فرانكو موريتّي... النظر إلى الأدب من عدسة أوسع

فرانكو موريتّي | أليكس ويلش، NYT

 

في ظلّ سجالٍ ممتدّ حول ماهيّة الأدب العالميّ وكيفيّة تحديده، يقرّر عالم الأدب والناقد الإيطاليّ، فرانكو موريتّي (Franco Moretti)، أن يساهم فيه وفق منظور يشترط استخدام العلوم الأخرى لدراسة تاريخ الأدب العالميّ. اشتغال موريتّي مقاربة جديدة للتاريخ الأدبيّ، تلتقط ثراء الأدب العالميّ عبر "القراءة عن بعد" (Distant Reading). نستعرض هنا كتابه في هذا الحقل، المعنون بـ "أشكال بيانيّة، خرائط، أشجار: نماذج تجريديّة للتاريخ الأدبيّ" (Graphs, Maps, Trees: Abstract Models for Literary History).

من خارج العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة

يستخدم موريتّي تخصّصات من خارج العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة لدراسة تاريخ الرواية، بقياسها كمّيًّا ونوعيًّا، عبر الرسوم البيانيّة بداية، ثمّ بشرح الحيّز المكانيّ عبر تقسيم الخرائط في الروايات وإعادة تصنيفها؛ إذ إنّ الرواية تحوي خريطة عامّة لسير وتنقّل الأحداث فيها، غالبًا ما تُرسم بشكل تقليديّ جغرافيّ. لكنّ موريتّي يقدّم في هذا الكتاب خرائط دائريّة تساهم في توليد فهم جديد لأماكن الروايات، عبر عرض الحيّز الذي تحصل فيه، ودمج العوالم الحقيقيّة والافتراضيّة، ليدرس في نهاية الكتاب طرق تطوّر الأنواع الأدبيّة تاريخيًّا، وفق نموذج شجريّ.

 

 

كتاب موريتّي الصغير، الذي لا يتعدّى 120 صفحة، لم يُترجم إلى العربيّة بعد، على الرغم من صدروه عام 2005، ويتكوّن من ثلاثة فصول؛ الأشكال البيانيّة (Graphs)، والخرائط (Maps)، والأشجار (Trees)، بالإضافة إلى فصل كتبه الإيطاليّ ألبرتو بيازا، المتخصّص في علم الوراثة البشريّة، تحت عنوان "التطوّر في نطاق ضيّق" (Evolution at Close range)، ويقرأ فيه تطوّر الأدب مستعينًا بعلم الأحياء، ليكون أداة البحث في تاريخ الأنواع الأدبيّة، عبر قياس مدى إمكانيّة تطبيق آليّات التطوّر التي تنتج تغيّرات بيولوجيّة (مثل الطفرة، والاختيار الطبيعيّ، والانزياح الجينيّ، والهجرة) على الأنواع الأدبية المعاصرة.

قياس التلقّي

يحاول موريتّي مع أوّل صفحة إلغاء أساليب النظر التقليديّة للأدب، أو الجديدة أحاديّة الأفق، ويتمسّك بجمع الروايات كأنّها في سلّة، ليعيد تقسيمها بشكل جديد. فيركّز على أهمّيّة أخذ عيّنات مختلفة من حول العالم، حتّى وإن كان يركّز على الأدب البريطانيّ في مواضع كثيرة. ففي الفصل الأوّل الخاصّ بالأشكال البيانيّة (Graphs)، استخدم عيّنات من خمس دول (بريطانيا؛ اليابان؛ إسبانيا؛ إيطاليا؛ نيجيريا)، ومن مرحلة زمنيّة بين 1700 – 1900، لإجراء مسح عالميّ لتطوّر تاريخ الرواية، ولقياس كيفيّة دخول وخروج الأنواع الروائيّة (Genres) على السوق والتذوّق الأدبيّ؛ فالأنواع الأدبيّة التي يقرؤها ويفضّلها الجمهور تغيّرت عبر الزمن وتنوّعت، مثلًا، بين تفضيل الروايات التاريخيّة، وقصص الرعب، أو الأدب الرومانسيّ لاحقًا، وغيرها.

