"مأساة السيّد مطر": رمزيّة الوجود والشكّ

عاصفة بحريّة | Josipa"S Art

'مأساة السيّد مطر' (2016) رواية للكاتب مجد كيّال، الذي بوّبها في أربعة فصول: الولادة، والطفولة، والورطة، والموت، وهي صادرة عن الأهليّة للنشر والتّوزيع، وتقع في مئة واثنتين وعشرين صفحة من الحجم المتوسّط.

أسلوب الكاتب في الرواية 'سهل ممتنع' وغير نمطيّ في الوقت ذاته، فهو يوظّف الرمزيّة، ويلجأ كثيرًا إلى التناصّ، فيستشهد بآيات قرآنيّة وأساطير إغريقيّة وغيرها، ويستخدم اللغة بسيطة، التي تفتقر، أحيانًا، إلى البلاغة، لكنّ ذلك لم يمنع من أن تكون الرواية عميقة المضمون، وقد تحتاج إلى أكثر من قراءة لسبر غورها.

وجوديّة وشكّ

يستهلّ كيّال روايته، في فصل 'الولادة'، بالرغبة الإنسانيّة؛ ' في البدء كانت رغبة الإنسان في السباحة، ثمّ كان البحر أزرق هادئًا' (ص7)، مقولة تحمل دلالات فلسفيّة، وكأنّ لسان حال الكاتب يقول: إنّ الرغبة تسبق الوجود؛ طرح فلسفيّ يذكّرنا بالمذهب الوجوديّ لسارتر، الذي يرى بالوجود سابقًا للتعريف.

وورد في سياق آخر أنّ 'السقف عالٍ دون نهاية، يطلّ منه الله وملائكة، ينتظرون أن يتبدّد الغبار...' (ص21)، وهو معتقد سائد في المجتمعات الدينيّة، وكأنّ الذات الإلهيّة تطلّ علينا من علٍ، يقابله معتقد آخر يرى أنّ الذات الإلهيّة موجودة في كلّ مكان، وهي مسألة طالما بحثها رجال الدين والفلاسفة؛ هل الإله ذات أم معنى؟  

وينهي الكاتب فصل 'الولادة' بقوله: 'كان كابوسًا في غيبوبة لامرأة أجهضت لتوّها...' (ص 26)، وكأنّ هذا إيضاح للمشاهد الضبابيّة غير الواضحة في الفصل الأوّل، التي اكتنفتها اللهجة القريبة من الغنوصيّة – إن جاز التعبير -، ما يُدخل القارئ في طلاسم وعالم مبهم، كأنّه يعايش الحلم أو الكابوس. فالسيّد مطر شخصيّة لم تولد بعد، أجهضته أمّه رقيّة حين الولادة، بيد أنّه أدّى دور الشخصيّة المركزيّة والمحرّكة في الرواية؛ 'لم يكن سيّد قد وُلد ليعرف إن كانت تلك حياته الحقيقيّة أم أنّها مجرد حلم' (ص27). مشهد التمييز الإدراكيّ – إن جاز التعبير - بين الواقع والحلم، وكأنّ مجريات الكون بأسره حلم كبير، يذكّرنا بالشكّ الديكارتيّ؛ 'أنا أفكّر، إذًا أنا موجود'. وعلى غرارها استخدم كاتبنا 'أنا أتألّم، إذن هو موجود' (ص77)، كما لم يُصْغِ السيّد مطر إلى قصّة جدّته، بل كان يشكّك بالحقائق' (ص 31).

سياسيّة واجتماعيّة

على الرغم من قصر الرواية، نسبيًّا، من حيث الأحداث وفعل الشخصيّات ووصفها، إلّا أنّ الكاتب يطرح أو يشير إلى قضايا سياسيّة عديدة ومتشعّبة، نذكر منها: قضيّة اليهود الشرقيّين المتمثّلة بشخصيّة أمنون، والدعم العسكريّ الألمانيّ لإسرائيل متمثّلًا بـ 'الغواصة الألمانيّة'، ومعاناة الأسرى في السجون الإسرائيليّة المتمثّلة بشخصيّة يحيى، وتهجير الطّنطورة، وأحداث أكتوبر 2000، وقضيّة أطفال اليمن، والذكرى الخامسة لاغتيال إسحاق رابين، مستخدمًا بذلك الاسترجاع الفنّيّ (الفلاش باك)، والرجوع إلى أزمنة متفاوتة، مع التدقيق في تواريخ الأحداث. هذا فضلًا عن عرض القضايا الاجتماعيّة التي يواجهها المجتمع العربيّ؛ كالقتل، والخيانة، والزواج بين قوميّات وديانات مختلفة، كزواج السيّد مطر المسلم من ديمة المسيحيّة، وزواج ألينور اليهوديّة من الدكتور أمين العربي، وغيرها من القضايا. 

على الرغم من قصر الرواية، نسبيًّا، من حيث الأحداث وفعل الشخصيّات ووصفها، إلّا أنّ الكاتب يطرح أو يشير إلى قضايا سياسيّة عديدة ومتشعّبة (...) فضلًا عن عرض القضايا الاجتماعيّة التي يواجهها المجتمع العربيّ.

العارف

يبدأ الفصل الثاني من الرواية، 'الطفولة'، بتحديد تاريخ المشهد، الثامن عشر من كانون الأوّل عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، حيث ودّعت رقيّة ابنها، 'الطفل الذي لم يولد صار كبيرًا' (ص 29).

