08/04/2020 - 23:25

جنين: يظلّ السؤال قائما ومُلحًا؛ من قتل الفتى منتصر عبد الخالق؟

إن من قتل الفتى منتصر، هو "شيء" لم يعرفه القانون ولا يريد أن يعرفه، ربما يكون سبب ذلك ارتفاعًا في نسبتَي الفقر أو التنمر، أو اتساع رقعة القهر الطبقي، أو غياب العدالة الاجتماعية, واندثار القانون في ظل حكم  سلطة مسلوبة الإرادة

جنين: يظلّ السؤال قائما ومُلحًا؛ من قتل الفتى منتصر عبد الخالق؟

"من يزيلُ التراب عن عينيك؟" يا منتصر

"قٌلِّي يا حبيبي منتصر كيف سترتبُ يومياتك تحت الطين البارد والنسيان، ماذا ستفعل عندما تصحو من نومك؟ ومن يزيلُ التراب عن عينيك إن رحت تُفتش عن بصيص نور في عزلتك المُوحشة، وماذا عن برد أطرافك يا حبيبي، قٌلَّي عن دواءٍ يوقف وجع الفقد والغياب، علّمني كيف أحتفظُ ببقايا لحمك المحترق، وبخصلات شعرك التي ظَّلت على منضدتك الصغيرة قبل أن تشقَ طريقك إلى رحلتك الأبدية؟ كيف سنمضي يا نجمي الغائب وحيدين في حياتنا؟ علِّمنا يا زهرة أقحوان كيف ننجوَ من أبدية الألم؟" قد تكونُ هذه مقاربة دقيقة تناولت كلمات أم لم يسعفها حزنها، للتعبير في لغة الصحافة المتداولة.

من على تلةٍ عاليةٍ يُشرفُ حي "الدبوس" على واد عز الدين أحد الأحياء الكبيرة في المدينة، وعلى منحدرٍ طويلٍ تصطفُ منازلُ الأهالي في كلا الجانبين، ومعظم سكانه من ذوي الدخل المحدود وبسطاء الكسبة. بدا الحيُ الشعبي مهجورًا وقد التزم الجميع بيتوهم امتثالًا لحالة الطوارئ التي يعيشها الوطن بسبب كورونا المستجد، استطعت أن اهتديَ لبيت الطفل منتصر عبد الخالق، عندما دلّني شابٌ كان يقود درَّاجته النارية صدفةً في الحي. في الزقاقِ البائسِ الضيق حيث منزل العائلة، طالعتني كاميرا مراقبة وقد نصبت في زاوية قريبة من الشارع الملاصق للزقاق، وفيما بعد علمتُ على لسان والد الضحية أنه نصبَ كامرتين إحداهما في الزقاق، والثانية عند النافذة المطلة على الشارع، تحسبًا لأي طارئٍ.

على نحوٍ مروِّع، لقي منتصر محمد عبد الخالق (15 عاما) حتفه حرقًا في أحد أزقة مدينة جنين ليلة 29 آذار/ مارس الماضي. ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة مازال لغزُ موتهِ يلفهُ الغموض. وبحسب أقوال عائلته نشبت خلافات متكررة مع أحد جيرانهم بعد أن اشترى والد منتصر قبل أربع سنوات، بيته الذي يسكن فيه من مؤجرِهِ، وقد زعم الجار بأن عائلة عبد الخالق تسبب له إزعاجات متكررة.

تعيش أسرة محمد عبد الخالق (41 عاما)، المكونة من ستة أفراد، في بيت قديمٍ اشتراه محمد بالتقسيط وبمبلغ 14 ألف دينار أردني، وهو مكونٌ من طابقينِ لا تتجاوز مساحة الأول خمسين مترًا، ومقسمٌ لغرفةِ نومٍ واحدةٍ وصالة صغيرة إضافة لمطبخ ضيق وبيت خلاء. ويعمل محمد مياومةً مقابل أجرٍ بسيط، بعد أن تقاعد من جهاز الشرطة منذ ثلاث سنوات، وتنحدر العائلة من قرية زِرعين في شمال الداخل، وقد هُجِّرت قسرًا على يد العصابات الصهيونية إبانَ النكبة عام 1948.

غرفة الفتى منتصر (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

استعدتُ على وقع بكاء والدة منتصر مشهدَ احتراقه في مقطع فيديو سجلته كاميرا هاتف أحد المارة ساعة الحادثة، و قد تداوله نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. راحت الأم تروي بصوتٍ متحشرجٍ، وقائع الليلة الأخيرة في حياة ابنها قائلةً: "تناولَ منتصر وجبة الغداء عند صديقه في الحي، بعد أن قصَّ شعره في غرفته المستقلة في الطابق الثاني، والتي كان قد جهزها لقضاء وقت فراغه واستقبال أصدقائه، وقد غادر البيت قبل الغروب إلى حيث لا أعلم" . وأضافت الأم: "تلقيتُ من منتصر مكالمةً قبل نصف ساعة من وقوع الحادثة بأن ابن الجيران المشتبه به، وهو في العشرينات من عمره، قد هاتفه مهددًا إياه بقتله".

