من المثقّف الفلّاح إلى المشتبك: العودة إلى الأرض

الشهيد باسل الأعرج (1984 -2017)

 

مقدّمة

يصّاعد إلى أذهاننا بعد المشهد الّذي قدّمه الشهيد باسل الأعرج (1984 -2017) باشتباكه مع قوّات الاحتلال، اختفاء المثقّف الفلسطينيّ عن المشهد الثوريّ؛ جرّاء الانسلاخ الفلسطينيّ – الفلسطينيّ نحو الولاء الفصائليّ، حتّى تشكّلت حالة في ذهننا؛ حالة من الركود الثقافيّ مرتبطة ذهنيًّا بالثقافة وسيلةَ توجيه وانتفاض، خاصّة أنّ الصراع الفلسطينيّ ببساطته وشخصيّة ’أبطاله‘، أصبح معقّدًا وغير قادر على احتمال هذا الزخم الهائل من النظريّات والافتراضات والمسمّيات، الّتي حاول الكثيرون من خلالها إيصال صورة من النضال وعن الاستعمار، بصيغ أكاديميّة، أو اجتماعيّة.

حتّى الحاجة الجماليّة الّتي تخترق البيئة العنيفة الّتي ولّدت عند أطفال الحجارة رغبة في الانتقام، تُوجّهنا نحو استرغاب الموت اللطيف، الّذي لا يؤرّق ذاكرتنا المشتّتة. وفي عودتنا إلى الأرض في هذا الوقت من السنة لـ ’جدّ الزيتون‘[1] بعد ’تصليبة‘[2] الشتاء، يصّاعد إلى مخيّلتنا مفهوم ’المثقّف الفلّاح‘، الّذي تحدّث عنه الكاتب الفلسطينيّ بلال عوض سلامة، في كتابه «في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينيّة» (2021)، الّذي يدور حول العودة إلى أصالة القضيّة الفلسطينيّة، باعتبارها قضيّة علاقة الفلّاح بأرضه، وامتزاج هذه العلاقة في سياقنا المقاوم.

 

في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينيّة

كثرت الأبحاث والدراسات الّتي تدرس القضيّة الفلسطينيّة من بُعد أنثروبولوجيّ ثقافيّ، يدور حول الهويّة الفلسطينيّة بصفتها المحور الأساسيّ، استكمالًا لسرديّة الرواية الفلسطينيّة، حول مقوّمات إعادة بناء المجتمع الفلسطينيّ المشرَّد، في ظلّ استمرار الاستعمار الصهيونيّ في فلسطين. وحاولت دراسات عدّة معالجة هذه السرديّة، من خلال الارتكاز على مسألتَي المكان والهويّة، من أجل تجسيد مسألة الهويّة في المخيّمات الفلسطينيّة[3]، وأخرى ركّزت على استكشاف التفاعل بين الروايات المتعدّدة الّتي شكّلت التاريخ الفلسطينيّ، نحو استخلاص جوانب الهويّة الفلسطينيّة[4]، والّتي لا علاقة لها بظهور الصهيونيّة من عدمها، وإنّما ترجع بحسب الكثيرين إلى الفلّاحين الفلسطينيّين وقت حكم الدولة العثمانيّة، عندما انتفضوا في وجه الهيكليّين في عام 1868[5]، ردّة فعل على الطرد من الأرض الفلسطينيّة، مشيرين إلى أنّ هويّة الفلسطينيّ مرتبطة بأرضه قيمة ووجودًا.

الأرض المكوّن الأساسيّ للفلسطينيّ في عمليّة إعادة إنتاج شكل وجوده المعنويّ والرمزيّ والقيميّ، في حين أنّ محاولات السيطرة على الأرض (...) إستراتيجيّة محوريّة لمحو الوجود الفلسطينيّ...

هذا الصراع على الهويّة، الّذي عمل على بلورة الوعي الفلسطينيّ، وإعادة تشكيل كينونته وذاكرته الفلسطينيّة، عبر استهداف الأرض، جزءًا من عمليّة التخلّص من الفلسطينيّ، الّذي ترتبط ذاته بالأرض، وتستخلص لنا مفهوم ’المثقّف الفلّاح‘؛ حيث لا يأتي الوعي الثوريّ دفعة واحدة، وإنّما هو تراكم معقَّد من العنف الهائل والمعاناة المستمرّة، اللذين امتزجا مع الواقع المادّيّ المرتبط بوجود ’استعمار‘ رسّخ التطهير بوصفه نوعًا من شطب الوجود، يقابلها نجدة بأدوات المقاومة والحفر الجينولوجيّ في تاريخ هذه الأرض، إلى أن وصل الفلسطينيّ، في نهاية المطاف، إلى أصالة المقاومة بوسائلها المختلفة، إلّا أنّها ترتكز على الأرض، وتنطلق منها.

