عن حفلة سوق العقار الفلسطينيّة | حوار مع كريم ربيع

كريم ربيع

 

* مشروع «روابي» شكّل سابقة في الأنماط التاريخيّة لاستملاك الأراضي. 

* بينما تنمو رام الله في اتّجاه معيّن، تنكمش الحياة الفلسطينيّة في مكان آخر. 

* فيّاض حوّل السلطة الفلسطينيّة إلى كيان سياسيّ مستقبل للدعم الخارجيّ. 

* المنطق السائد هو تحويل الدعم الخارجيّ إلى القطاع الخاصّ. 

 

في كتابه الجديد «Palestine is throwing a party and the whole world is invited» الصادر عام 2021، يُعالج كريم ربيع، أستاذ علم الإنسان في «جامعة إلينوي»، التحوّل في أنماط الحوكمة الفلسطينيّة في اتّجاه العولمة النيوليبراليّة خلال السنوات الّتي تلت مرحلة رئيس الوزراء الفلسطينيّ الأسبق سلام فيّاض.

يركّز ربيع في كتابه على مشروع «روابي» السكنيّ بوصفه مكانًا تلتقي فيه التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة في أنماط الحوكمة، مبيًّنًا كيف تحوّل الدعم الخارجيّ للسلطة الفلسطينيّة إلى دعم مخصّص لرعاية القطاع الخاصّ وتطويره، ما ساهم في ظهور أنماط جديدة من استملاك الأراضي الأمر الّذي تمخّض عنه ظهور السوق العقاريّة في فلسطين.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع ربيع، نتحدّث معه عن السياسات النيوليبراليّة في فلسطين، وعن مشروع «روابي» السكنيّ، وعن الدعم الخارجيّ، وعن مدينة رام الله بوصفها مكانًا تتمظهر فيه ما يسمّيه ربيع بـ "نمط خصخصة الحوكمة".

 

فُسْحَة: أريد البدء بالصورة الأكبر وبما أسميته بـ «نمط الحوكمة المخصخصة» في كتابك «Palestine is throwing a party and the whole world is invited: Capital and State Bilding in the West Bank» (2021).  كيف ظهر هذا النمط من الحوكمة في الضفّة الغربيّة، أو كيف بدأت الحفلة؟

كريم: أعتقد أنّ ما حاولت فهمه في الكتاب نوعًا ما التغيّرات الّتي تحدث في فلسطين على المستوى السياسيّ. عندما بدأت بالذهاب إلى فلسطين عام 2007 لغايات البحث، كنّا متأثّرين بقوّة بالصور والأبحاث الّتي تصل من فلسطين عن الجدار والتجزئة المكانيّة وغيرها من الأشياء، وبالطبع بعنف الاحتلال المتصاعد ومقاومته. لكنّي بدأتُ أتساءل آنذاك عن الممارسات والأنماط السياسيّة الناشئة الّتي لم تكن مُقاوِمَةً كما اعتدنا على رؤيتها، وفي الوقت نفسه، كان الجميع على وعي بالدعم الخارجيّ وتأثير توظيف عدد كبير من الناس في القطاع العامّ، واعتماديّة السلطة الفلسطينيّة على الدعم الخارجيّ لصرف رواتب الموظّفين، وكذلك على عائدات الضرائب الّتي غالبًا ما يتمّ احتجازها من قبل الإسرائيليّين. آنذاك بدأت بالتفكير في الصورة الأكبر والاتّجاه الّذي تسير فيه الأمور، وفي ذلك الوقت كان ثمّة حديث متزايد عن مشروع «روابي» وبدأنا نرى الإعلانات الترويجيّة للمشروع.

في ذلك المشروع وجدت مكانًا تتقاطع فيه كلّ الأمور الّتي كانت تهمّني وتتمحور حول سؤال القطاع الخاصّ، وكيف أصبحَ القطاع الخاصّ والعامّ غير قابلين للتمييز بشكل متزايد. كان من السهل البحث في تلك الأسئلة في مكان مثل «روابي» يفكّر بنفسه كمدينة، وفي مكان تتقاطع فيه عديد الأمور مثل التحوّل الهائل في أنماط ملكيّة الأراضي وأساسها القانونيّ، وكيف تصبح الحكومة، أي السلطة الفلسطينيّة، متمركزة حول فكرة تحويل الدعم الخارجيّ إلى القطاع الخاصّ، وكيف لم يعد الدعم الخارجيّ مهتمًّا برعاية مشاريع بلديّة ضخمة، لأنّ المنطق السائد هو تحويل الدعم الخارجيّ إلى القطاع الخاصّ. وكانت «روابي» المكان الأمثل لرؤية كلّ هذه التغييرات، وذلك ما كنت أحاول فهمه؛ كيف يتماهى عمل الدولة بشكل متصاعد مع عمل القطاع الخاصّ.

