مختبر الشاعر

على الرغم من قدم عهد الجملة الشعريّة في تاريخ الحضارة الإنسانيّة، إلّا أنّه ما من تعريف واضح أو ثابت للشعر، أو ما يوصف به الحراك الجماليّ المنتج لتركيبة من الكلمات ذات الخصائص التي ترتقي للفظ 'الشعر'.

كيف؟!

حاول كثيرون وضع تعريف للشعر، لكنّهم لم يقدّموا سوى رؤيتهم الذاتيّة، لا سيّما مَنْ هم في هرولة مستمرّة في مدار الشعر والجملة الشعريّة. وتلك الرؤية نبعت من صفة تخييليّة خاصّة يمتلكها الكاتب، وهو مفهوم صادر من منطقة المختبر اللغويّ الذي يخيّل فيه من أجل صناعة ما يسمّى 'مفهوم  للشعر'. قال كريستوفر فراي: 'الشعر هو اللغة التي يستكشف فيها الإنسان دهشته'، وقال إدموند بيرك: 'الشعر هو فنّ تجسيد الظلال'، وقال سومرست موم في تعريفه للشعر: 'الشعر هو تاج الأدب. إنّه الغاية والهدف. إنّه أرقى أشكال النشاط العقليّ. إنّه بلوغ الجمال والدقّة. وليس بوسع كاتب النثر إلّا أن يتنّحى حين يمرّ الشاعر'، وقد عرّفه باتريك سيل بالقول: 'الشعر نار مجمّدة'. وثمّة الكثير من التعريفات التي طرحها الشعراء لوصف الشعر، لكنّها تدور في نطاق الطرح الخاصّ.

العرب قديمًا، أعادوا صناعة الشعر للإلهام والجنّ، أمّا الأوروبيّون، فاشتقّوا لفظ poet  من اللغة اليونانيّة، وهو لفظ يعني المُخَلّق. وتشير بعض الدراسات الحديثة حول الشعر إلى انقراض مفهوم الإلهام الذي تبنّاه العرب لفترات طويلة؛ فالشاعر يمتلك صفات خاصّة، لكنّها لا تدخل منطقة الخرافة، فالموهبة التي يتمتّع بها الشاعر تُنَمّى، تدريجيًّا، بالعمل عليها وتزويدها بالخبرات والأدوات اللازمة التي تمكّنه من تفعيل جهد ذهنيّ حيويّ للحصول على جملة فنّيّة جديدة وفريدة.

ولعلّ ما يهمّ المتلقّي، عادة، معرفة كيف يصنع الشاعر قصيدته! ولعلّه السؤال الأصعب الذي يمكن أن يوجّه لشاعر ما، إذ أنّ القصيدة منطقة أكثر خصوصيّة من كيفيّة صناعتها ونتيجة هذه الصناعة؛ فالشاعر لا يعرف سياجًا من الممكن أن يحقّق له العزلة الكاملة التي تمكّنه من خلق عالمه الجماليّ، ولا أرضًا تحمل اللغة التي تلقيها عليه الجملة الشعريّة شديدة الخصوصيّة التي سيواجه بها العالم، فعلًا عاطفيًّا لم يلمسه أحد من قبل، وهو يفكّر في خطوة أبعد لفكره وجماليّة لغته، ليعود منتصرًا من منطقة التخييل الخاصّة به، وهو يحمل تعبيرًا فردانيًّا للبشريّة، على أنّه أفضل احتمال لغويّ اتّخذته الفكرة.

طفل سباعيّ

كثيرًا ما يتورّط الشاعر في منطقة التيه، كأن يتمكّن من الاستعداد الكامل للكتابة، ويمارس كلّ الطقوس التي اعتاد عليها وقت شروعه فيها، فعلًا حركيًّا ونفسيًّا، ثمّ يعود فارغًا من طاقته، لكن من دون أن ينتج النصّ الذي كان يصبو إليه في مختبره اللغويّ. وثمّة الكثير من النصوص الشعريّة، في المقابل، قد جاءت كولادة طفل سباعيّ، فيلقيها خيال الشاعر وكأنّه يريد التخلّص من حمل ثقيل، لطالما أرهقه وزاده وهنًا وضعفًا؛ فقد يكون الشاعر في عمله، أو في رحلة للّهو، أو أثناء حمّامه اليوميّ، وتلك الأفعال خارج نطاق الطقوس التي اعتادها من قبل لكتابة نصّ يراه هو شعرًا.

نستطيع القول إنّ الشعر يحمل خصوصيّته، وهو من يفرض شروطه على الشاعر، وهو من يحدّد ميعاد ولادته، وهو من يعتقل الشاعر أينما كان ويختطفه من العالم، وكأنّه كائن خفيّ أقوى من صاحبه، دومًا. الشاعر الذي يحمل من الهشاشة ما يمكنه من تصدير القوّة الفكريّة إلى العالم أجمع، هو الذي يقتات التأمّل، وقد يمضي يومه حزينًا، فقط لأنّه لمح عشبة قد جفّت، أو فرحًا لأنّ أخرى قد نبتت، أو حجرًا تكسّر على هامش الطريق. هو الشاعر، دومًا، يعيش بين الهوامش ليلتقط ما يغفل عنه المارّون في العالم.

