21/04/2020 - 22:30

كورونا يغتال فرحة عيد الفصح في الزبابدة قرب جنين

في ظهيرة الثالث عشر من نيسان/ إبريل الجاري، بدت ساحة كنيسة سيدة القيامة في قرية الزبابدة قرب جنين، خالية، وغابت عن جدرانها التمائم وشعائر الصلوات. حدَّقتُ طويلًا من وسط ساحة الكنيسة، بتمثال السيد العذراء، وهي تطل بكبرياءٍ صامت فوق رأسي،

كورونا يغتال فرحة عيد الفصح في الزبابدة قرب جنين

إحدى كنائس القرية (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

في ظهيرة الثالث عشر من نيسان/ إبريل الجاري، بدت ساحة كنيسة سيدة القيامة في قرية الزبابدة قرب جنين، خالية، وغابت عن جدرانها التمائم وشعائر الصلوات. حدَّقتُ طويلًا من وسط ساحة الكنيسة، بتمثال السيدة العذراء، وهي تطل بكبرياءٍ صامت فوق رأسي، وقد وقفتُ وحيدًا أفتش عن جواب: أين ابناؤكِ يا سيدة النجاة، وقد غابوا عن تراتيل وصلواتِ بيتك المقدس؟ وخلف جدار الكنيسة بدت مئذنة مسجد الزبابدة القديم، كأيقونةٍ تحرس بوابة الكنيسة، فليس مصادفةً أن تتجاور أماكن عبادة أبناء الديانتين في وطنٍ يتقاسم أبناؤه طريق آلامه علي يد احتلال غاشم.

تُفضي ساحة الكنيسة في الجهة الشرقية منها إلى مدرسة "دير اللاتين" وتضم داخل أروقتها 1100 طالب.

تتربعُ قرية الزبابدة جنوبَ جنين على أربعة كنائس ومسجدين، ويزيد عدد سكانها عن أربعة آلاف نسمة، ويُشكل المسيحيون الأكثرية. وينحدر مسيحيو الزبابدة من قرية الطيبة شمال رام الله، وقد هاجروا -بحسب الروايات الشفهية- في أواخر القرن الثامن عشر إلى سهل الزبابدة، نتيجة نزاعٍ نشبَ بينهم وبين رجل ينحدر من قرية دير جرير القريبة من الطيبة، والذي جاء إلى أهالي القرية وقد استأجر قطعة أرض، أراد بعد ذلك أن يستملكها بالقوة، فتصدى له الأهالي، وانتهى النزاع برحيل ثلاث عائلات إلى الزبابدة وهي؛ سعيِّد، ودعيبس، وإبراهيم، ومع الوقت راحت هذه العوائل تتكاثر إلى جانب بعض العائلات المسلمة في القرية.

إحدى كنائس القرية (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

في غرفة صغيرةٍ تطل على ساحة الكنيسة، استمعت برويّةٍ ما يقاربُ الساعة، للأب إبراهيم نينو ( 35 عاما)، عن تاريخ الطوائف المسيحية وكنائسها التي دُشنت في القرية، وينحدر نينو راعي كنيسة سيدة القيامة، من مدينة مادبا جنوب غرب العاصمة الأردنية، عمَّان، و قد منحته الكنيسة الكاثوليكية في روما، منذ خمس سنوات، شرفَ خدمة الكنيسة ورعاية أبناء الطائفة في القرية.

وأوضح إبراهيم في حديث لـ"عرب 48" أنه "أربع طوائف تعيش في الزبابدة، وهي؛ كاثوليك، روم، وبروتستانت، وأرثوذكس. والقاسم المشترك بين هذه الطوائف هو الإمان بالرب. لكن طوائف الكاثوليك والبروتستانت والروم الملكية تمارس عباداتها حسب التقويم الغربي، أما الأرثوذوكس فبحسب التقويم الشرقي. وجوهر الخلاف بين هذه الطوائف يكمن بالسلطة الكنسية، فالكاثوليكية تتبع روما وباقي الطوائف تتبع بطريرك الدولة نفسها".