 

الفلّاح الفلسطينيّ: أوّل من قاوم

الأرض هي المكوّن الأساسيّ في عمليّة الفلسطينيّ لإعادة إنتاج شكل وجوده المعنويّ والرمزيّ والقيميّ، في حين أنّ محاولات السيطرة على الأرض واستهدافها، هي إستراتيجيّة محوريّة لمحو الوجود الفلسطينيّ، باعتبار الأرض مكوّنًا رئيسيًّا لهويّة الفلسطينيّ. إذ تعود بداية الفعل الوطنيّ والمقاومة، إلى احتجاج الفلّاحين ومقاومتهم للأفكار الصهيونيّة في عام 1886، في قرًى لوبيّة والعبيديّة وبدو الديلاق والزبيدات في منطقة طبريّا، مرورًا بالاحتجاجات الّتي بدأت في عام 1917، وكان السبب هذه الأرض. الفلّاح الفلسطينيّ أوّل من بادر إلى مقاومة مشاريع سلب الأراضي[6].

تكمن المشكلة اليوم في ادّعاء دينيّ صهيونيّ استعماريّ، يرتكز على "وهب الله الأرض لليهوديّ"، وهذا لا يتّسق مع الطبيعة الاستعماريّة الّتي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، والّتي كانت تنطلق من مبدأ أنّ المستعمِر هو الّذي صنع الأرض، واعتماد الصهيونيّة على الرواية الدينيّة، يعني أنّ السياسات الّتي تُطْرَح داخل المؤسّسات الإسرائيليّة تستهدف الفلسطينيّ نحو إبادته بالكامل[7]. عليه تكمن قيمة الأرض الفلسطينيّة في أنّها أسلوب حياة كاملة، مرتبطة بالبنية النفسيّة والجسديّة، وتتفاعل معها الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، ولا تقتصر على وسيلة إنتاج بحسب المفهوم الماركسيّ، وإنّما مرتبطة جذريًّا بصورة الحياة الاجتماعيّة للسكّان الأصليّين، بحسب فرانتز فانون. ويضيف سلامة أنّ علاقة الفلسطينيّ بأرضه هي علاقة تبادليّة متكافئة ومتكاملة، مرتبطة بالحياة نفسها، وهذه العلاقة لا يستطيع أن يستوعبها المستعمِر الرأسماليّ الأبيض، الّذي يتعامل مع الأرض بوصفها سلعة تجاريّة[8].

 

في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينيّة (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)

 

يستكمل سلامة، أنّ ارتباط الفلسطينيّ بأرضه يشكّل جوهره الوجوديّ، وتاريخه بالتوارث، وذاكرة جمعيّة لا تقبل النزاع بالمعنى الإنسانيّ والتاريخيّ، والمساس بها يُعَدّ مساسًا "بالشرف والكرامة"[9]. اعتبر سلامة، أنّ البنية الفوقيّة لنمط الإنتاج في الأرض، وتأثيرها في البنية الاجتماعيّة الفلسطينيّة، باعتبارها نمط إنتاج زراعيّ "شبه إقطاعيّ"، ترتكز على الحمولة الفلّاحيّة والعائلة، والقرية الّتي شكّلت منظّمًا أساسيًّا لحياة الفلّاحين؛ لأنّها توفّر نظامًا من الاعتماد المتبادل، ومصدر حياة مشترَكًا للجماعة مرتبطًا بالأرض، مثل شيخ العائلة، ومسؤول القرية، وبالتالي الوعي بالهويّة الذاتيّة وعوالم القرى الفلسطينيّة مرتبطَين بالبقعة الجغرافيّة الّتي ينتمي إليها الفلّاح، والجامع الأساسيّ لهذه العلاقة هو الأرض.