أثناء الحديث، قاطع محمد كلام زوجته مضيفًا: "توجه منتصر إلى محطة الوقود لشراء البنزين لسيارتنا، لأن خزَّان السيارة كان خاليا من الوقود، وقد شكا لي، سابقًا، أن المشتبه به، لاحقه أكثر من مرةٍ بصحبة صديق له"، وأضاف: "كان ابني قد تعرض إلى محاولة حرق، قبل أشهر بعد أن قذف جارنا من شرفة منزله، بموقد نارٍ مشتعلٍ على رأس منتصر أثناء تواجده أمام البيت، لكن قُدِّر له أن لا يصاب بأذى".

اجتمعت ثلاث روايات سمعتها على لسان سكان الحي، أثناء بحثي عن بيت عائلة الفتى، أن هذا الأخير، يعاني من مرض في دماغه ويتناول المسكنات ومن المحتمل أنه انتحر. وحين واجهت عائلته بكلام الشارع، لم تنكر أن ابنها تعرض لصدمة بعد وفاة جدته لأبيه، ونفى والده نفيًا قاطعًا أن يكون مرضه قد قاده للانتحار، وأوضح أن: "منتصر أصيب بصدمة نتج عنها خلل بسيط في دماغه، بعد وفاة والدتي التي كان شديد التعلق بها، وقد واظب على تناول الدواء، ويمارس حياته بشكلٍ طبيعي، وكان يعمل في أحد المخابز في المدينة، وهذا دليل على أن مرضه لم يجعل منه عاطلًا عن ممارسة حياته جسديًا وعقليًا، ولم يُسجل عليه يومًا دخوله في نوبة عصبية بسبب توقفه عن تناول دوائه!".

في زقاقٍ فرعيٍّ ضيقٍ يُفضي إلى قطعة أرضٍ صغيرةٍ مهجورة تتكدس فيها القمامة، عاينتُ رقعةً سوداء بحجم متر مربع تقريبًا، لفتني إليها طفل كان يلهو بقذف كرته البلاستيكية على جدران حائط منزله. هذه الرقعة السوداء الشاهد الأخير على اللحظات المروعة والأخيرة لمنتصر قبل أن يلفظ َ أنفاسه. اجتهدتُ على عجلٍ بالتدقيق في زوايا بيوت الزقاق، لعلي أرصدُ كاميرةً، قد وثَّقت تفاصيل الحادثة لكني لم أجدها. انعطفتُ على بعد أمتار قليلة نحو محطة الوقود التي ابتاع منها منتصر قارورة البنزين، وحينما استأذنتُ عامل المحطة للحديث معه، اعتذر واكتفى بالقول: "إن منتصر اشترى البنزين، والمباحث الجنائية صادرت تسجيلات الكاميرات، لمتابعة التحقيقات". تسللتُ بهدوء إلى الشارع الخلفي، حيث مكتب خدمة داخلي يُطلق عليه "إكسبرس" وكان قد أشار إليه عاملُ المحطة كشاهدٍ محتمل، كون مكان مالكه قريب من مكان الحادثة؛ لكني تلقفتُ الإجابة، حينما قرأت ملصقًا عند باب المكتب بأنه يغلق أبوابه عند الساعة السابعة مساء، علما بأن أن الحادثة قد وقعت ما بين الثامنة والتاسعة ليلًا.

في الساعة التاسعة والنصف ليلًا، وصلتْ والدة الضحية وابنها أحمد ( 12 عاما) إلى الزقاق، حيث كان منتصر مازال على قيد الحياة ويتلظى بنار لحظاته الأخيرة، اندفع الطفل أحمد وسط بكاء هستيري، لاحتضان أخيه في محاولة بائسة لإنقاذه، وراح يصرُخ: "يا حبيبي خيَّا منتصر، مشان الله طَفوه" فيما كانت الأم تجمع بقايا لحم ابنها المحترق! وقد اعتذرتُ من والده عن مشاهدة مقطع فيديو حَرقهِ حينما همَّ لتقديمه لي كدليل على بشاعة ما فعله المشتبه به. وبحسب والدته: "نٌقل منتصر بالإسعاف، بعد أربعين دقيقة من الحادثة إلى العناية المكثفة في المشفى الحكومي، وأَعلن الأطباء وفاته".

قرب محطة البنزين التي اشترى منها منتصر (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

قضى منتصر ليلته الأخيرة في ثلاجة الموتى وحيدًا، وفي الصباح الباكر حُمل جثمانه في سيارة الإسعاف إلى مشفى النجاح الجامعي في نابلس للتشريح، فيما كان والده بصحبة أحد أقربائه يتقدمان سيارة الإسعاف في الطريق إلى المكان نفسه. شُرِّحت جثة منتصر وأُحتفظ بعيِّانتها لمواصلة التحقيق، وفي الليلة ذاتها ألقت العائلة نظرة الوادع الأخير عليه، ومن ثم نُقل بحضور الشرطة، وبسيارة واحدة إلى المقبرة لمواراته الثرى جوار جدته.