ثمّة شيء آخر كان يمكنني فعله بشكل أفضل في الكتاب يتعلّق بالـ «حقبنة Periodization»، وهو ما أشارت إليه الأكاديميّة الفلسطينيّة مزنة قاطو، أي أنّ عام 2005 كان عام الخروج من قطاع غزّة، وكان عام 2007 عام الانقسام، ومن ثمّ أتى سلام فيّاض، رئيس الوزراء الفلسطينيّ الأسبق، بوصفه تكنوقراطيًّا بشخصيّة مختلفة عن الشخصيّات التكنوقراطيّة الّتي كانت جزءًا من السلطة الفلسطينيّة من قبل. جاء فيّاض شخصيّة من خارج «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» ليُعيد ترسيخ مكانة السلطة، وأعتقد أنّ تلك طريقة جيّدة للتفكير وإعادة تصوّر كيفيّة حدوث الأشياء؛ لقد أتى فيّاض ليأخذ العناصر المنطقيّة من حكم السلطة الفلسطينيّة وينزعها من قالب التنظيم السياسيّ المُعتاد ليحوّل السلطة إلى كيان مستقبل للدعم الخارجيّ. وأعتقد أنّ تلك الأفكار الّتي جاء بها هي جزء من خطّ تفكير ينجسم مع أفكار أكبر عن كيفيّة عمل الدول والاقتصادات، وهو ما ينسجم مع منطق التفكير النيوليبراليّ الرأسماليّ السائد.

 

فُسْحَة: عندما أتى فيّاض عام 2007 ظهرت الكثير من النقاشات حول تغيُّرات جذريّة في العقيدة الأمنيّة الخاصّة بأجهزة السلطة الفلسطينيّة، وهذا التوجّه نحو الأمننة يمكن ربطه مع الزيادة الضخمة في موظّفي القطاع العامّ الّتي تحدّثت عنها. هل تعتقد أنّ التوسّع في حجم الأجهزة الأمنيّة كان مخططًا له، أم كان نتاج مرحلة بأكملها أُريدَ منها تحويل المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ من مشروع الدولة الفلسطينيّة إلى مشروع السوق الفلسطينيّة؟

كريم: هذا سؤال تصعب إجابته، وأخشى أنّ إجابتي لن تكون كافية، ولكن أعتقد الإجابة هي نعم ولا؛ فمن جهة أعتقد أنّ ثمّة فاعلين يبذلون جهودًا لفعل أشياء كهذه، ومن ناحية أخرى، أعتقد أنّ ما يفعلونه يظلّ منطقيًّا بالنسبة لهم، وبالنسبة لكيف تُفْهَمُ السياسة من قبل الدول والحكومات ووكالات الدعم اليوم، وكذلك كيف يُفْهَمُ السوق. من غير المنطقيّ وفقًا لتفكيرهم إنشاء قطاع عامّ كبير، أو التركيز على قطاع التنمية، أو بناء مناطق سكنيّة عامّة، ذلك ليس مطروحًا على الطاولة أصلًا. الإجابة هي نعم ولا، أعتقد أنّ ممارساتهم الأيديولوجيّة تعبّر عمّا يؤمنون به فعلًا، والشيء الآخر الّذي يجب إداركه هو أنّ الناس المتحالفين مع وكالات التنمية الدوليّة الكبرى ومنظّمات عالميّة أخرى، لديهم قدرة على فعل الأشياء الّتي لا يستطيع غيرهم فعلها. أعتقد أنّ ما أقوله هو أنّ هؤلاء الناس يعملون مع بعضهم البعض لأنّ ذلك يبدو منطقيًّا بالنسبة لهم، فأن نقول ثمّة خطّة مسبقة؟ نعم، ولكنّها ممارسات أيديولوجيّة تعبّر عن رؤية واحدة. 

