رسائل الجدّ جويس إلى الحفيد ستيفن

جيمس جويس وحفيد ستيفن

 

أن تقرأ قصّة أطفال كتبها جيمس جويس لحفيده، لا يعني أبدًا أن تأخذ استراحة قصيرة متخلّصًا من عوالم جويس المعقّدة. قد تكون هذه استراحة من تعقيداته اللغويّة، المرحة والمدوّخة، إلى حدّ كبير، لكنّ بصمة جويس فيها تعود وتظهر من جديد في ميتامورفوزا طفوليّة تحتاج، هي الأخرى، إلى تروٍّ وطول صبر.

 

أسرار

الأسرار الصغيرة - العظيمة التي قضى جويس عمره يحشو نصوصه بها عن سبق إصرار، هي رأسماله الحقيقيّ عند القرّاء والنقّاد؛ فهي وحدها التي ستضمن، كما يقول جويس، بقاءه حيًّا: 'لقد وضعت ألغازًا وأحاجي كثيرة ستشغل بال الأساتذة قرونًا من الزمن وهم يتناقشون حول مقاصدي، وهذه هي الطريقة الوحيدة لكي أضمن خلودي'.

ومن يلج عوالم جويس الصغيرة - عوالم كتابة قصص الأطفال – سيكتشف، أيضًا، وهج جويس الذي اعتدنا عليه: الهجوميّة والإيرونيا، والنقد باقتصاد وحذر. لأنّه كلام يوجّهه جويس، هذه المرّة، إلى جمهور ينبغي أن يكون حذرًا معه أكثر من أيّ جمهور آخر: حفيده الوحيد ستيفن، الشخصيّة التي انطبعت في عدّة أعمال لجويس.

ففي عام 1932، كتب جيمس جويس قصيدة مع مجيء حفيده ستيفن إلى العالم، والذي صادف رحيل والد جويس. 'هو ذا الطفل'، قصيدة قصيرة جدًّا، تصوّر حالة انتقال رجل (هو جويس) من كونه ابنًا إلى كونه جدًّا، وتخبّطه بين فرح الحياة وغمّة الموت، مدركًا، في النهاية، ضرورة المصالحة والصفح.

 

قطّ بوجينسي

وفي العاشر من آب عام 1936، يعود جويس إلى حفيده ستيفن، ابن الرابعة والنصف، ليخطّ له رسالة قائلًا فيها: 'عزيزي ستيفي: أرسلت إليك قطّة صغيرة محشوّة بالحلوى قبل أيّام، لكن لعلّك لا تعرف القصّة التي تدور حول قطّ بوجينسي'.

تعود هذه القصّة إلى أسطورة معروفة، هي أساطير 'جسر الشيطان' من القرون الوسطى، والتي تحكي، دائمًا، حكاية الشيطان الذي يساعد أهالي البلدة على بناء جسر، مقابل أن يمنحه عمدتها أوّل روح تخطو فوق الجسر، وتنتهي الأسطورة، عادة، بتقديم روح حيوان للشيطان الذي يستشيط غضبًا من الحيلة.

 

من 'جسر الشيطان'

 

يختار جويس في رسالته قرية بوجنسي الفرنسيّة، وهي قرية صغيرة في إقليم لواريت، تقع على ضفاف أطول نهر في فرنسا، الذي يحمل الاسم نفسه. سكّان القرية لا ينجحون في عبور النهر إلى الضفّة الأخرى إلّا عبر قارب، ولا يملكون ثمن بناء الجسر. يتطوّع الشيطان لبناء جسر عظيم مقابل تسليمه أوّل شخص يخطو فوق الجسر، وعندما ينتهي من بنائه في ليلة كاملة، يهرع سكّان القرية إليه مندهشين من روعته، من دون أن يتجرّؤوا على عبوره. يتدخّل العمدة حاملًا قطًّا في يد، وسطل ماء في اليد الأخرى، ليرشق القطّ بالماء فيقفز إلى حضن الشيطان، مخلّصًا أهل القرية من وعده للأخير.

