أساتذة الإبداع اليائسون [1/ 2]

إيميل سيوران (1911 - 1995): الطفل الذي لعب بالجماجم

في كتاب 'أساتذة اليأس: النزعة العدميّة في الأدب الأوروبيّ' (صدر بالعربيّة عام 2012)، تتقصّى الكاتبة الكنديّة نانسي هيوستن، العوالم الشخصيّة لمجموعة من الفلاسفة والكتّاب الكبار، في محاولة لاكتشاف الأساس الفكريّ والشعوريّ وراء نزوعهم إلى العدميّة، من خلال إحالة نصوصهم إلى شخوصهم، وإسقاط حيواتهم على منتجهم الإبداعيّ. تقدّم الكاتبة رؤيتها النقديّة الخاصّة لمجمل الأعمال الفكريّة والروائيّة لهؤلاء الكتّاب، وتحاول تفسير المفارقة النابعة من رواج أعمالهم في مجتمعات استهلاكيّة تتّخذ من حبّ الحياة وتمجيد قيم النجاح مسلكًا.

ما العمل؟

تشير هيوستن، بداية، إلى أنّ العدمية بصفتها خيارًا، جاءت بالأساس للردّ على تيّار الطوباويّة في أوروبّا في عصورها الوسطى. فبينما يرى الطوباويّون أنّ على المثقّف وضع ذكائه وثقافته في خدمة الثورة من أجل عالم أفضل، يرى العدميّون أنّ كلّ أفعال الإنسان عبثيّة، وأنّ كلّ الآمال محكومة بالفشل سلفًا، وأنّه من الأجدر الانتحار على الفور (ص 17). 

غلاف الترجمة العربيّة للكتاب

وتحيل هيوستن القارئ إلى التضادّ في الفهم والرؤيا للعدميّة منهجًا في روسيا خلال الفترة نفسها، الذي لم يكن يشير إلى اليائسين، بل إلى الراديكاليّين ممّن يبحثون عن إجابة السؤال: 'ما العمل؟' سؤال شكّل دافعًا لثيودور ديتسويفسكي للكتابة لاحقًا، حتّى يمنح الشباب أفقًا جديدًا، ولكي لا تنتهي بهم مقاصدهم النبيلة نحو التغيير إلى منفى آخر في سيبيريا، هناك حيث تعرّض ديستويفسكي نفسه للنفي.

إنّ القراءة النقديّة المباشرة التي تقدّمها هيوستن في النزعة العدميّة لدى كتّاب أوروبّا، لا تعني، كما تقول هي، أنّ الأدب ينبغي أن يكون مرحًا ومفعمًا بالأمل، بل على العكس تمامًا، إنّ الرسالة التي يجب أن تخرج من فكرة الفنّ، والأدب بخاصّة، رفض العالم القائم والتعبير الدائم عن النقصان وعن قلق الوجود؛ إنّ من يشعرون بالراحة والرضا عن عالمهم لا ينبغي أن يلجؤوا إلى البحث عن عالم مواز عن طريق الكلمات.

لم تقدّم الكتب القيّمة، واللوحات الجميلة، والمنحوتات أيّ شيء لبني البشر في سعيهم الحثيث نحو فهم العالم بشكل أوضح، بل قدّمت أكوامًا من الجثث، وغرف غاز، وقنابل ذرّيّة، ومذابح هنا وهناك. بدا المنتج الثقافيّ هنا بلا أيّ جدوى، ما دفع العديد من الكتّاب في حينه للتساؤل: لماذا نعيش؟ 

أجيال عدميّة

قسمت الكاتبة الكتّاب 'العدميّين' إلى ثلاثة أجيال: من بلغوا سنّ الرشد خلال الحرب العالميّة الثانية، مثل الإنجليزيّ صامويل بيكيت (1906 - 1989)، والرومانيّ إيميل سيوران (1911 – 1995)؛ والجيل الثاني من كانوا أطفالًا أو مراهقين خلال تلك الحرب، مثل الهنغاريّ إمري كيرتش (1929 - )، والنمساويّ توماس بيرنهارد (1931 – 1989)، والتشيكيّ ميلان كونديرا، المولود أيضًا عام 1929.

آرثر شوبنهاور (1788 - 1860)... الأب الروحيّ للعدميّين

بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الكتّاب ممّن وُلدوا بعد الحرب، مثل ألفريدا يلينيك، وميشيل ويلبيك، وسارة كين، وكريستين إنجو، وليندا لي. من دون أن تسقط من حساباتها العودة التاريخيّة إلى 'الأب الروحيّ' لكلّ هؤلاء المبدعين، آرثر شوبنهاور، الذي شكّلت كتاباته مصدر إلهام ومادّة تفكير في جدوى الحياة، وكانت دافعًا لنزوعهم المختار إلى العدميّة.