 

من هو المثقّف الفلّاح؟

بعد العودة إلى أصل الصراع، وكيف تشكّل الأرض المصدر الروحانيّ للشعب الفلسطينيّ، يستخلص الكاتب سلامة مفهومًا مُفكّكًا من شكل الصراع، ألا وهو ’المثقّف الفلّاح‘، رابطًا الجسد الفلسطينيّ وثقافته آنفًا، بقدسيّة الأرض في سياقها الاستعماريّ، معتبرًا مشروع التحرّر يرتكز على حجرين أساسيّين؛ أوّلهما الثقافة الفلسطينيّة، وثانيهما العودة إلى الأرض، انطلاقًا من منظومة الارتباط والانتماء والهويّة؛ لأنّ هدف الدول الاستعماريّة عادة، هو هدم الوجود الثقافيّ للشعوب، عبر إقامة علاقات جديدة، تنبذ السكّان الأصليّين وعاداتهم. مضيفًا أنّ كلّ المفاهيم الّتي دارت حول المثقّف ودوره في المجتمعات الغربيّة، وضعته في مواجهة النيوليبراليّة المتوحّشة وغايتها الاقتصاديّة، متجاهلةً مفاهيم العدالة والمساواة الّتي نادت بها الحداثة. أمّا على الصعيد العربيّ، فقد تأثّر المفهوم بالاستيراد الغربيّ للمفاهيم، وكان تعريف المثقّف يقتصر على البعد الفكريّ والنقديّ لحالة الاستغلال للفقراء والمهمّشين؛ أي أنّ المفاهيم اقتصرت على الوطن والحياة الكادحة[10].

وفي السياق الاستعماريّ، يجب أن يكون شكل المثقّف في الحالة الفلسطينيّة مستندًا إلى المساواة العالميّة، والحقوق المحلّيّة، الّتي لا تقتصر على المفهوم الفيبريّ للمثقّف، في ممارسة دور توعويّ للمجتمع للانخراط في الثورة[11]، أو أن يُشغِل منصبًا في السلطة بحسب غرامشي[12]. وإنّما بإبراز خصوصيّة دور المثقّف في الصراع الاستعماريّ، أوّلها اجتماعيّة-سياسيّة متعلّقة بحياة الفلسطينيّ، والثانية وطنيّة ضدّ الاستعمار، بهذه الكيفيّة، يجري الارتباط بين الثقافة والسياسة في المجتمع الفلسطينيّ؛ فمثلًا اعتبر إدوارد سعيد اعتبر "شكلًا من أشكال الذاكرة مقابل النسيان"[13] للتشديد على أهمّيّتها.

يجب أن يكون شكل المثقّف في الحالة الفلسطينيّة مستندًا إلى المساواة العالميّة، والحقوق المحلّيّة، الّتي لا تقتصر على المفهوم الفيبريّ للمثقّف...

على سبيل المثال، ظهر مفهوم ’المثقّف المشتبك‘[14]، الّذي كانت وظيفته تتمحور حول الوعي بالواقع، والانخراط المجتمعيّ، وتوظيف ثقافته داخل المجتمع، وأخيرًا مقاومة الاستعمار. واستكمالًا لما سبق؛ يتّصل المفهومان ’المثقّف المقاوم‘ بحسب إدوارد سعيد، و’المثقّف المشتبك‘ في مخيّلة باسل الأعرج، مع سرديّة سلامة لمفهوم ’المثقّف الفلّاح‘، من منطلق البنية الفلسطينيّة الفلّاحيّة، وعليه مهمّتان: الأولى أن يكون "مثقّفًا مشتبكًا ومقاومًا" يوظّف فكره ونقده في ممارسة الاستعمار وتفكيكه، إضافة إلى حفظ الذاكرة الجمعيّة وصيانة الهويّة الوطنيّة، والمهمّة الثانية موجّهة نحو الداخل الفلسطينيّ، المتمثّلة في نقد التكلّس الاجتماعيّ والثقافيّ وتفكيكه، الّتي وضعته في خانة السبات الاستعماريّ؛ لأنّ الصراع يكمن حول الأرض، والبنية الفلّاحيّة هي أساس الخلفيّة الفلسطينيّة[15].

المثقّف الفلّاح لا يقتصر على البنية الفلّاحيّة، أو أن يكون منتميًا إلى طبقة الفلّاحين، وإنّما القصد هو الوعي المشترك في السياق الاستعماريّ الّذي يتمحور حول أصالة الصراع، وهي الأرض، ودليل ذلك أنّ المستعمِر أخرج السكّان من أرضهم؛ لمنعهم من استمداد المعرفة من الأرض، وعلى هذا الأساس سقط الشهيد والأسير والجريح.