يتهمُ والدا منتصر الأجهزة الأمنية بتقاعسها في الكشف عن الحقيقة، وبخاصة أن المشتبه به أُطلق صراحه بعد أربعة أيام من وقوع الحادثة على حد قولهما، وتساءلَ محمد: "لماذا أُطلق سراح الجاني طالما أن التحقيق لم ينته بعد؟ ولماذا لم تكشف لنا المباحث الجنائية عن المحتوى الكامل لتسجيلات كاميرات المراقبة في محطة الوقود؟ ولماذا لم تفصح لنا عن محتوى هاتف ابني وعن المكالمات الأخيرة التي تلقاها قبل وفاته بنصف ساعة؟"، فيما أكدت زوجته: أن شرطة المباحث وافقت تحت إلحاح شديد منها، على طلبها مشاهدة محتوى إحدى كاميرات محطة الوقود، وقد رأت منتصر يُجري اتصالًا قبل دخوله في الزقاق"، وأضافت: "ابني أُستدرج إلى الزقاق لأنه لا يوجد فيه كاميرات مراقبة، وهناك جرى حرقه، وفرّ الجناة من الجهة الخلفية باتجاه الشارع الرئيسي".

بعدما دونتُ أقوال العائلة، وجدتني في طريقي إلى مبنى الشرطة في المدينة لأخذ أقوالهم. عند الباب طلبت مني موظفة الاستقبال الابتعاد مسافة بعيدة، بعدما سعلتُ بطريقة عرضية؛ وقد عقَّمت يديها قبل أن تستلم بطاقتي الشخصية وأرشدتني للطابق الأول حيث قسم المباحث الجنائية. عند باب القسم، تلقفتُ جوابًا مختصرًا من أحد الضباط العاملين فيه قائلًا: "قضية منتصر عبد الخالق خرجت من بين أيدينا وهي في النيابة، ولسنا مخولين بالحديث عنها، اصعد إلى الطابق الثاني واحصل على تصريح من مدير الشرطة لمتابعة حيثيات القضية".

لكن مدير الشرطة ردد لي نفس حديث شُرطي المباحث، ولم أتوانَ عن توجيه سؤال إليه، حول سبب إخراج المشتبه به من التوقيف قبل انتهاء فترة التحقيق في القضية؟ فقال: "ليس هناك شُبهة جنائية، وبيان المحافظ أكرم الرجوب، هو خلاصة ما ستقوله لك النيابة العامة إن حصلت على إذنٍ بالحديث معهم". وغادر مكتبه، قبل أن أجد جوابًا لسؤالٍ لماذا لم تتحرز الشرطة على المشتبه خوفًا من انتقام أهل الضحية منه؟

الزقاق الذي دخل إليه منتصر قبل حرقه (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

حاولت التواصل مع المحافظ للوقوف على حيثيات القضية، لكن لم أفلح في ذلك، ورجعت لبيانه المتعلق بالقضية والذي قال فيه: "إن المباحث الجنائية اعتقلت مشتبهًا به بناء على اتهام تقدمت به عائلة الفتى، وأن التحقيق في بدايته وسيتم الإعلان عن نتائجه أمام الرأي العام فور اكتماله، وأطالب الجميع انتظار نتائج التحقيقات وعدم التسرع بإصدار الأحكام".

يظلّ السؤال قائما ومُلحًا؛ من قتل منتصر عبد الخالق؟ وليس سرًّا بالنسبة للقارئ أن تفاصيل هذه القصة رُويت على لسان أهل الضحية هنا، فلهم الحق بما يقولوه، وبالمثل لشرطة المباحث لو أنها سمحت لنفسها بالحديث، وللمشتبه به أيضًا، وإن كان هذا الأخير، قد قال عبر حسابه في "فيسبوك" أنه بريء من دم منتصر. ولأنه من الصعب الحصول على أي تصريحات من أي جهة شُرطية حول جناية ما قبل أن يبتَ فيها القضاء، فقد اكتفيت بتدوين ملاحظات شرطي المباحث وبيان المحافظ، وتجنبتُ ذكر اسم المشتبه به للأمانة المهنية، وقبل أن تثبت إدانته وتقديمه للعدالة. وكذلك تجنبًا للمساءلة القانونية.

إن من قتل الفتى منتصر، هو "شيء" لم يعرفه القانون ولا يريد أن يعرفه، ربما يكون سبب ذلك ارتفاعًا في نسبتَي الفقر والتنمر، أواتساع رقعة القهر الطبقي، أو غياب العدالة الاجتماعية, واندثار القانون في ظل حكم سلطة مسلوبة الإرادة، وتمعن على نحو قاسٍ بتوزيع القهر على الضحايا دون أن تلتفت إلى قاع حزنهم السحيق. لكن إن ثبت أن منتصر أُحرق على يد جناة ،فلماذا إذًا، يٌصفِّي الضحايا حساباتهم بهذه الطريقة الوحشية؟ إن هذا ينتهى فقط، حينما تظهر العدالة الاجتماعية، ويأخذ القانون مجراه، وتتحمل السلطات كل المسؤوليات المُترتبة عليها.

التعليقات