يكون الراوي في هذا الفصل عارفًا كلّيًّا، أحيانًا، يستخدم أسلوب الإيماء والتلميح، فهو يلمّح للقارئ بمشاهد مرتقبة ستحدث، فقد أشار لنا، مسبقًا، إلى أنّ أمنون، اليهوديّ الشرقيّ الذي يمثّل شريحة كبيرة في البلاد، 'ينظر خطرًا لم يأتِ بعد' (ص 31)، وهي عبارة ذكرها الراوي أكثر من مرّة، وفعلًا، يأتي الخطر نهاية الفصل الثاني، عندما يطلق أمنون النار على دادو الذي كان يعصف بإلينور فوق طاولة المكتب، فيرديه قتيلًا انتقامًا لشرفه. 'عرف أمنون أخيرًا وتأكّد أنّ الخطر الذي كان ينتظره دائمًا ولم يأت، كان يكمن عميقًا في داخله، داخل الأسئلة التي لم يسألها أبدًا. تلك هي ثمار الحبّ' (ص53).

يبدو واضحًا من خلال قراءتنا للرواية أنّ الكاتب ذو معرفة بالفلسفة والميثولوجيا والأساطير الإغريقيّة التي استشهد بها، كما أسلفنا، بالإضافة إلى الآيات القرآنيّة، والتي استخدمها لخدمة النصّ ودعم مشاهده، فمنها ما جاء في سياق الحديث عن البحر؛ {وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجّرت} (سورة التكوير)، و{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} (سورة يونس)، وكذلك {وما صاحبكم بمجنون} (سورة التكوير)، فقد جاءت هذه الآية لتشير إلى أنّ السيّد مطر لم يكن مجنونًا.

رمزيّة

قد تطغى الرمزيّة على الرواية، لا سيّما البعد الرمزيّ في شخصيّة السيّد مطر، الذي بدا، ولأوّل وهلة، وكأنّه غريب الأطوار، واستثنائيّ؛ فهو لم يولد بعد، مع أنّه الشخصيّة المركزيّة في الرواية، لكنّ وجوده فيها مجازيّ. وحين ينام 'يكون كالميّت، كأنّه ليس موجودًا في هذه الحياة، قد يهتزّ العالم كلّه، يُقصف، يُدمّر، حرب غزّة، مجزرة، لا يهمّ، إنّه لا يستيقظ، يستيقظ في الصباح فقط ليذهب إلى العمل' (ص 58).

إذًا، هو لم يستيقظ ليلًا إلّا مرّة واحدة، كما قالت ديمة، زوجته: 'بلى، استيقظ مرّة في خريف العام 2000 ومارسنا الجنس ليلًا'. وهنا إشارة من الكاتب إلى هبّة أكتوبر 2000، إذ يجسّد السيّد مطر مأساة الشعب الفلسطينيّ، في أراضي 48 بخاصّة، فكأنّهم في سبات عميق، نائمون كأهل الكهف ولم يستيقظوا إلّا في هبّة أكتوبر ليمارسوا حقوقهم الشرعيّة، فممارسة الجنس هنا لا تحيل إلى المفهوم الحسّيّ فقط، بل تتعدّاه إلى التعبير عن المتعة الجميلة، المرتبطة بالمطالبة بالحقوق والعدل المساواة.

قد تطغى الرمزيّة على الرواية، لا سيّما البعد الرمزيّ في شخصيّة السيّد مطر، الذي بدا، ولأوّل وهلة، وكأنّه غريب الأطوار، واستثنائيّ؛ فهو لم يولد بعد، مع أنّه الشخصيّة المركزيّة في الرواية، لكنّ وجوده فيها مجازيّ.

وديمة، زوجته، هي نفسها التي كانت زميلته أثناء الدراسة. ديمة هي الوطن الخصب المتنازع عليه بين السيّد مطر والشخصيّة التي لم يحدّد لها الكاتب اسمًا، فجرّدها من هُويّتها، عن قصد أو من دون قصد، ربّما لعدم شرعيّتها، 'ديمة المكان ونحن نزورها' (ص93).

ومن الجدير ذكره أنّ أسماء الشخصيّات لم ترد اعتباطيّة، إذ اختيرت لتحمل مدلولات من شأنها خدمة النصّ؛ فالسّيد مطر، مثلًا، هو النازل من السحاب في مواسم مختلفة، وهذا يفسّر، في اعتقادي، سبب عدم استيقاظه ليلًا إلّا ما ندر، والديمة هي المطر الذي يطول سقوطه، فهي تمثّل الأرض الخصبة التي تؤتي أكلها.

ينهي الكاتب روايته بنزعة أمل واستمراريّة؛ 'وعندما خيّم اللّيل، دخل العريسان، على سنّة الله ورسوله، إلى بيتهما وغرفتهما البيضاء. هناك عاشوا، ديمة وعلاء الدين، حياتهم بثبات ونبات وأنجبوا صبيانًا وبنات...' (ص 122). إنّها استمراريّة الوجود، تأتي تباعًا من السيّد مطر، ويليه أخوه علاء الدين ومَنْ تبعه ممّن خلفه، وهكذا دواليك، ما يشير إلى أنّ قضيّة الشعب مستمرّة، 'وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا' (ص 121).

 

إحسان أبو غوش

 

شاعر وناقد أدبيّ. حاصل على بكالوريوس اللغة العربيّة وآدابها والفلسفة الغربيّة من الجامعة العبريّة في القدس، والماجستير في مجال الشعر الحديث من الجامعة ذاتها.

عمل مدرّسًا للغة العربيّة، ويعمل حاليًّا مركّزًا ثقافيًّا في المركز الجماهيريّ، وإعلاميًّا، ومحرّرًا لغويًّا لقناة تلفزيونيّة دوليّة. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان 'دمعة تخدع ظلّها' عن المؤسّسة الفلسطينيّة للنشر والتوزيع والطباعة – رام الله.