من ذاكرة الأسر (5 )../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر (5 )../ راسم عبيدات
..المناضل العريق سعيد العتبة "أبو الحكم"، هو أحد أعمدة الحركة الأسيرة الفلسطينية، وهو ليس أقدم أسير فلسطيني فقط، فربما هو الأسير الأقدم على المستوى العالمي، واستحق عن جدارة التسجيل في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية.

وبقاء "أبو الحكم" في المعتقلات الإسرائيلية هذه المدة الطويلة جداً، والفلكية قياساً بالعمر البشري، ليس وصمة عار في جبين الثورة الفلسطينية، والسلطة والأحزاب والفصائل، بل وصمة عار وذل في جبين كل البشرية، وعلى رأسها دعاة حقوق الإنسان، ومنظماته المتشدقة بالديمقراطية والإنسانية، والتي تستنفر فقط عندما يتعلق الأمر بأبناء الغرب المحترمين والإسرائيليين، وحينها فقط يجري الاستنفار على صعيد رؤساء دول ووزراء وبرلمانيين ومجلس أمن، وكل المنظمات التي لها علاقة والتي ليس لها علاقة بحقوق الإنسان، ويبدأ الحديث عن العنصرية وانتهاك حقوق الإنسان وخرق الأعراف والمواثيق الدولية .... إلخ،

أما مناضل من أجل الحرية يقبع في السجون الإسرائيلية منذ إحدى وثلاثين عاماً، فهو لا يستحق مجرد إدانة أو استنكار أو مطالبة بإطلاق سراحه، لأنه ينتمي لـ"النجس الشرقي"، والأمر عندما يتعلق بإسرائيل، فإسرائيل فوق القانون الدولي، ويحق لها ما لا يحق لغيرها، تقتل وتجرح وتعتقل وتدمر وتقتل الأسرى العزل وبسلاح سري، كما حدث في معتقل النقب مؤخراً، حيث قتلت الأسير المناضل محمد الأشقر، ودون أن يحرك ذلك أدنى شعور أو مطالبة بالتحقيق ومعاقبة من ارتكبوا الجريمة، وكأن الدم الفلسطيني مستباح، ولا يستحق مجرد الإدانة، عند ما يسمى دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

والأسير المناضل "أبو الحكم" التقيته في سجن عسقلان عام 2002 ، وسكنت معه في نفس الغرفة، غرفة 13، وهو بطبعه إنسان هادئ، وأبو الحكم قد تستغربون رغم طول المدة التي قضاها في السجن، لم يستسغ تعلم العبرية، وهو مواظب على الثقافة، أي تثقيف الذات، وبنفس الوقت مواظب على الرياضة، وخصوصاً في الفترة الصباحية، وكنا نخوض ليلاً نقاشات تطول في السياسة.

وعلى ما أذكر في تلك الفترة، كانت أمريكا تستعد لغزو أفغانستان، السيناريوهات المحتملة، ونتائج ذلك الغزو على العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية، وكذلك مستقبل القوى الديمقراطية في فلسطين وغيرها، وأبو الحكم أشد ما يكره، رغم أنه قد تجاوز العقد الخمسين من عمره، أن تقول له يا " ختيار"..

وهو يعتقد جازماً أنه مازال شاباً، وأبو الحكم يمتلك مهارات في الأكل، حيث أنه وبحكم انتمائه لعاصمة الحلويات النابلسية، كان وضمن الإمكانيات المتوفرة لدينا، يقوم بعمل الكنافة النابلسية، وهو أيضاَ خير من يقوم بعمل مقدوس الباذنجان..

وعندما التقينا للمرة الثانية في سجن عسقلان 2006، حيث سكنت في غرفة مقابلة لغرفته، فقد وجدت أبو الحكم يقوم بعمل أرشفة لما ينشر في جريدة القدس عن الوضع الفلسطيني والأسرى، ووجدت انه يحتفظ بالعديد من مقالاتي المنشورة في جريدة القدس. وأبو الحكم كان تواقاً أن يسمع منا، أنا والزملاء الدكتور أحمد المسلماني وناصر أبو خضير، بصفتنا قادمين جدد، حول الأوضاع في الخارج، ولماذا القوى الديمقراطية لا تتوحد، ولماذا قوى منظمة التحرير لا تتوحد في قائمة موحدة في الإنتخابات التشريعية..

وكان الجدال والنقاش بيننا يطول ويتشعب، وأبو الحكم مع طول المدة في المعتقل، إلا أنه إنساني إلى أبعد حد، وهو مؤمن بأن حل الصراع لا يتأتي إلا من خلال دولتين لشعبين. وأذكر أنه عبر عن آرائه وقناعاته بشكل واضح وجريء، وبغض النظر إن كنت لا أتفق معها، حيث كان ينتقد تعدد القرار والاستراتيجيات في الساحة الفلسطينية، ومثلاً وجه سهام نقده، لمسألة إطلاق الصواريخ من القطاع على المستوطنات الإسرائيلية، وهو يرى في ذلك ضرر بالمصلحة الوطنية الفلسطينية.

وأبو الحكم مشهور بعبارة دائماً يرددها لكل المناضلين "أنا بحييك يا مناضل".. وأذكر في إحدى المرات ونحن نسكن في غرفة 26 ، وجاء أبو الحكم لزيارتنا، وكان لدينا أسير جديد، عندما قلنا له هذا المناضل أبو الحكم، قام وبدأ بتقبيل أبو الحكم والاعتذار له، وأنه لم تتح له الفرصة للتعرف علية سابقاً، وأنا لم أشعر في يوم من الأيام، أن أبو الحكم يحقد حتى على ألد أعدائه، وهو على قناعة تامة بأنه رغم المرحلة السوداوية، فإن شعبنا سيحقق أهدافه بالحرية والإستقلال، ورغم أن أبو الحكم يبقى رمزاً وعنواناً للحركة الأسيرة الفلسطينية، إلا أن هذا يدلل على حجم القصور والخلل تجاه الحركة الأسيرة الفلسطينية، وأنا على قناعة تامة لو أن أحد من الذين نسوا هذا الملف ، وفاوضوا الإسرائيليين قضى ثلث ما قضاه أبو الحكم، لما نسي وقبل بتجاوز هذا الملف أبداً.

أما الأسير المناضل سمير أبو نعمة، والذي التقيته في سجن عسقلان مرتين، في عامي 2002 و2006، والذي دخل عامه الإعتقالي الثاني والعشرين، فأكثر ما يميز هذا الأسير، أن لديه ولعاً وهوساً بالنظافة، فهو بالمناسبة لا يسمح لأحد بالجلوس على "برشه" سريره، ولا يقوم بغسل ملابسه في غسالة السجن بحجة أنها لا تنظف الملابس، بل يقوم بغسل ملابسه بيديه، وينشرها في ساحة " الفورة" النزهة المخصصة للأسرى، ويحرص جيدا على أن لا يلمسها أحد من الأسرى، وهو لا يحرص فقط على هذه الناحية، فتراه يخرج "للفورة" ساحة النزهة بملابس مكوية، وحذاء ملمع جيداَ وكأنه ذاهب لحضور حفلة أو عرس، وكنا أنا والأسير "الشيطان" حسام شاهين، نحرص دائماً على مداعبة المناضل أبو نعمة بالقول"روح الولد أبو نعمة روح".

وأبو نعمة حاله كحال الأسرى القدماء يجنح ويسرح في خياله بعيدا، فهو لو سمع أن أي وزير أو مندوب لدولة غربية وبالتحديد ألمانيا، قد قدم إلى لبنان والتقى مع مندوبين من حزب الله أو حركة أمل، فيبدأ بتحليل الأمور على أن صفقة التبادل قريبة، وأن الصفقة تشمل كذا مئة أسير، وهي تشمل كل الأسرى المحكومين أحكاماً مرتفعة، وأن جزءا منهم سيطلق سراحه، ولكن خارج الأراضي المحتلة وهكذا.

وكان الأسير حسام شاهين يحرص دائماً، ولكي يشعر المناضل أبو نعمة بالزهو، يقول إن له الفضل في بدايات حسام الوطنية، وإن أول عمل وطني شارك فيه، كان مظاهرة تضامناً مع سمير ومجموعته، عندما جاءت قوات الإحتلال لهدم وإغلاق منازلهم. وأبو نعمة يكثر من الأحلام والرؤى، وهذه الأحلام والرؤى أغلبها يدور حول المعتقل والأسرى، وأنه شاهد في منامه أنه هو وعدد من الأسرى يخرجون من السجن، تعلوهم رايات النصر في تبادل مع حزب الله..

وكنا دائماً والحق يقال، أنا وحسام شاهين، نستفز المناضل أبو نعمة، فهو متدين وحسام بصفته مسؤول حركة الشبيبة الطلابية ومسؤول علاقاتها الإعلامية، وبما أنه كان يكثر من السفر، فكان يحدث أبو نعمة عن بنات الفرنجة وجمالهن، وأبو نعمة يقول له أستغفر أنت وأبو شادي للنار، وكان الأسير حسام شاهين يحتفظ ببرواز لطفلة عمرها عامان، يقول لأبو نعمة أنها ابنته من واحدة أجنبية والبنت أسمها قمر، والأسير أبو نعمة على درجة عالية من البساطة، وأكثر ما يخشاه هو النقل من المعتقل، حيث أصبح جسده لطول الفترة الزمنية ورطوبة جدران السجن، مجمعا للأمراض، وكان بشكل شبه يومي يستشير الدكتور أحمد مسلماني حول أمراضه .

وفي الختام فإن من الهام جداً القول إن هؤلاء الأسرى وتحديداً عميد الحركة الأسيرة سعيد العتبة"أبو الحكم" والمناضل سمير أبو نعمة ، وغيرهم من المناضلين القدماء، يجب أن يكونوا في سلم أولويات أولويات من يفاوض أو يعقد صفقة تبادل، فهم أفنوا أعمارهم وزهرات شبابهم في سبيل الوطن والقضية، ولا يعقل أن يستمر التعاطي مع قضيتهم باستهتار وعدم اهتمام واكتراث.

التعليقات