من ذاكرة الأسر (20): الأسيران محمد الفار وشفيق بريم../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر (20): الأسيران محمد الفار وشفيق بريم../ راسم عبيدات
..."أبو الوعد" المناضل محمد الفار، ملامحه تعكس ذلك الإنسان الهادي وصاحب الأعصاب الفولاذية والذي لا يستفز بسرعة. درس اللغة العربية في الجزائر وتخرج من جامعاتها، ومارس هناك نشاطه السياسي في إطار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن ثم عاد إلى قطاع غزة، ليواصل نشاطه في إطار مسؤولياته الحزبية والكفاحية.

و"ابو الوعد" من الرفاق الصبورين جداً، والذين لا يميلون إلى" الفشخرة" والمباهاة، والتكلم المستمر عن الذات، فهو لم يقل في يوم من الأيام أنا المسؤول أو المرجع التنظيمي، أو المسؤول عن علان أو فلان من الرفاق..

وأبو الوعد الذي التقيت به وسكنت معه في نفس الغرفة في سجن عسقلان، عام 2005، كان ممنوعا من زيارة الأهل، تحت حجج وذرائع أمنية. وتراه دائم القلق على والدته، والتي كان يطمئن عليها من خلال الرسائل، إلى أن جاءته الموافقة على الزيارة مرة كل ثلاثة شهور. وكم كان فرحاً وسعيداً بهذه الزيارة...

توفرت الفرصة لـ أبو الوعد للتعرف على أسرته والعائلة من خلال شاشة تلفزيون فلسطين، في رمضان 2006، فهناك الكثير من أبناء أخوته وأخواته، كبروا أو ولدوا وهو في المعتقل، وهو لا يعرفهم. إلا أن القلق الشديد الذي كانت ينتابه على والدته، خوفا من أن تغادر هذه الدنيا دون أن يتمكن من مشاهدتها ووداعها، حصل حيث توفيت في تشرين الاول من العام الماضي، وطبعاً دون أن يتمكن "أبو الوعد" من مشاهدتها أو وداعها.

وقام أهل أبو الوعد بشراء نصف دونم من الأرض له في منطقة شمال غزة، وكم كان سعيداً بذلك، وكان يحمل صور الأرض معه، ويقول لي "أنظر يا أبو شادي.. صرت ملاكا.. مش عارف شو أزرع الأرض خضرة أو أشجار مثمرة".. وعندما كان يسمع في الأخبار أن الاحتلال سيقوم باجتياح القطاع، وإقامة حزام أمني بحجة منع إطلاق صواريخ المقاومة، كان أبو الوعد يقول ضاع شقى العمر..

وكنا نخوض نقاشاً مطولاً حول أزمة اليسار، وتراجع دور الجبهة تحديداً في منطقة القطاع، وما هي السبل للخروج من هذه الأزمة، وحالة ألأسلمه التي يتعرض لها المجتمع الفلسطيني، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية، وتراجع دور فتح والقوى الديمقراطية في الساحة الفلسطينية.

وأبو الوعد، حسب تصنيفاتي وتقييماتي، ينتمي إلى المدرسة الواقعية، رغم أن البعض يصر على تسمية ذلك بالهبوط السياسي. وهو من المناضلين المثقفين والذي لديهم اطلاع واسع وخبرة في المجال الحزبي والتنظيمي.

وهو يخطط بعد الإفراج عنه من خلال إحدى صفقات التبادل مع حزب الله، أو حركة حماس، أن يعيش في إحدى الدول الاسكندنافية، حيث يرى أن هناك الكثير من القيود الاجتماعية في القطاع على الحرية الشخصية، وكان يخوض نقاشات مطولة مع الأسير حسام شاهين، والذي زار تلك الدول أكثر من مرة، حيث شرح له بشكل مفصل عن الحياة وظروف المعيشة في تلك الدول، وإمكانية أن يمارس قناعاته وأفكاره دون تدخل من أحد، وتحديداً في مجال الحريات الشخصية.

وأبو الوعد لا يشطح كثيراً وهو يدرك جيداً، أن قضية الأسرى هي ورقة ابتزاز وضغط سياسي، وإسرائيل لا ولن تطلق سراح أسرى لديهم وعليهم قضايا جدية، أو ما تسميهم وتصنفهم إسرائيل "الملطخة أيديهم بالدماء"، وفق منطق ما يسمى بحسن النوايا. وهذا الملف يحل فقط من خلال صفقات التبادل، وهذا أمر محسوم وعلى السلطة والأحزاب أن تبحث عن السبل والطرق العملية، التي تمكنها من تحرير أسراها بعزة وكرامة، ودون أية اشتراطات أو تنازلات، من طراز وصف نضالاتها بالإرهاب، أو إدانة واستنكار تاريخها وثورتها.

أما الأسير المناضل شفيق بريم من منطقة بني سهيلا في القطاع، والذي التقيت به وسكنت معه في سجن عسقلان عام 2005، وفي قسم 8 غرفة 26، فقد تربى وعاش في لبنان، وعرف النضال والثورة هناك. وزوجته" أم محمد" تعرف عليها هناك.

كان أبو محمد من المدافعين عن المقاومة أُثناء اجتياح عام 1982، والذين تصدوا لقوات الاحتلال الإسرائيلية أثناء غزوها للأراضي اللبنانية، من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية وطردها من الأراضي اللبنانية. وقد تم أسره مع عدد كبير من المناضلين، ومكث في معتقل أنصار الصهيوني في لبنان، أكثر من عام ونصف.

وأبو محمد حزبي وحاد المزاج وفي أحيان كثيرة يتعامل مع الرفاق، وتحديداً الصغار منهم بدرجة عالية من الصرامة والحزم، وهو حاد في المسائل التنظيمية والمالية. وقد اكتسب خلال وجوده في الخارج خبرة تنظيمية في مجال عقد المؤتمرات الحزبية، وكان يقول للرفاق صالح زهران ومحمد السناوي، حول القضايا المتعلقة بالجلسات الثقافية والمالية: "إما التزام أوالشنكر بنكر"، أي استخدام عصا "القشاطة" في العقاب، على سبيل الدعابة..

أبو محمد أكثر ما يكره أن يقوم الرفاق الذين ليس لهم أرصدة مالية بالاستدانة من الصندوق من أجل التدخين، أو يترحلوا من السجن دون دفع المستحقات المالية عليهم لصندوق المنظمة".. وعليك أن لا تناقش أو تمزح مع أبو محمد في أيام الزيارة، وتحديداً عندما يكون هناك منع أو إغلاق متزامن مع زيارة الأهل، فأنت تشعر كم هو غاضب وساخط ومتضايق، وكأن به مس من الجان أو الشياطين..

وكان الرفيق أبو العميد من قرية أودله في نابلس، يثير غضب ونقمة أبو محمد، عندما يقول له تعيش المقاومة ومزيداً من إطلاق الصواريخ، ويرد عليه أبو محمد قصدك المواسير.. وعندما يهدأ قليلاً، يقول كله في سبيل المقاومة يهون..

وأما عندما لا يكون هناك منع، فأنت تراه يصحو باكراً ويستعد من أجل الزيارة، ويكون"على سنجة عشرة"، من أجل لقاء أم محمد والأولاد..

وفي إحدى الليالي، والتي صادفت ليلة العيد، أصيب أبو محمد بنزيف ناتج عن انفجار أحد الشرايين، وتزامن ذلك مع وجود المرحوم الدكتور أحمد المسلماني في الغرفة والذي قدم له الإسعافات اللازمة، وبعد صياح مع إدارة المعتقل استمر لساعات، تم نقل أبو محمد لعيادة المعتقل، ومن ثم إلى مستشفى سجن الرملة، حيث مكث أكثر من شهرين هناك، وفي كل مرة كنا نراجع بها إدارة المعتقل، كان يأتينا الجواب، أن هناك اشتباها بأنه مصاب بالسل، وهو ما يضحك المرحوم الدكتور المسلماني والمتواجدين في الغرفة معه من أسرى، وهذا دلالة على مدى استهتار إدارة السجون بصحة الأسرى الفلسطينيين..

وبعد أكثر من شهرين في مستشفى الرملة، توصل الأطباء إلى أن المسألة ليس لها علاقة بالسل من قريب أو بعيد، بل أن النزيف ناتج عن انفجار احد الشرايين، وليعود إلينا أبو محمد سالماً غانماً، رغم أننا افتقدناه، وكنا نقول على سبيل المزاح"الشنكر بنكر" ودعناه ولن نراه مرة ثانية..

وأبو محمد وزوجته والذين تعودوا على جو لبنان وهواها، لم يتأقلموا مع أجواء بني سهيلا، ولذلك أبو محمد يقول إنه بعد التحرر فإنه يخطط للعودة والعيش في لبنان، لبنان الحب والذكريات.

وأبو الوعد وأبو محمد نماذج لعمق مأساة الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، والذين لن ولم تحل قضاياهم، من خلال بوادر حسن النية لا في أوسلو ولا في أنابوليس، والمسألة بحاجة إلى موقف فلسطيني صلب وتوجه جاد نحو خيارات تمكن هؤلاء الأسرى من نيل حريتهم، قبل أن يتحولوا إلى شهداء..

التعليقات