يُعدّ عيد الفصح واحدًا من أعظم الأعياد لدى المسيحيين وأكبرها، وفيه يستذكر المسيحيون، قيامة السيد المسيح من بين الأموات. ويبدأ الاحتفال به يوم الأحد السّابق لأحد الفصح المجيد، وهو الأسبوع المُمتد ما بين أحد الشّعانين وأحد الفصح، وفيه يؤدي المسيحيون صلواتهم وأدعيتهم، ويُظهرون إجلالا وولاءً لما عاناه المسيح من آلام. وعلى الرّغم من كون الأيّام المُقدّسة فيه هي الجُمعة العظيمة والسّبت، إلّا أنّه تم إضافة يوم الأربعاء، بوصفه اليوم الذي خان فيه يهوذا عيسى اليسوع.

اصطحبني المصور الصحافي، عدي دعيبس، بسيارته للتعرف على حارات القرية، كانت المحلاتُ مغلقةً والشوارع والأزقة خاليةً من المارة، بسبب حالة الطوارئ التي يفرضها فيروس كورونا المستجد. استعدتُ على وقع هدير السيارة تاريخ شهيد مناضل يتمدد بصمت في قبره، منذ تسعة وثلاثين عاما في العاصمة الأردنية عمَّان. في هذه الحارات البسيطة الضيقة، عاش الشهيد المناضل نعيم خضر طفولته، قبل أن يصبح شابًا يافعًا ويختار طريق الكفاح، متنقلًا بين عواصم الدول الأوربية، ومدافعًا عن قضية شعبه العادلة، وقد مثَّل منظمة التحرير الفلسطينية في بلجيكيا، قبلَ أن يتمكن منه رصاص الموساد في بروكسل في الأول من حزيران/ يونيو 1981.

(صورة خاصّة بـ"عرب 48")

اجتازت السيارة شارع القرية الرئيسي، وانحرفت إلى تقاطعٍ ليس بعيدًا عن الشارع المؤدي إلى بلدة قباطية. كانت الشمسُ تواصلُ ارتفاعها ببطء إلى كبد السماء، مُسدلةً خيوطها الذهبية على سهل القرية الأخضر الواسع، وقد بدت من بعيد، مباني الجامعة العربية الأميركية تمتدُ على قمم جبال القرية، وتلال بلدتي رابا وقباطية المجاورتين.

جلس الطفل عامر وسام وأشقاؤه الثلاثة في غرفة معيشة متواضعة، يمارسون ألعابهم الإلكترونية من خلف شاشة هاتف نقَّال، فيما كانت لوحة "العشاء الأخير" للسيد المسيح، تطل على منضدة الطعام. منذ تفشي فيروس كورونا المستجد، تعيش عائلة وسام خليل إبراهيم والد عامر (43) عامًا، برتابةٍ وأسى في ظلّ الواقع الذي فرضه فيروس كورونا، فهذه هي المرة الأولى التي تغيب عن بيتهم طقوس عيد الفصح، في الوقت الذي كانت فيه العائلة قبل عامٍ مضى، تنهمك طوال أسبوع كامل بالتحضير للعيد وإقامة الصلوات في الكنيسة.

وقال وسام: "حطَّم فيروس كورنا، فرحة العيد، وحدَّ من نشاطاتنا التي كنا نستمتعُ بترتيب تفاصيلها. العيد هذا العام حزين، ولن يكون بمقدورنا تأدية صلواتنا في الكنيسة كالمعتاد، بل عبر بث مباشر في مواقع التواصل الاجتماعي".

(صورة خاصّة بـ"عرب 48")

على وقع صوت أجراس كنائس القرية، انهمكت مريم خليل إبراهيم زوجة وسام، بإعداد ضيافة الكعك المحشو بالتمر، والشاي المُحلى. وقد حجز الكعكُ منذ زمن بعيد مكانًا بارزًا على موائد المسيحيين في عيد الفصح.