 

فُسْحَة: يمكن القول أيضًا أنّ ثمّة قوى برجوازيّة كانت مستعدّة عام 2007 ليظهر منها الأفراد والفاعلين الّذين تصرَّفوا لتحقيق مصالح هذه الطبقة، ومن دون هذه القوى ما كان يمكن تحقيق مشاريع مثل «روابي». هذه القوى كانت حاضرة بعد انتهاء نسبيّ لموجات عنف الانتفاضة الثانية، وهؤلاء الفاعلين أيضًا، وكان عام 2007 لحظة التقاء ما بين الطبقة وفاعليها وما بين الحكومة التكنوقراطيّة الناشئة. ذلك أنّ القول أنّ كلّ شيء كان مخططًا له يعني إنكار فاعليّة الناس العاديين وقدرتهم على المقاومة، فكثيرون كان لديهم مصالح اقتصاديّة لتحقيقها مع البنوك، والبعض قاوم، ولكن بالعموم كان ثمّة مساهمة فلسطينيّة عموميّة في خلق الحالة النيوليبراليّة السائدة اليوم. هل تعتقد أنّ هذه فرضيّة ممكنة؟

كريم: أعتقد أنّها طريقة مثيرة للاهتمام للتفكير بالأمر، كأن نسأل إن كنّا بحاجة إلى بشّار المصري ليحدث هذا كلّه؟ أعتقد أنّ شيئًا مشابهًا كان ليحدث من دونه، ربّما ما كان ليكون مجمًّعا عقاريًّا ضخمًا، ولكنّ إحدى الأشياء الّتي أردت فعلها في الكتاب هي المحاججة ضدّ أنّ هذا كلّه كان مفروضًا من الخارج، بل كان مشروعًا طبقيًّا فلسطينيًّا، وذلك كان هدفي من الكتاب. ربّما ما كان ليبدو مشروعًا عقاريًّا ضخمًا بالطريقة نفسها، ولكنّ يمكن التفكير بأمثلة غير «روابي»، بمشاريع عقاريّة على الدرجة نفسها من الضخامة، وفيها سترى كلّ المصالح المضمّنة الّتي تحدّثت عنها. واحدة من الأشياء الّتي حاولت فعلها هي البحث مثلًا في كيفيّة تغيّر قوانين وكيفيّة استملاك الأراضي من خلال ما يُسمّى بـ «الاستملاك»، حيث ظهرت فجأة سلطة استملاك هائلة لدى المطوّرين على أراضٍ واسعة مكّنتهم من استخدامها كأساس لتمويل مشاريعهم العقاريّة من خلال البنوك الّتي كان صعبًا عليها فعلُ ذلك عندما كان ثمّة أكثر من مالك واحد لقطعة الأرض نفسها. فواحدة من الأشياء الّتي أحدثها التطوير العقاريّ الضخم هي تثبيت ملكيّة واضحة مكّنت البنوك لاحقًا من إطلاق سوق عقاريّة. أن نُسمّى ما يجري أمرًا مفروضًا من الخارج يعني أن نَغْفَلَ عمّا يجري على الأرض، وأنّ هذا كلّه كان ممكنًا بسبب فاعلين فلسطينيّين سياسيّين أو طبقيّين بالدرجة الأولى. من السهل جدًّا قراءة الأدبيّات والقول أنّ السبب هو الجدار، الحواجز، وهذا كلّ شيء، والإسرائيليّين وفقط، لكنّني أعتقد أنّ ثمّة عوامل فلسطينيّة أخرى تساهم في ما يجري.

 

فُسْحَة: أين تقع «روابي» من نمط خصخصة وظائف الدولة، ولماذا هي مركزيّة بالنسبة لتحليلك؟

كريم: أهمّيّة «روابي» في كونها مكان يمكّنك من رؤية كلّ هذه التغييرات. ما أردتُ فعله هو استخدام «روابي» كنموذج تحليل للكشف عن ممارسات وتغييرات سياسيّة تتجاوز النقد المعتاد للمدينة أو للمصريّ نفسه. أعتقد أنّ المدى الضخم للمشروع وكمّ الأموال الّتي تمكّن المطوّرين من جلبها، من قطر بشكل خاصّ، مكّنهم من فعل الأشياء الّتي تحدّثنا عنها من قبل، مثل التغيير في نمط استملاك الأراضي، وإعادة توجيه الدعم الخارجيّ من خلال السلطة الفلسطينيّة إلى القطاع الخاصّ. كذلك ثمّة أهمّيّة للصورة الّتي قُدِّمَت بها «روابي» للفلسطينيّين، ولكن أيضًا في كيفيّة تقديمها في الخارج من خلال التقارير الكثيرة الّتي تناولتها في إسرائيل، أوروبا وأمريكا.

