجتمعيّ[6].

 

القوّة الإنسانيّة

وإنّه من بين القيم الّتي أعلنتها الهبّة في الإنسان الفلسطينيّ على حساب قيمة أخرى؛ قيمة الإرادة والقوّة الإنسانيّة ضدّ قيمة الخضوع والاستكانة والهوان؛ فالهبّة دعت الإنسان الفلسطينيّ إلى الانتصار على «سيكولوجيّة الإنسان المقهور»، وأحدثت فيه تغييرات سيكولوجيّة ظهرت تجلّياتها في استعادة ثقته بنفسه، وشعوره بمحوريّة إرادته الذاتيّة في صراعه مع المستعمِر[7]، وأنّ هذه الإرادة دفعته - بحسب تعبير إريك هوفر - إلى الشعور بقوّة خارقة لديه، حتّى لو لم يفهم جيّدًا طبيعة هذه القوّة ولا مصدرها؛ فحركته الانتفاضيّة في الهبّة، كان هدفها الأوّل والأخير نسف الواقع الاحتلاليّ، كما أنّها جاءت مسكونة بهاجس التحرّر؛ وهو ما منحها الكثير من العزيمة والقوّة[8].

فالملاحظ هنا أنّ الهبّة الشعبيّة عملت على الارتقاء بمعانٍ مجتمعيّة معيّنة، ودفعها لتحلّ مكان معانٍ مجتمعيّة أخرى؛ فالهبّة حملت معاني الجماعيّة والوحدة ضدّ الفئويّة...

 

وإنّ قيمة الإرادة والقوّة الإنسانيّة، الّتي ساهمت الهبّة في إعلائها لدى الجماهير، هي الّتي دفعت بهم إلى إطلاق شعار جديد في ذكرى النكبة، استحضروا من خلاله هذه الإرادة وتجلّياتها، وقرّروا فيه أنّه «آن للنكبة ألّا تستمرّ»، حيث إنّ الهبّة أعادت لفت أنظارهم نحو مفهوم «ميزان الإرادات»، بوصفه مفهومًا غير قابل للقياس، وجزء رئيسيّ من أيّ تغيير ثوريّ انتفاضيّ، يأتي لينبّه إلى عوامل غير تقنيّة وغير مادّيّة، تجيء لتفسّر ظاهرة انتصار القوى الضعيفة، في المواجهة مع القوى الاحتلاليّة والاستعماريّة، وأسلحتها وأدواتها القمعيّة، ويقع في مقدّمة هذه العوامل تمكين الجماهير وتفعيل طاقتها وإرادتها الإنسانيّة[9].

أخيرًا، فإنّ هناك مقولة وردت على لسان ناشطة في حركة نسويّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، تقول فيها إنّ عملها مع الحركة زادها قوّة، وأنّها لم تعد كتلك النملة الضئيلة، الّتي تحيا وتعمل وسط الجموع الأخرى في مملكة النمل[10]، وإنّ هذه العبارة تذكّر بعبارةٍ أخرى وردت على لسان إحدى النساء الفلسطينيّات في فيلم «مملكة النمل»، تقول فيها: "شارون وعصبته قاعدين يقتلونا ويذبحونا بطيّاراتهم ودبّاباتهم، ومش داريين إنّو في جوّات راس كلّ واحد منّا مملكة نمل بحالها"، وربّما أنّ أكبر ما فعلته الهبّة هي أنّها أحيت في الرأس الفلسطينيّ صورة مملكته؛ ليحضر فيها لا كنملة صغيرة بل فاعلًا يعمل ويقاوم، ويواجه مملكة كاملة مبنيّة في أساساتها على قيمة كبرى، مفادها أنّ الكلّ الفلسطينيّ هو وحدة لا تتجزّأ.

.........

إحالات:

[1] الهبّة الشعبيّة الفلسطينيّة: خلفيّاتها، وأسبابها وسماتها، سلسلة: تقدير موقف (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص 1.

[2] دوناتيلا ديلا بورتا وماريو دياني، الحركات الاجتماعيّة (مؤسّسة هنداوي سي آي سي، 2019)، ص 101.

 [3] أحمد الديك، مجتمع الانتفاضة، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1993)، ص 71.

[4] المرجع السابق، ص 170.

[5] المرجع السابق، ص 25.

[6] المرجع السابق، ص 26.  

[7] سلمان بونعمان، فلسفة الثورات العربيّة؛ مقاربة تفسيريّة لنموذج انتفاضيّ جديد، ط 1 (مركز نماء للبحوث والدراسات)، ص 138.

[8] المرجع السابق، ص 116.

[9] المرجع السابق، ص 113.

[10] بورتا ودياني، مرجع سابق، 129.

 

 

تسمية

 

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

مواد الملف

جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

 نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها