منقطع عن الكتابة!

للفنّانة يوليانا ميندوزا

الطريقة التي تهجر فيها الكتابة صاحبها الكاتب، تجعل في رأسه وسواسًا، وخوفًا، وتشكيكًا مستمرًّا، فتزداد الأسئلة القاتلة عن أسباب جفاف النهر الذي لا مصبّ له، إلّا اللغة. يبدأ في تذكّر الطرق القديمة التي مرّ عبرها إلى بيته الآمن، يفشل، ثمّ يفشل، يضرب نافذة عقله، كأنّه مرّ من تلك الطرق إلى منتجه الإبداعيّ السابق بعينين معصوبتين.

يبقى السرّ في الداخل

تزداد القسوة بتشكّك الكاتب في أنّ ما قدّمه من قبل كان محض صدفة، حالة هي الأكثر هشاشة للكاتب في رحلته، ولحظات يتذكّرها كأنّها عقدة طفولة. هل عامل اعتياد المكان هو الذي يثبّط الرغبة في الكتابة؟ أم أنّها فترة ضمور للحواسّ؟ أم نرجع الأمر إلى فكرة التفاؤل فنقول إنّ فترة الصمت هذه تدريب لخلايا العقل على النصّ الجديد؟ أو هي صراع يجعل الكتّاب يتقاسمون العناء في جلساتهم، ويحاولون ردم خوفهم بإيجاد مَنْ يشبههم في ما تشعرهم به الكتابة من جفاء؟

تنقلنا هذه المعضلة إلى جدليّة علاقة الكاتب بنصّه، ومَنْ منهما يتحكّم بالآخر، ويبقى السرّ في الداخل، وما كلّ المحاولات إلّا تجارب قد تنجح، أو تفشل، في الطرق الناعم على خزّان النصّ.

صوت لا أعرفه

الشاعرة الفلسطينيّة، أسماء عزايزة، تحدّثت لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة عن تجربتها مع الانقطاع عن الكتابة:

ليس أكثر مضاضة للكاتب من تخيّل أنّ انقطاعه عن الكتابة سيدوم، سيكون الأخير الذي سيمتدّ حتّى آخر حياته، أو أن يقرّر هو، وليس مزاجه في الكتابة، أو محرّكاتها، أن يتوقّف عنها، في لحظة، أو فترة سيرى فيها عدم الجدوى العظيم الذي يحيط الأدب، ولا سيّما الشعر.

أسماء عزايزة

البارحة فقط، اعترف لي صديق، وهو شاعر جميل جدًّا، وقصيدته خاصّة ومتفرّدة، بأنّه يفكّر في الانتحار. لا يمكنني أن أتخيّل أنّ عدميّته تجاه الشعر هي التي فتحت قريحته على الموت، بل إنّ قريحته على الشعر سُدّت بسبب تفكيره بالموت، أو بالأحرى، بالأشياء الكارثيّة التي تحيله إلى التفكير به.

بعيدًا أو قريبًا من كلتا الحالتين، ثمّة أشكال أخرى يتبدّى فيها الانقطاع عن الكتابة، وهي الخوف، الخوف من أن تشبه نفسك. إن كنت ذا نفس صلبة بعض الشيء أمام المصائب، أو الانزلاقات الوجوديّة الفرديّة، تستطيع أن تؤدلج سبب الانقطاع، في كلّ مرّة تنقطع فيها حنفيّة الأفكار واللغة، وستفعل ذلك مرّة أخرى إن تحوّلت نبوءاتك إلى حقيقة. في لغة الشعر، قد نسمّيها نبوءات، وفي اللغة العقلانيّة قد يصحّ تسميتها قرارًا مبطّنًا مسبقًا.

طُلب إليّ أن أشارك في هذا التقرير في الوقت الذي كففت فيه عن الكتابة، في الوقت الذي أتمتّع فيه بأيديولوجيا ضرورة الانقطاع من أجل التجديد، ومن أجل محاربة ذلك الخوف الذي كان يراودني كلّما أنجزت نصًّا جديدًا، وسمعته، كأنّه صدى صوت الذي سبقه. لم أقرّر أن أتوقّف عن الكتابة، لكنّني، طوعًا، وجدت نفسي أفعل ذلك، لأنّني لم أعد أحتمل سماع تلك الأصداء، وبتّ في حاجة إلى سماع صوت لا أعرفه، صوت أسمعه لأوّل مرّة.

خجلًا من الحرب

أمّا الشاعر السوريّ آرام، فقال في انقطاعه عن الكتابة:

لعلّ من أقسى الأشياء وأشدّها مرارة، أن يتوقّف قلب عن النبض، أو زهرة عن العطر، أو تتوقّف نحلة عن جمع الرحيق. وظيفة الشاعر الأساسيّة، ربّما، تتلخّص في جمع الرحيق أيضًا؛ رحيق الحبّ، ورحيق الحلم، ورحيق الحرّيّة، لكن علينا ألّا ننسى أنّ الشاعر كائن حيّ أيضًا، مثله مثل كلّ إخوته في الطبيعة، فقد تموت شجرة من العطش، أو الإهمال، وقد تكسرها الريح، أو يشطرها البرق نصفين، وكذلك قد يكبّل الخوف حنجرة عصفور لم يكن يتوقّف عن الغناء، وقد تتساقط ريشاته، ويسقط مضرجًا بصمته وخوفه.

آرام

عن تجربتي مع الصمت، كان ذلك مع بدايات الحرب السوريّة، منذ ما يقارب السبعة أعوام. توقّفت عن الكتابة على نحو شبه كلّيّ، كنت أخجل من الكتابة في البداية أمام هول ما يحدث، لقد عَدَدْت التوقّف عن الكتابة نوعًا من الحداد، أو الاحتجاج، أو ربّما تضحية بأغلى ما أملك.

هكذا بدأ الأمر آنذاك، لكن بعد ذلك، أصبح الفعل الكتابيّ أمرًا بالغ الصعوبة، أمام مرأى الدماء واشتعال نار الحرب في كلّ زقاق. الأمر حدث مع كثير من الكتّاب الذين أصابهم الخرس من فظاعة ما يحدث، ولا سيّما أنّني أعيش في دمشق، ومن الصعب أن تكون في قلب النار ولا تحترق، وأنا احترقت أصابعي، واحترقت روحي. باستثناء قصاصات كتبتها هنا وهناك، لم أكتب، لكن بعد مضيّ خمس سنوات تقريبًا، لم أستطع أن أتوقّف عن الصراخ أكثر، وبدأت الكتابة على نحو جدّيّ. على الرغم من صعوبة الحياة على أكثر من صعيد، وعلى الرغم من عبثيّتها، وعلى الرغم من اقتراب الموت بشكل كبير، كان لا بدّ من الكتابة، وفعلًا لديّ كتاب شعريّ الآن، شبه جاهز للنشر.

كانت الكتابة هي التي تداهمني في البدايات، في زمن كان الشعر حاضرًا في كلّ شيء، لذلك كانت القصيدة في متناول القلب واليد أكثر. لكن لا أخفيك أنّني الآن، وبعد هذا الجنون المنتشر في معظم العالم العربيّ تقريبًا، أصبحت القصيدة لديّ عملًا شاقًّا، أشبه بالحفر في الصخر، صخرة اللغة وصخرة المعنى. أنا شاعر غير منفصل، إذ لا أستطيع الانفصال عمّا يحدث حولي، لكن انظر حولك، النار في كلّ مكان، إنّنا نكتب بأصابع مشتعلة.

محطّة

وقال الشاعر الفلسطينيّ هشام أبو عساكر:

أرى أنّ الانقطاع المؤقّت عن الكتابة أمر عاديّ يصيب الشاعر، بل هو صحّيّ لمشروعه الشعريّ أحيانًا، طالما أنّه ليس انقطاعًا عن الحالة الشعوريّة، الروحيّة والنفسيّة، التي يعيشها، إنّما انقطاع عن رصد هذه الحالة، والذي يمكن فهمه في إطار التشتّت والتعرّض إلى ضغوطات الحياة اليوميّة، وفقدان الرغبة، والإحباط، وعوامل كثيرة أخرى، من شأنها أن تقتحم حياة الشاعر من سياقه الاجتماعيّ.