إنّ حجم «روابي» المشروع الّذي أسّس لنمط من التغييرات الّتي حدثت والّتي من الممكن أن تحدث لاحقًا هو الّذي يجعل المشروع مهمًّا. كذلك حقيقة أنّه خلق سابقة في نمط تملّك الأراضي، وفي نمط الطموح أو الآمال، وذلك ما ظهر خلال حديثي مع أحد المشترين الفلسطينيّين المحتملين لعقار في المشروع. كان ذلك عام 2009، قبل أن توجد «روابي» بالفعل، وفورًا بعد الانهيار الماليّ العالميّ الّذي تسبّب به السوق العقاريّ. كان متحمّسًا للانتقال إلى «روابي» لأنّها، كما قال لي، ستمنحه الشعور بالسلام والأمان والاستقرار، فقد اعتقد أنّ اقتراضه لمدّة 30 عامًا ثمن الشقّة هي طريقة لجعل حياته مستقرّة، وهو ما وجدته مفاجئًا بل وصادمًا. قال:"حسنًا، سننتقل إلى هناك، الشقّة جيّدة، المكان جيّدة، ثمّة مساحات للأطفال، وسنعرف أنّنا سنظلّ هناك على الأقلّ لمدّة 30 عامًا. نعرف أنّ لدينا هذه العلاقة بالمكان لمدّة ثلاثين عامًا". وأثناء حديثه عن خططه كان يقارن علاقته المستقبليّة بـ «روابي» بعلاقته برام الله حيث يسكن في بناية سكنيّة تسيل فيها المياه، ولا تتوفّر فيها خدمات صحّيّة جيّدة، ويرى أنّ رهنه العقاريّ لثلاثين عامًا أجل نوع من الالتزام، ولكنّه نوع من الالتزام الجيّد.

وأعتقد، كيف أقول ذلك؟ تلك ليست طريقتي للتفكير بالحياة، ولكن أعتقد أنّ الأمر يستحقّ التفكير به بجدّية؛ أنّ إحدى الإجابات الّتي يملكها الفلسطينيّون على عدم الاستقرار وانعدام الأمان في فلسطين هي الطموح الطبقيّ، وصورة «روابي» من الخارج توفّر ذلك الطموح لهم.

 

فُسْحَة: يمكن القول أنّ ثمّة تحوّلًا من الطموح إلى الوطن، إلى الطموح إلى الملكيّة، في السلوك الفرديّ، فبدلًا من صناعة الذات الفلسطينيّة، ثمّة صناعة للذات الّتي يسمّيها الفيلسوف الكوريّ الألمانيّ تشول بيونغ هان بـ «الذات الإنجازيّة»، حيث تُخضِعُ الذات نفسها لاستعباد ذاتيّ في انتظار الفرصة التالية الّتي تظهر كما يصفها زيغمونت باومان كأنّها فرصة للحرّيّة، ولكن طالما ثمّة فرصة أخرى دائمًا، تتحوّل الفرصة إلى عبوديّة. لست متأكّدًا إن كان تاريخ طويل من العنف واللا استقرار في الضفّة الغربيّة يكفي لتفسير الطموح الفرديّ للوجودي في «روابي» لتحقيق الأمان الفرديّ والاستقرار العائليّ.