لا توجد عند جويس كتابة فائضة عن الحاجة؛ كلّ الكلام محسوب بمسطرة من حديد. الشيطان شخصيّة موزونة، ومثقّفة تقرأ الصحف، ومحطّ إعجاب مهما بلغت درجة شرّه. العمدة هو المخلّص، لكنّه، على عكس الشيطان، لا يفلت من سخرية جويس، ولا عجب في ذلك. يظهر عمدة البلدة في مقطع من الرسالة مقابل الشيطان كالآتي: 'تناهى إلى مسامع الشيطان، الذي يقرأ الجريدة، عادة، وضعهم المحزن، فهيّأ نفسه وذهب ليزور عمدة بوجينسي الذي كان يُدعى مسيو ألفريد بايرن. كان هذا العمدة مولعًا جدًّا بتأنيق نفسه أيضًا، فقد ارتدى ثوبًا قرمزيًّا، وكانت سلسلة ذهبيّة كبيرة حول عنقه، حتّى وهو نائم في السرير وركبتاه في فمه'.

ألفريد بايرن، لم يكن سوى عمدة دبلن وقتها، والذي اختير تسع مرّات ليكون في هذا المنصب. لا نجد لبايرن ذكرًا في سيرة جويس التي كتبها ريتشارد إلمان، ولا نلمح حتّى إشارة واحدة حوله في هذه الرسالة، إلّا في رسالة كتبها جويس إلى ابنه جورجيو عام 1935 على نحو عابر، وهذا يؤكّد أنّه لم تكن أيّ صلة بين جويس وعمدة دبلن، لكنّ جويس لا يتورّع عن تكرار ذكر سلسلته الذهبيّة بسخرية.

في هذه الحكاية البسيطة، المأخوذة من تراث أساطير 'جسر الشيطان'، يحاول جويس أن يبني حكاية من تراكمات خياليّة وتحويرات فنّيّة، دامجًا بين المرح والسخرية والنقد السهل الخفيف، ولم ينس كذلك أن يلعب لعبته اللغويّة المعتادة على لسان الشيطان الذي يتوجّه إلى الناس، ثمّ إلى القطّ، بلهجة فرنسيّة محرّفة. يدّعي جويس، بخفّة مرحة، أنّ الشيطان يتحدّث بلغة من اختراعه، لكنّه عندما يغضب يتحدّث بلغة فرنسيّة سيّئة جدًّا، ومن يسمعه يتحدّث يقول إنّه يمتلك لهجة دبلنيّة قويّة.

 

قطط كوبنهاجن

في الخامس من أيلول عام 1936، يكتب جويس رسالة أخرى إلى حفيده ستيفن، الذي كان وقتها في فرنسا، بينما كان جويس في إجازة في الدنمارك. يفتتح جويس رسالته قائلًا: 'للأسف! لا يمكنني أن أرسل إليك قطّة من كوبنهاجن، فلا قطط في كوبنهاجن'.

لم يقصد جويس القطط العاديّة، بالطبع، بل الحلوى التي أرسلها إلى حفيده مرّة ولم يجدها في كوبنهاجن، بل وجد الأسماك والدرّاجات ورجال الشرطة والجرذان، لكنّه لم يجد قططًا كالتي أرادها ستيفن.

 

من 'قطط كوبنهاجن'

 

على عكس حكاية القطّ والشيطان التي احتوت على حبكة وحوار وحركة، لا نجد في حكاية 'قطط كوبنهاجن' إلّا نصًّا فوضويًا متقطّعًا مرحًا إلى حدّ كبير، بلا خطّ فنّيّ سرديّ يمسكه؛ مقاطع قصيرة سورياليّة لا دخل لها ببعضها، على شاكلة: 'لا يوجد رجال شرطة'، و'فتية صغار يرتدون الأحمر ويركبون درّاجاتهم، وطوال النهار يحملون البرقيّات والرسائل والبطاقات'، و'كلّ رجال الشرطة الدنماركيّين يقضون نهارهم في البيت في السرير. يدخّنون السيجار الدنماركيّ الكبير، ويشربون مخيض اللبن طوال النهار'، و'فتيات يرغبن في معرفة شيء عن القمر'. أشياء ليست في مكانها في هذه المدينة، توصيفات عبثيّة وفوضويّة لا يمكن إلّا لقصّة أطفال أن تسعها، حيث يصبح للفوضى والخيال معنى طفوليًّا مشرعنًا عند الجميع.