 

خاتمة

خطّ لنا قائد عرين الأسود الشهيد وديع الحوح جملة سردها في لقاء صحافيّ مع موقع «ألترا فلسطين»: "مقاتلو «عرين الأسود» يهتمّون بحرب الثقافة أكثر من السلاح، ولا يجوز لحامل البندقيّة أن يكون غير مثقّف؛ فحربنا معهم هي حرب وعي". هذه الجملة الإدراكيّة الّتي تختزل فيها كلّ محاولاتنا التحرّر من الاحتلال؛ فكيف يمكنك أن تحمل سلاحًا لتواجه مستعمِرك، دون إحاطتك بماهيّة القضيّة؟ والثقافة هنا الّتي قصدها وديع ليست المتعلِّقة بالتنظير السياسيّ أو الثقافيّ، وإنّما أصالة مشروعك التحرّريّ، المرتبط بالأرض باعتبارها الدافع الأساسيّ لمقاومتك؛ لأنّها المكوّن الرئيسيّ لثقافة الشعب الفلسطينيّ الفلّاح. لا يمكننا أن نتجاوز هذا المكوّن صوب المقاومة، متجاهلين أوراق الزيتون على أكتافنا ورائحة البرتقال بين أصابعنا. كلّ هذا الوعي يخرج حالما نصدّر للاحتلال هذه الروائح والمشاهد عبر وعي ليس فرديًّا، وإنّما جماعيّ متكامل، مصدره الأرض، منبعثًا منها، عائدًا إليها. لذلك قال باسل الأعرج: "إذا كنت مثقّف ومش مشتبِك، لا منّك ولا من ثقافتك".

 


إحالات

[1] ’جَدّ‘، مصطلح فلّاحيّ فلسطينيّ، يُسْتخدَم فقط مع ثمار الزيتون، وموسم حصاد الزيتون، الّذي يعني: حان الآن موعد قطف الزيتون حسب التوقيت الفصليّ.

[2] ’التصليبة‘، هي سقوط الأمطار وقت موعد قطف الزيتون، جاء هذا المفهوم بربط الإنسان الفلسطينيّ لموسم زراعته حسب التقويم الميلاديّ الشرقيّ، المتعلِّق بالأعياد، حيث يصادف موعد قطف الزيتون موعد «عيد الصليب» بعد 14 أيلول (سبتمبر)، حسب التقويم الميلاديّ الشرقيّ.

[3] آري كنودسن، ساري حنفي، (محرّرون)، اللاجئون الفلسطينيّون في المشرق العربيّ: الهويّة والفضاء والمكان، ترجمة: ديما الشريف (الدوحة/ بيروت، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).

[4] رشيد الخالدي، الهويّة الفلسطينيّة: تكوين الوعي الوطنيّ المعاصر (نيويورك: جامعة كولومبيا، 1997).

[5] بلال سلامة، في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينيّة (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص 41.

[6] مرجع سابق، ص 8-9.

[7] مرجع سابق، ص 15-16، يُنْظَر: فرانز فانون، معذّبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ط3، (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص 46.

[8] بلال سلامة، مرجع سابق، ص 17.

[9] مرجع سابق، ص 27-28.

[10] مرجع سابق، ص 115-120.

[11] شاكر حسن، في السؤال: من هو المثقّف؟، كنوز نت، تمّ النشر: 28/6/2021، تمّ الدخول: 29/11/2022، عبر: https://rb.gy/i8ezqu.

[12] أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن، الحوار المتمدّن، تمّ النشر: 12/5/2019، تمّ الدخول: 29/11/2022/ عبر: https://rb.gy/idzkzn.

[13] محمّد عبد الهادي كشت، ""تمثيلات المثقّف المقاوم": صورة المثقّف في فكرة إدوارد سعيد"، مجلّة قلمون، العدد 5، (نيسان-أبريل 2018)، ص 218.

[14] باسل الأعرج، هكذا تكلّم الشهيد باسل الأعرج (القدس: دار رئبال، 2018).

[15] بلال سلامة، مرجع سابق، ص 121-124.

 


 

أحمد بسيوني

 

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، درس ماجستير «العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». ينشر مقالاته في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، شارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة مع «التلفزيون العربيّ».