كريم: أجل لا أعتقد أنّ ذلك يكفي للتفسير، بل ثمّة عوامل أخرى، أعتقدّ أنّ كلّ هذه العوامل تعمل معًا من خلال عدد كبير من الناس. ما كنت تقوله عن الطموح الفرديّ يعود إلى التقسيم الطبقيّ في فلسطين الّذي يعدّ إحدى المواضيع غير المطروحة بتوسّع فلسطينيًّا. ليس مطروحًا التساؤل عمّا يكون المجتمع الفلسطيني وما الفلسطينيّون بالنسّبة لبعضهم البعض. أعتقد أنّ ثمّة الكثير من السياسات الّتي رُتِّبَت حول فكرة أنّ ثمّة فلسطينيّة Palestiniasness متماسكة، وبالطبع ثمّة عناصر حقيقيّة للتماسك ولذلك السبب لا أزال فلسطينيًّا رغم كلّ السنوات الّتي عشتها في أميركا، لأنّنا جميعًا نتشارك مجموعة من الأفكار والشروط، ولكن أيضًا ثمّة انقسام طبقيّ والكثير من الاختلاف. كانت الطبقة من الأشياء الّتي أردت الحديث عنها في كتابي، ولكن ثمّة عناصر اختلاف أخرى، لكنّ السرديّة الفلسطينيّة هي ما يجعل من الصعب رؤية الأشياء، سرديّة ما هي فلسطين، والسرديّة أيضًا هي إحدى العناصر الّتي تمكّن من وجود شيء مثل «روابي».

 

فُسْحَة: قلت في خاتمة كتابك أنّه "في الوقت الّذي تنمو فيه رام الله في اتّجاهات معيّنة، في مسارات ضيّقة تنكمش الحياة والإمكانيّة الفلسطينيّة في أماكن أخرى"، ما الّذي يعنيه ذلك؟ هل ازدهار رام الله يعني انكماش الحياة الفلسطينيّة في مناطق فلسطينيّة أخرى؟

كريم: كنت أفكّر بما تعنيه الخاتمة عندما كنت أحاول فهم الشتات ونفسي في الشتات، وكنت أفكّر في ذلك السطر تحديدًا واقتباس آخر ذكرته في كتابي عن رام الله يقول أنّها إحدى المناطق القليلة جدًّا الّتي يمكنك فيها أن تعيش بشكل طبيعيّ كفلسطينيّ، بسبب العنف والمخاطر في مناطق أخرى، فعندما نتكلّم عن رام الله تعرف أنّه بالكاد ترى الإسرائيليّين فيها. يمكنك أن تعيش في رام الله حياة عاديّة مختلفة عن أماكن أخرى مثل الخليل، أو القدس، أو قطاع غزّة بالطبع.

ما حاولت فهمه معنى أن تكون «روابي» مثلًا هي المكان الّذي يمكن العودة إليه لو كنت في مكان آخر خارج فلسطين. أعتقد أنّ ثمّة سياسة مكانية Spatial Politics، وهي أيضًا ما حاولت فهمه لتفسير معنى أن تكون هذه الأماكن هي الّتي يمكن العودة إليها. عندما يريد الفلسطينيّون ممّن يمكنهم شراء منزل ثانٍ العودة إلى فلسطين، فسيذهبون إلى رام الله، أو أماكن أخرى قريبة منها مثل «روابي»، فرام الله هي المكان الآمن المستقرّ نسبيًّا.

 

فُسْحَة: لكن أيضًا ثمّة ما ذكرته من قبل عن كيف توجّه السلطة الفلسطينيّة المساعدات الخارجيّة إلى القطاع الخاصّ الّذي بدوره يركّز على مناطق معيّنة من الحياة والوجود الفلسطينيّ. فعندما تتلقى هذه المشاريع بعينها الدعم والرعاية الحكوميّة، ستحرم أماكن أخرى أكثر حاجة منه.

كريم: كنت أتحدّث مع مخطّطين مدنيّين مرّة وكان يتذمّرون من الطاقة والدعم الممنوح لـ «روابي» وهي لا تزال بعد قيد الإنشاء، وقالوا أنّ لدينا مناطق أخرى مسكونة أصلًا، وذلك يُشير إلى المشكلة الّتي طرحتها، ليس فقط في إعادة تحويل الدعم إلى القطاع الخاص، بل أيضًا في منعه عن أماكن مسكونة أصلًا. قال لي المخطّط المدنيّ متذمّرًا:"لماذا نصرف مبالغ كهذه على بناء مدرسة في روابي بينما لدينا أطفال بلا مدارس أصلًا؟"، وعودة إلى الجزء الأوّل من محادثتنا، فإنّ الإجابة عن هذا السؤال بالنسبة للمسؤولين عن خصخصة الحوكمة، هي أنّ القطاع الخاصّ من سيحلّ كلّ هذه المشاكل، لا الحكومة، وتلك هي المشكلة.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.