حكاية تبدو طفوليّة، لكنّها ليست ساذجة على الإطلاق، ويختفي من ورائها هجوم على 'القطط السمينة' البشريّة التي يجدها جويس في كلّ مكان، أو نقده الدائم للسلطة والنظام ولأصحاب المال والقوّة، كما تقول الناشرة أنستاسيا هربرت (أيثيس برس).

 

مرح جويسيّ

اللوحات المرسومة (كاسي سورو وجيرالد روز) لكلتا الحكايتين اللتين جاءتا على شكل رسائل في أصلهما، تبيّن مرحًا جويسيًّا، ولمسات من العبث ومن الرؤية الأسطوريّة. شيء ما يتناسب، إلى حدّ كبير، مع رؤية طفوليّة، لكنّها معجونة إلى حدّ كبير  بروح جويسيّة لاذعة مختفية تحت الأسطر وتحت اللوحات. هذه الحكايات تحتاج إلى قارئ عاديّ بلا شكّ، وإلى طفل ذكيّ لتُفهم.

لا تشكّل هذه القصص منعطفًا حادًّا في محطّات جويس الأدبيّة، ولا تعني أنّه أعظم كاتب قصص أطفال، لكنّها تثبت لنا، من جديد، قدرة جويس على تطريز ثياب صغيرة جدًّا بخيال واسع جدًّا، وعوالم من الفوضى والشرّ، ونقد ما تراه العين، وتحويرات مختلفة للواقع وللأمكنة التي زارها في حياته. هذه الحكايات ما هي إلّا أسرار كبيرة في جيوب صغيرة، تحتاج إلى أكثر من قراءة لنكتشف الفائض المعنويّ من وراء الاقتصاد الوصفيّ عند جويس.

***

حكاية القطّ والشّيطان

رسالة جويس إلى حفيده ستيفن

(10 آب 1936)

 

عزيزي ستيفي،

 أرسلت إليك قطّة صغيرة محشوّة بالحلوى قبل أيّام، لكن لعلّك لا تعرف القصّة التي تدور حول قطّ بوجنسي.

بوجنسي بلدة قديمة صغيرة تقع على ضفّة نهر لوار، أطول نهر في فرنسا. إنّه، أيضًا، نهر رحيب جدًّا، بالنسبة لفرنسا على الأقلّ. النهر في بوجنسي رحيب للغاية إلى درجة أنّك لو أردت أن تعبر من ضفّة إلى الضفّة الأخرى، عليك أن تخطو ألف خطوة على الأقلّ. قديمًا، اضطّرّ أهالي بوجنسي، كلّما أرادوا عبوره، أن يقطعوه بقارب، فلم يكن هناك جسر. ولم يكن في مقدورهم أن يشيدوا لأنفسهم جسرًا أو يدفعوا لأحد من أجل تشييده. فماذا فعلوا؟ 

تناهى إلى مسامع الشيطان، الذي يقرأ الجريدة عادة، وضعهم المحزن، فهيّأ نفسه وذهب لزيارة السيّد عمدة بوجنسي، المسمّى مسيو ألفريد بايرن. كان هذا العمدة مولعًا جدًّا بتأنيق نفسه أيضًا، فقد ارتدى ثوبًا قرمزيًّا، وكانت سلسلة ذهبيّة كبيرة حول عنقه، حتّى وهو يغطّ في السرير وركبتاه في فمه.

أخبر الشيطان السيّد العمدة ما قرأه في الجريدة، وقال إنّ في مقدوره أن يشيد جسرًا لأهالي بوجنسي كي يتمكّنوا من عبور النهر متى رغبوا في ذلك. قال إنّ في مقدوره أن يشيد جسرًا بأفضل حال، وأن ينجزه في غضون ليلة واحدة.

سأله السيّد العمدة كم من المال يريد لقاء تشييد جسر كهذا. لا مال إطلاقًا، قال الشيطان، كلّ ما أطلبه أن أمتلك أوّل شخص يعبر الجسر. حسنًا، قال السيّد العمدة.

حلّ الليل، وأوى جميع أهالي بوجنسي إلى الفراش وناموا. طلع الصباح، وعندما أطلّوا برؤوسهم من نوافذهم صاحوا: أوه يا لوار، ما أجمل الجسر! فقد رأوا جسرًا متينًا وجميلًا ممتدًّا على طول النهر الرحيب.