هذيان/ بوح

حتّى في ما يتعلّق بالموضوع الذي تعتمد عليه صناعة القصيدة لدى الشاعر، فإنّ الأمر غاية في التفلّت، فالقصديّة ليست في قبضة الشاعر بقدر ما هي في قبضة القصيدة ذاتها، وشعراء كثر تصدر القصيدة عنهم على شكل هذيان، كأن يولد طفل للعالم دون إطار يحدّد جسده، فيبدو ضمن معايير الوجود الإنسانيّ. وثمّة فارق بين الهذيان والبوح، فالقصيدة فعل بوح له شروط تجعل الكلام شعرًا، وليس للشاعر سلطة إلّا في الحذف والترتيب والتقليم الجماليّ بعد أو أثناء ولادة النصّ، وهنا يلعب دور الناقد الخاصّ لذاته الشعريّة، ولما قام به من فعل البوح، وبحياديّة المتلقّي. أمّا الهذيان، فهو كلام مشوّه لا يأخذ القارئ إلى منطقة فكريّة سليمة تمكّنه من خلق تأويل متقبّل للنصّ، والوصول إلى المكان الذي أراده كاتب النصّ، أو حتّى أبعد ممّا أراد.

تلك العمليّة المعقّدة التي يصدر عنها الشعر، تجعل الإجابة عن أسئلة كثيرة متعلّقة بماهيّة الشعر وكيفيّة تخليقه، أمرًا غاية في الضبابيّة لدى الشاعر، وكأنّه يرى جسدًا هلاميًّا أمام عينيه، لكنّه يعجز عن توصيفه، وهو أمر يجعل تناول الشاعر لإحداثيّات كتابة النصّ، كأنّه، تمامًا، يضع نقطة في الهواء ويطلب من المتلقّي أن يراها معه، فلكلّ نصّ طريقة خاصّة في التخليق، وظروف مختلفة في الصياغة. وفي كلّ مرّة يتنفّس الشاعر الصعداء، بينما يلقي نصّه الذي لا يعرف، هو أيضًا، آليّة محدّدة لتكراره.

حاسّة

يعتاد الشاعر أن يراقب التغييرات التي تطرأ على الأشياء بوجع المفارق، وكأنّ كلّ الأشياء في العالم المتساقط تخصّه، وكأنّ كلّ العالم بسخافته وجماله وقوّته وضعفه، تكوّر في قفص الشاعر الجسديّ الهزيل، ويتقطّر منه على شكل تعرّق مليء بالجمال وقت اشتداد الحمّى.

الشاعر لا يكاد يحصي حواسّه التي  تلامس الأشياء، أشياء يلمسها من خلال حاسّة الشعر والشعر فقط، هذا الحراك الذي أسماه رامبو بـ 'الرؤيا'، والتي من خلالها يقوم الشاعر بتعطيل حواسّه جميعها، والاقتصار على التبصّر في معرفته للكون من حوله.

لطالما كان الشعر فعلًا تورّطيًّا مفرطًا في النقاء؛ فالشاعر يلقي بنفسه في عوالم من الشوائب، يحصل على المادّة الخامّ، ويعيد الأشياء إلى أصلها تارة، ويصنعها على شاكلة التضخيم تارة أخرى، وفق الحالة التي ترغبها روح القصيدة وبنيتها.

حبيبات سوداء

تلك الحبيبات السوداء التي تظهر على قشرة الموز، والتي تعطي لهذه الثمرة جمالًا خارجيًّا، وتنمّ عن نضجها ولذّة مذاقها وجمالها الداخليّ، تشبهها حبيبات الشعر التي يعبّر الشاعر عنها، فينقل ما يدور داخله من جمال موسيقيّ في أرقّ صورة ممكنة. الجمال الذي يسري في جسد القصيدة، لا يمكن أن يكون متماثلًا لدى كلّ الشعراء، فلكلّ شاعر طريقته الخاصّة في التنقّل في مختبره الذاتيّ، ولكلّ منهم تكوينه الفردانيّ، الذي يصدّر منه جماله الخاصّ من خلال تأمّلاته العميقة للصور المتتابعة التي تفرزها الطبيعة والحياة، ولكلّ قصيدة أرضها التي تنبت منها، لتصير إضافة فريدة إلى تراث الجمال في العالم.

المختبر الخاصّ للشاعر يدخله ولا يعرف كيف دخله، ولا حتّى كيف خرج منه، ولا ماذا وجد فيه من معدّات، ولو أدخل العالم كلّه إليه، سيخرج هذا الحشد اللا متناهي وقد أرهقهم كمّ التناقضات من الخراب والجمال، وقد حزنوا، جميعًا، لحال الشاعر وهو يطارد بينهما مثل شحنة بين قطبين، من أجل أن يستمرّ الشعر في طريقه، نحو إكمال دورته في هذا الكون.

 

حسام معروف

 

من مواليد غزّة عام 1981. شاعر ومحرّر. يدير أنشطة مجلّة 28 الغزيّة، وهو عضو في هيئة تحريرها. يدير صفحة بيانات الأدبيّة على فيسبوك، وهو عضو مؤسّس في التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة 'يوتوبيا'. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة بعنوان 'للموت رائحة الزجاج'. ينشر في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.