هشام أبو عساكر

يبقى سؤال الجدوى من هذه الكتابة قائمًا لديّ، في ظلّ إفلاسي المادّيّ والمعنويّ الكبير. في هذه الفترة تحديدًا، حيث أعيش في غزّة، وبعيدًا عن حسابات الأقدار، لو أردت أن أكون موضوعيًّا في الإجابة عمّا إذا كان هذا الانقطاع يشكّل حالة إعاقة، أو إعياء للشاعر، فإنّني سأجيب بالنفي طبعًا، لأنّ أجزاء من الذاكرة الشعريّة، إن لم تكن كلّها، تقبع داخل هذا الانقطاع، وهذا التهديد.

إنّ الانقطاع لانشغالات في تهيئة الظروف المواتية للقصيدة من جديد، انقطاع غنيّ، يشبه إلى حدّ كبير المحطّة، شرط أن يرافقه استفزاز، واستدعاء، واستدراج للقطار الضخم القادم من بعيد، قطار الشعر.

الكلمات الناجية بعد موتنا

وقالت الشاعرة السوريّة وداد نبي:

أليست الحياة بأكملها متلازمة صفحة بيضاء، كما تسمّيها أنت؟ معظم ما نعيشه من مواقف حياتيّة، اليوم، تشبه لحظة الوقوف أمام هذه الصفحة، دون التمكّن من كتابة عبارة واحدة. كذلك الكتابة لديّ، كالحياة، كالحبّ، كالموت، إعادة تدوير لذات المعنى القديم، لا شيء جديد فعليًّا، إنّما هي الطريقة التي نقول بها ذات الأشياء القديمة، كأنّ هذه الكلمات تنطق لأوّل مرّة على هذه الأرض، ولذا ينبغي أن تكون حقيقيّة وطازجة، ولا سيّما كتابة الشعر، فلا شيء يجرّ الشعر من قدميه للمثول أمامنا، هو يصرخ ويقفز ويهرب بعيدًا عنّا إذا أجبرناه على المجيء.

لست غزيرة الإنتاج الأدبيّ بعامّة؛ في تلك اللحظات التي تأبى اللغة أن تتحرّك كالطين في يديّ، أتخلّى عنها وأمضي للحديث مع مَنْ أحبّهم، أقرأ بنهم أكثر. لطالما كانت القراءة رفيقي، في تلك اللحظات الصامتة من الحياة والكتابة معًا. وفي الحقيقة، أصبح أكثر إيمانًا، مع مرور الوقت، بعبارة لبوكوفسكي: 'إذا لم تخرج منك منفجرة على الرغم من كلّ شيء، فلا تفعلها'.

وداد نبي

أجل، الكلمات التي نكتبها لأنّنا سنموت، إذا لم نقلها، هي التي تستمرّ وتعاش في أكثر من حياة وكتاب، هي الكلمات الناجية بعد موتنا، ما عداها محض نسيان عابر.

الانقطاع عن الكتابة مؤرّق وغامض، يشغل بال الكتّاب في أنحاء العالم، والكاتب ينظر إلى العالم من زاوية قلمه، ويتنفّس من رئة كتابته. في حالة الانقطاع، يتصارع الكاتب مع التفاصيل المحيطة به، يضربها، يقلبّها، يتأمّلها، ينغمس فيها، لتُخْرِج له الفكرة يدها من شبّاك لطالما انتظر تحته، وتكون بمثابة المطمئن له، بأنّ بذرة الكتابة لديه لم تمت، وأنّ الخراب لم يتفشّ في فناء إبداعه.

 

حسام معروف

 

شاعر ومحرّر. عضو هيئة تحرير مجلّة 28 الغزّيّة، ويدير أنشطتها. يدير صفحة بيانات الأدبيّة على 'فيسبوك'. عضو مؤسّس في التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة 'يوتوبيا'. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج'.