انطلق جميع الناس إلى أعلى الجسر وأجالوا النظر على طوله. كان الشيطان هناك، يقف في الجانب الآخر من الجسر، ينتظر الشخص الأوّل الذي سيعبره. لكنّ أحدًا لم يجرؤ على عبوره خوفًا من الشيطان.  ثمّ سُمِع صوت أنفار - كانت هذه إشارة للناس بالتزام الصمت - وظهر السيّد العمدة بثوبه القرمزيّ، وسلسلته الذهبيّة الثقيلة حول عنقه. كان يحمل سطلًا من الماء في يد، وتحت ذراعه - الذراع الأخرى - تأبّط قطًّا.

توقّف الشيطان عن الرقص عندما رآه من الجانب الآخر للجسر ووضع منظاره. كلّ النّاس تهامسوا، وتأمّل القطّ السيّد العمدة ذلك، لأنّه كان مسموحًا في بلدة بوجنسي أن يتأمّل القطّ السيّد العمدة. عندما تعب من تأمّل السيّد العمدة (حتّى القطط تكلّ من النظر إلى السيّد العمدة) أخذ يلهو بسلسلة السيّد العمدة الذهبيّة الثقيلة.

لمّا بلغ السيّد العمدة قمّة الجسر، حبس كلّ امرئ نَفَسَهُ ولزمت كلّ امرأة الصمت. وضع السيّد العمدة القطّ فوق الجسر وبسرعة الفكرة، رشّ الماء! أفرغ ماء السطل عليه.

القطّ الذي كان يتوسّط الآن الشيطان وسطل الماء، اتّخذ قراره بسرعة ولاذ بالفرار، فيما أذناه إلى الخلف على طول الجسر وبين ذراعي الشيطان.

استشاط الشيطان غضبًا كالشيطان نفسه. صاح على طول الجسر قائلًا:Messieurs les Balgentiens، vous n’ etes pas de belles gens du tout! Vous n’ ete que des chats!*

ثمّ قال للقطّ: Viens ici, mon petit chat! Tu as peur, mon petit chou-chat! Viens ici, le diable t’ emporte! On va se chauffer tous les deuex.** ، وغادر مع القطّ.

ومنذ ذلك الوقت يُدعى أهالي تلك البلدة le chats de Beaugency***

لكنّ الجسر لا يزال هناك، وثمّة صبية يسيرون ويركبون ويلعبون فوقه.

أتمنّى أن تروق لك الحكاية.

نونو

ملاحظة: يتحدّث الشيطان في الغالب بلغة تخصّه تُدعى بيليسبابل، وهي لغة من اختراعه فيما هو يتابع،  لكنّه متى غضب أجاد الحديث بالفرنسيّة الرديئة، على الرغم من أنّ بعضًا ممّن سمعوه، يقولون إنّه يمتلك لهجة دبلنيّة قويّة.

.....

* أنتم يا أهالي بوجنسي، من الآن فصاعدًا سيُطلق عليكم لقب الأهالي بروح قطّ! (فرنسيّة محرّفة).

** تعال، يا قطّي الصّغير. لا تخف منّي، يا قطّي الصغير. هل تشعر بالبرد، يا قطّي الصغير؟ تعال، تعال، سيصطحبك الشيطان إلى جهنّم، حسنًا؟ هناك سنشعر بالدفء قريبًا. (فرنسيّة محرّفة).

*** قطط بوجنسي (فرنسيّة محرّفة).

 


 

ريم غنايم

 

 

شاعرة ومترجمة وباحثة من فلسطين، عملت محرّرة مشاركة في منابر أدبيّة ثقافيّة فلسطينيّة، وتكتب في الملاحق الأدبيّة والثقافيّة العربيّة. صدر لها شعرًا: 'ماغ: سيرة المنافي' (2011) و’نبوءات‘ (2015). ترجمت نخبةً من الأعمال السرديّة والشعريّة العالميّة إلى العربيّة والعبريّة، أمثال شارلز بوكوفسكي، بابلو نيرودا، اوكتافيو باث، أليس ووكر، ريتشارد رايت، جاك كيرواك، شارون أولز، وغيرهم.