وقالت مريم: "جاء شكل الكعك الدائري، من إكليل الشوك الذي وُضع على رأس المسيح وهو يواجه عذابهُ، أما الشكل الكروي للنوع الآخر منه، يرمز إلى قطعة الإسفنج التي كانت تُغمسُ بالخَل وتعصر في فم المسيح لكي يشرب".

تحوَّل عيد الفصح هذا العام بحسب عائلة وسام إلى "قيمة روحانية عالية بعيدًا عن المظاهر المادية المعتادة".

وأوضحت العائلة أن ما يزيد صعوبة الوضع، أن أشقَّاء وسام الذين يعيشون في مدينة بيت لحم، لن يحتفلوا بالعيد معه.

(صورة خاصّة بـ"عرب 48")

في فناء الكنيسةِ كان الضجرُ قد تمكن على نحوٍ ظاهرٍ من الشابين فارس سعيِّد ومجدي ساحلية، وقد اتكأآ بهدوءٍ على إحدى جدرانها، ففي هذا العيد حُرما من نيلِ شرف تزيين الكنيسة وساحتها.

وقال مجدي: "في العيد الفائت بقينا أسبوعًا كاملًا نتقاسم الأدوار، داخل الكنيسة وحَرمها، في تحضير الزينة، وقراءة الأدعية واقامة الصلوات، وكما تشاهد الأن كل شيء اضحى باردًا ومثيرًا للحزن بسبب الفيروس المُنتشر".

من على شُرفة منزل مجدي دعيبس(50 عاما) دققتُ طويلًا على مرأى بصري في حركة السيارات التي تسيرُ بسرعةٍ عند مداخل القرية، في هذه الساعة بالتحديد ينشغل سكان القرية بشراء احتياجاتهم قبل دخول المساء.

في هذه الأثناء ارتفع صوت أذان العصر من مسجد القرية القديم قبلَ أن يُطالبَ المُصلّون بتأدية صلاتهم في بيوتهم. ومن تحت تمثال مركونٍ في إحدى زوايا الشرفة، راح مجدي يعرض لي مقطعَ (فيديو) كان قد وثَّقه في ساحة بيته لعائلته وأبناء عمومته وهم يمارسون بعض الشعائر الدينية والصلوات في أول يوم من شعانين الأسبوع المُقدس.

وقال دعيبس: "حرصنا قدر المستطاع هذا العيد أن نعيش طقوسه مع العائلة لكنني وعائلتي قد تعوَّدنا في السابق، السفر إلى مدينة القدس لنحيي الشعانين فيها، لكن مع حالة الطوارئ، تغير كل شيء، وقد استقبلت تهاني العيد من أشقائي في رام الله عبر الهاتف".

(صورة خاصّة بـ"عرب 48")

وأوضحت جمانة زوجة مجدي، والتي تعمل مُحاضرة في قسم العلاج الوظيفي في الجامعة الأميركية في جنين، أن العيد هذا العام اكتسب قيمة روحانيةً وقدسيةً كبيرة، وباتت الأمور المادية المتعلقة بالتحضيرات شيئًا ثانويًا.

رجع مجدي بذاكرته إلى أيام انتفاضة 1987 عندما كان الاحتلال يلاحق أبناء الوطن، ويغلق أماكن العبادة، وقال: "في عامَي 1989 و1990 ألغيت الشعانين، والتزم الجميع بيوتهم لأن الوطن كان مشتعلًا بالأحداث، وهذه المرة ألغيت الشعانين لأن العالم كله يقع في قبضة فيروس كورونا".

وقام السيد مجدي دعيبس بإيصالي إلى البيت، وفي مدخل القرية، تودَّعنا، وهناكَ تأملتُ الشمس وهي تودع بيوت القرية، لعلها تخرج في صباح جديد وقد تخلَّص العالم من جائحة كورونا.

التعليقات