 

التمثيل البيانيّ

 

اختلاف الأنواع الأدبيّة نوع من الانزياح والتطوّر فيها، ويُقاس بالعوامل التي أدّت إلى كتابة هذه الأنواع من الروايات وبيعها، إذ قاس موريتّي تغيّر النوع الأدبيّ الموجود عبر قياس الأدب والتلقّي كمّيًّا، باستخدام الأنواع الأدبيّة وتغيّرها عبر الزمن، وتأثيرات أساليب وأسباب القراءة، وصولًا إلى ضغط السوق الذي يؤثّر في الجداول البيانيّة وفي إنتاج الكتب. وأهمّ ما في هذا الفصل، الإشارة إلى أنّ عيّنة الروايات المستخدمة ضمن الجداول البيانيّة استطاعت تشكيل صورة عامّة عن تطوّر الأنواع الأدبيّة عبر الزمن، من خلال إنتاجها وتوزيعها وتلقّيها لدى القرّاء، بثِقَلٍ متوازٍ، من دون أن تأخذ روايات مشهورة، مثل "قصّة مدينتين"، ثقلًا في فهم تغيّر الأنواع الأدبيّة عالميًّا، أكثر من رواية أخرى غير معروفة.

خرائط دائريّة

في فصله الثاني، يتحوّل موريتّي إلى علم الجغرافيا، ليشرح الخرائط الأدبيّة بأشكالها وأدوارها ضمن بنية النصّ؛ فقد خطّ خرائط لنصوص أدبيّة على شكل دائريّ، توضح أبعاد السرد في الرواية، لا التوزيع الجغرافيّ لأحداث الرواية فحسب. ففي الخريطة الدائريّة التي يقدّمها موريتّي لفهم الأدب، لا يكون حيّز السرد خطّيًّا، بل دائريًّا. هنا يكمن الإسهام الجديد، لأنّه حتّى ضمن "أطلس الرواية الأوروبيّة"، يحضر مختلف أشكال المسارات الخطّيّة، والحقول ثنائيّة الحدود، والخرائط متعدّدة الأقطاب، دون أن توجد الخرائط على شكل دائريّ أبدًا.

تشرح الخرائط الدائريّة أبعاد وطبقات الحيّز المختلفة، فتصبح شاملة للتعبير عن الحياة الاجتماعيّة، وأشكال العوالم الخياليّة والواقعيّة، والداخليّة والخارجيّة، التي تتلاقى في خريطة واحدة.

 

التمثيل الدائريّ

 

عبرّت الخرائط، مثلًا، عن التحوّلات الدراميّة في المساحة الريفيّة، التي نسجت طابعًا جديدًا للجغرافيا[1] ولطريقة التعبير عنها؛ فمن خلال الدوائر، أو تغيير أشكال الخرائط التي أوجدها لحيّز الرواية، وضع موريتّي تخطيطًا جديدًا يعتمد على أبعاد الفضاء الذي تجري فيه الأحداث، لبيان التجربة الاجتماعيّة في النصّ، فعَدَّ "الشكل الخرائطيّ الدائريّ طريقة للتنظيم الطبيعيّ لطبقات حيّز الرواية، ليكون ضمن الدائرة ‘عالمًا صغيرًا‘ بحدّ ذاته"[2].

اعتماد الأشكال البيانيّة في الفصل الأوّل، جعل التحليل يقتصر على الكمّ والأرقام المختلفة، والأنواع الأدبيّة للروايات بتطوّرها التاريخيّ. أمّا الخرائط الدائريّة، فساعدت في حصر المفاهيم الدلاليّة في الروايات، وسهّلت ربطها، وتصنيفها، وشرحها للقارئ، عبر بيان العوالم والأبعاد المختلفة في شكل دائريّ واحد. وفي الحالتين، لم تغب التحوّلات التي تأثّرت بالانتقاء الطبيعيّ (Natural selection) والانتقاء الثقافيّ Cultural selection)) من قِبَل القرّاء.

أشجار وتفريعات

في الفصل الثالث، يرسم موريتّي تحوّلات الرواية عبر التفريع والأشجار، ويقيس، بمهارة، تفرّع الأشكال الأدبيّة بظهورها واختفائها، وبكونها تأخذ من بعضها لتختفي وتذوب أفرع ويبرز غيرها.