اللعب بالجماجم

غير أن شوبنهاور لم يكن الوحيد الذي دفع هؤلاء ليكونوا ما أصبحوا عليه في ما بعد؛ لقد كان لحيواتهم ونشأتهم العائليّة دور كبير في استيطان اليأس نفوسهم. نرى هنا الكاتب الرومانيّ إميل سيوران تحديدًا، المولود لقسّيس أرثوذكسيّ وامرأة عانت من الاكتئاب والسوداويّة، يكتب لأخيه قائلًا: 'كثيرًا ما أفكّر بأمّنا... وعلى وجه الخصوص بسوداويّتها التي أورثتنا سمّها والميل إليها'.

لقد كانت البيئة المحيطة بسيوران تدفعه إلى الارتماء في أحضان العدميّة ولا جدوى الأشياء، إذ النشأة في مجتمع رومانيّ تتّخذ فيه الحياة شكلًا هرميًّا، حيث البناء العائليّ يشبه هرميّة الكنيسة التي تنشط في دولة هرميّة السلطات أيضًا؛ طفولة بدأت بلعب كرة القدم بجماجم الموتى التي كان يقدّمها له حارس المقبرة بغرض التسلية، فمرحلة الشباب التي أُعجب فيها بالنموذج النازيّ في الحكم، على الرغم من اعترافه بسطحيّة الأفكار الهتلريّة آنذاك.

مفصول من الحزب

ليس بعيدًا عن رومانيا البائسة المتكلّسة التي وصفها سيوران في أكثر من مناسبة بالبلد المتأخّر الذي لا يتمتّع بأيّ قدرات، بلا إشعاع، ولم ينجب أيّ عبقريّة، يخرج ميلان كونديرا من الجارة، جمهوريّة التشيك، حيث ولد في أسرة متوسّطة انشغل فيها والده بالموسيقى التي أجاد عزفها، واقتطع من وقته الكثير ليعلّم نجله العزف على البيانو. يكتفي كونديرا بالكشف عن تلك الفترة من حياته دون أيّ إشارة إلى والدته التي لم يتكلّم عنها في أيّ حوار أو مقابلة أجراها. كان يكتفي دومًا بكشف القليل عن حياته الشخصيّة التي لم يكن لأمّه أيّ نصيب فيها. 

ميلان كونديرا (1929 - ): مفصول من الحزب بسبب النزعة الوجوديّة

كان كونديرا مراهقًا يسمع العبارات الشيوعيّة الرنّانة، والبيانات السوفييتيّة المكتوبة بعناية، ثمّ ليشهد استيلاء الشيوعيّين على السلطة، واصطفاف تشيكوسلوفاكيا مع الاتّحاد السوفييتيّ. يتأثّر كونديرا مثل ملايين الشباب الأوروبيّ في حينه بالأفكار الشيوعيّة ويتبعها، إلى أن فصله الحزب وهو في عمر الواحدة والعشرين بسبب ما أسماه في حينه نزعة كونديرا الوجوديّة في ديوانه الشعريّ، 'نزهة سوداويّة'. 

كلّ هذا السحر

يكشف الكتاب الكثير من التفاصيل عن حياة الكتّاب موضوع البحث، مع ربط حالاتهم الذهنيّة بنصوصهم، وتحليل آرائهم الواردة في مقابلاتهم الصحافيّة للإشارة إلى طفولتهم المعذّبة التي شكّلت في ما بعد هويّاتهم الإبداعيّة، واستخلاص الرسالة الفلسفيّة لهؤلاء الكتّاب، من أجل تفسير كلّ هذا السحر وتلك السطوة في أوروبّا المعاصرة.

أجمل الكتب تلك التي يعود إليها الإنسان أكثر من مرّة. في العامين الماضيين، عدت أكثر من مرّة إلى الكتاب الذي أهداني إيّاه الصديق الشاعر والمترجم وليد السويركي، الذي أتقن الترجمة وأضفى عليها هوامش عزّزت الآراء الواردة فيها، وأضفت بعدًا معرفيًّا عميقًا على الشخصيّات موضوع البحث، وعلى الفترات التاريخيّة التي نشأت خلالها. 

 

سامح خضر

 

روائيّ فلسطينيّ من مواليد القاهرة عام 1976. حاصل على ليسانس آداب لغة إنجليزيّة، وماجستير في الدراسات الإسرائيليّة، ويعمل حاليًّا مديرًا لمتحف محمود درويش في رام الله. صدرت له روايتان: 'يعدو بساق واحدة' (2015)، و'الموتى لا ينتحرون' (2016).