المواقع الاجتماعية وتكثيف اللغة

Engin Akyurt

 

العالم في شبكة واحدة ومتّصلة، وكلّ نهار جديد تزداد التقنيّات تطوّرًا وتجدّدًا، من أجل تواصل أكثر فعاليّة. والتفاعل الحاضر اليوم بين الشاعر وقارئه، لم يكن موجودًا من قبل، والفضل يعود إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، الّتي تجعل الشاعر والمتلقّي في مساحة واحدة، وإذ يطرح الشاعر نصّه الشعريّ، يجد ردود المتلقّي في تعليقات تعقب النصّ فور القراءة، هذا التفاعل يخلق علاقة حميمة ودافئة بين الشاعر والمتلقّي، متنها وجسرها النصّ.

 

سلاسة وقِصَر

إنّ المتابع للمواقع الاجتماعيّة على الشبكة العنكبوتيّة، يستطيع أن يلمس ويتتبّع التغييرات الحادثة في جواهر النصّ، من حيث المعنى والفضاء الّذي يدور فيه، وكذلك الاختلاف من حيث الشكل؛ فيتأثّر مبنى النصّ – أيضًا - طبيعيًّا وربّما تلقائيًّا ضمن الأدوات والتقنيّات المستخدمة. وفي عالم يضجّ بالشعر ومُدّعيه في مثل هذه المواقع، يجد الشاعر نفسه يجترح لغة سلسة ومكثّفة، وقادرة على الوصول مباشرة، كي تصيب المتلقّي وتمسّه متلبّسًا بحالته، من دون تكليفه كثير وقت وجهد للقراءة.

وقد ركن الكثير من الشعراء إلى هذا التكثيف رغم صعوبته، خاصّة للشاعر الّذي يحمل مشروعًا جادًّا، معتبرًا الكتابة درب حياة، تحمل في مضمونها قيم الجمال والإنسان، ورسالة الفنّ وروحه، في عوالمه المفخّخة بالحيرة والحزن الكونيّ.

وإذا ركّزنا على الموقع الاجتماعيّ "فيسبوك"، وتتبّعنا في دروبه الصفحات الخاصّة بالشعراء الشباب منهم، الّذين لهم تجربتهم الشعريّة المميّزة، وكذلك على حساباتهم الخاصّة، نجد ما تطرّقنا إليه واضحًا وجليًّا؛ حيث النصوص قصار، والمعاني تتجلّى في مفردات قليلة، والفضاء الشعريّ يلمّح ولا يصرّح، ويحمل دفقًا شعوريًّا معتّقًا ومركّزًا، وقابلًا للتأويل، ومرنًا رغم تماسكه، وشهيًّا ومُشبعًا رغم قلّة مفرداته.

يكمل المتلقّي النصّ، من تلقاء ما لمسه الأخير فيه من ذاكرة وتجربة، ويتدخّل هنا بشدّة مزاج المتلقّي وحالته وقت التلقّي؛ فنجد في التعقيبات ردودًا متراوحة، ولا أريد أن أقول إنّ كلًّا يغنّي على ليلاه، ولكنّي أفضّل أن أقول إنّ طبيعة كلٍّ منّا مغايرة، تستوجب ردّ فعل مختلفًا؛ فالاختلاف حقّ، والنصّ المكثّف الواعي الّذي يحمل قيمًا جماليّة وإنسانيّة راقية، يسهم في تأسيس ذائقة تركن إلى حقّ الاختلاف في التلقّي، حيث المساحة المشتركة بين المتلقّين أيضًا قابلة للتفاعل بلغات تتعدّد مستوياتها.

 

شكلان من التطوّر

ونستطيع أن ندرك أنّ التراكم، الّذي يشكّل إيجاده التفاعل بين الشاعر ومتلقّيه، عبر المواقع الاجتماعيّة، يأخذ شكلين من التطوّر، وفي اتّجاهين مختلفين، حيث الشاعر - دون أدنى شكّ - إمّا أن يتأثّر سلبيًّا وإمّا إيجابيًّا من هذا التفاعل؛ فالمديح تحديدًا ربّما يأخذه إلى حالة من التجمّد والركون إلى المستوى الّذي وصل إليه، بلا بذل جهد من أجل تطوير معرفته وأدواته الشعريّة، وإمّا أن يكون ذكيًّا قادرًا على فهم أعمق وتجاوب أكثر حذقًا، من أجل تطوير نصّه الشعريّ نحو مستويات أرقى وأشمل، والدخول في مناطق شعريّة أكثر خصوبة ونقاء، واجتراح عوالم شعريّة خاصّة به، وتميّزه عن أنهار الشعراء الجارية في هذه المواقع، وبحار الشعر الهادرة؛ فبذكاء ورويّة يستطيع امتلاك لغته وأسلوبه الخاصّين، مستندًا إلى ثقافة ومعرفة متمكّنتين، وكذلك المتلقّي، إمّا أن يراكم من خلال قراءته ذوقًا أدبيًّا متطوّرًا باستمرار، وإمّا أن يبقى على مستوًى سيُشعره مع الوقت بالضجر من التكرار، وربّما يغادر الشاعر إلى آخر، بحثًا عمّن يضيف إليه.

والمتلقّي من الذكاء يكون قادرًا على تمييز ما يعنيه ويمسّه دون غيره. وإذا عدنا إلى التكثيف الّذي يعتمده الشعراء في الكتابة الشعريّة، نجد أنّ المتلقّي يتفاعل مع هذا النوع بشكل أكبر، دون إسقاط شرطَيِّ الجمال والمصداقيّة الفنّيّة من حساباته.

 

 

يوسف القدرة

 

شاعر فلسطينيّ من خانيونس، يقيم في القاهرة. درس اللغة العربيّة والإعلام في "جامعة الأزهر" في غزّة، ثمّ حصل على درجة الماجستير في الأدب العربيّ من "معهد البحوث والدراسات العربيّة" في القاهرة، ويحضّر الآن لرسالة الدكتوراه في النقد. صدرت له ستّ مجموعات شعريّة: "الذكرى أنا والذكرى منسيّة"، و"براءة العتمة"، و"لعلّك"، و"أغنية مبحوحة"، و"دموعها تبكي الخراب"، و"توارى في التأويل".