الشجريّة تعبير عن الانتقاءين الثقافيّ والطبيعيّ، ومن خلالهما تطوّرت الأنواع الأدبيّة حسب السوق، والقرّاء، وعوامل أخرى مختلفة. أي أنّ إنتاج الأفكار والروايات والنصوص بحدّ ذاتها، يتطوّر بشكل شجريّ؛ وهذا يعني أنّ النصّ يتحوّل لورقة واحدة تعبّر عن نفسها، ولا يُسْقَط عليها كلّ ما يتعلّق بهذا النوع، ولا سيّما أنّ التصنيفات قائمة على المورفولوجيا والأدب العالميّ، وبهما تتحقّق موازنة القوى لدراسة التغيّر، والتنوّع، والرابط التاريخيّ، في الوقت نفسه، وتمثّله في الشجرة المعبّر من خلالها.

 

التمثيل الشجريّ

 

يدرس الفصل الأخير تطوّر الأدب على شاكلة التطوّر البيولوجيّ، ويبدو أنّه أكثر الفصول إمتاعًا واتّساقًا، لأنّه يفتح الآفاق التي لم يكن في المخيّلة ما يوازيها أو يمثّلها؛ إذ إنّ الاعتماد على نظريّة التطوّر، العمود الفقريّ للكتاب، وطرق استخدام المعلومات باختلاف زوايا النظر إليها، يؤدّي إلى إنتاج أبواب جديدة تُفْهَم من خلالها النصوص.

كونيّة الأدب

يشكّل الكتاب محاولة جادّة لإعادة النظر للأدب عبر عدسة واسعة، وهي محاولة ناجحة في رأيي، بدليل سلاسل الأبحاث والكتب النقديّة التي تردّ على موريتّي، تأييدًا أو معارضة. ففي الكتاب خطّ ناظم واضح يعمل على لفت النظر إلى الأدب، في شكله المجرّد، بصفة نصًّا يحمل أنماطًا عامّة وأشكالًا تختلف، بعيدًا عن التقسيمات الأيديولوجيّة الفكريّة، وبعيدًا عن التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة التي تخصّ حقل الأدب، وبعيدًا عن استساغتنا الشخصيّة للنصّ. يتحوّل كلّ ذلك إلى نمط قياس دائريّ الوجهة، يعمل على تداخل التخصّصات والاستفادة من الإنتاج عبرها، وبالتركيز على أنّ تطوّرات الأدب تأتي على فترات طويلة نسبيًّا يمكن قياسها، وبالعادة، تكون من أعمال ليست هي المعياريّة (non-canonical).

 

 

أهمّ ما استطاع الكتاب تحقيقه، إمكانيّة دراسة النصّ الأدبيّ، ولا سيّما الرواية، في أيّ مكان وزمان، تبعًا لهذه المعايير، وحتّى دراستها سويًّا كما في الفصل الأوّل، لإثبات كونيّة الأدب أكثر من عالميّته؛ تعني الكونيّة أنّ الأدب نتاج يعمّ العالم، وأنّ أيّ نصّ جزء من فسيفساءِ تكوينٍ أضخم للأدب. والعالميّة، تعني النمط العالميّ الذي يصنّف النصوص على أنّها عالميّة أو غير عالميّة، بناءً على معايير ترتبط برأسمال الطباعة، والسوق، والأعمال المعياريّة، والترجمة، وإمكانيّة الوصول إلى القوائم المشهورة.

هذا يعني أنّ أساليب الدراسة تستطيع أن تتنوّع أو تتخصّص لإنتاج أبواب دراسة مختلفة للأدب، وربّما يمكن أن نَعُدّ الكتاب جزءًا من الحثّ على الإبداع في تداخل التخصّصات، وعدم الاكتفاء بالصندوق المرسوم مسبقًا.

...................

[1] Ibid, 38.

[2] Ibid, 44: Translation of: “a circle is a simple, ‘natural’ form, which maximizes the proximity of each point to the center of the ‘little world’”.

 

مجد حمد

 

طالبة ماجستير في الأدب المقارن بمعهد الدوحة للدراسات العليا. حاصلة على البكالوريوس في الإعلام من جامعة بيرزيت. مهتمّة بالأبحاث والنصوص التي تجمع النظريّات من مختلف التخصّصات؛ تأثيراتها في المجتمع وتفاعله معها، ولا سيّما الدراسات المرتبطة بالمدن وفهم الحيّز والفضاء.