يوم الأسير: من يُسعف طيور الحرية؟

-

يوم الأسير: من يُسعف طيور الحرية؟
عميقا خلف الزنازين وأقبية السجون الاسرائيلية يواصل نحو ثمانية آلاف مناضل فلسطيني القبض على الجمر متشبثين بحلم شعبهم بالاستقلال، الذي ضحّوا من أجله بربيع أعمارهم.

من بين أولئك الأسرى هناك 150 مناضلا من المواطنين الفلسطينيين في أسرائيل ممن أنخرطوا في حركة التحرير الوطنية منذ شُكلت، وهم لا زالوا منسيين في سجونهم ولم تشملهم صفقات التبادل سوى " صفقة جبريل" عام 1984.

ومضيًا في أغفال قضية الأسرى إقتصرت المشاركة في المظاهرة التي نظمتها جمعية "أنصار السجين" و"لجنة المتابعة القطرية"، يوم الجمعة الماضية، قبالة سجن "شطة"، على ذوي الأسرى وبعض النواب ونشطاء سياسيين يُعدون على أصابع اليد الواحدة، رغم أنّ قصة كل منهم تستبطن الذات الجماعية. قبالة " شطة" -الذي بحيطانه وأسلاكه وحراسه أكثر تحصينا ومناعة من الباستيل الاسطوري- ظلت زوجات وشقيقات وأخوات الاسرى يصرخن برفقة أطفالهن تحت الشمس أكثر من ساعتين، فيما دللت هتافاتهن على تفجر مشاعر الشوق الى معانقة اعزائهن والأسى على ضعف التضامن مع قضيتهم قضية الجميع كما يفترض.

هذا الحضور الهزيل مهما اجتهدنا في تلمس الاعذار لتبريره يعكس حالة " الردة" الاجتماعية والسياسية التي تلازم المجتمع العربي هذه الأيام، وهو صورة من تجليات هروبنا من أنفسنا ومن استحقاقات هويتنا الوطنية. هذه المظاهرة لم تأتِ للتعبير عن التضامن مع أصناف معينة من الحيتان المهددة بالانقراض أو احتجاجًا على تهديد طبقة الاوزون وتلويث البيئة (رغم إقرارنا باهمية القضايا الانسانية)، وإنما أريد لها أن تكون صرخة وفاء وتضامن مع " شموع" أفنت ذاتها لأنارة الطريق الموحشة نحو حرية الشعب الذي ننتمي له.

هذه التظاهرة التي نظمت على هامش المشاركة في فعاليات "يوم الأسير" تحدث مرة واحدة في العام الواحد، والأسرى المعروفون بأسرى 48 وسائر أسرانا الذين نالت منهم الشيخوخة وبقوا اوفياء لقناعاتهم، يستحقون أكثر بكثير مما نقدمه؛ فهم انتصروا لنداء واجبهم الوطني وانتظموا ضمن حركة التحرر الفلسطينية وصاغوا أحلام شعبهم بدماء أفئدتهم.

ورغم أنّ طريقهم وضعتهم تحت طائل القانون الاسرائيلي، إلا أنّ هذا كان أمرًا طبيعيًا، خصوصًا في سنوات الستين والسبعين، قبل مشاريع السلام. وليس صدفة أن صرح رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، أيهود براك، مثلاً، بأنه لو كان شابًا فلسطينيًا لانضم الى حركة المقاومة من دون تردد!

بالتأكيد، غرّد السجناء من المواطنين العرب خارج السرب، لكن تحفّظ جهات غير قليلة من " تغريدهم" وتساؤلاتها حول مدى حكمته ومدى جدواه، لا تغير كلها من حقيقة أنّهم مناضلو حرية ساهموا أيضا بتضحياتهم البالغة في حفظ ماء وجه المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وهويتهم ومجمل علاقاتهم مع شعبهم.

وكما هو الحال في سائر حركات التحرر الوطني يمثل الاسرى الفلسطينيون أحلام شعبهم ويجسّدون وجدانه، وهم يأتون بالمرتبة الثانية بعد الشهداء وكل من يتضامن معهم فهو يتضامن مع نفسه وقضيته. صحيح أنّ إقدام المناضل على ما من شأنه أن يودي بحياته أو يدفعه إلى السجن المؤبد يكشف قناعة صلبة تتوارى في دخائلهم بطريق التحرير غير مرهونة بمدى تكافل الاخرين معه، إلا أنّ التخلي عن مساندتهم يفت من عضدهم ويمس جوهر النضال للحرية بالصميم.

وليتذكر كل منا أنه فيما ينشغل بإنجاز أحلامه البرجوازية من بناء منزل فسيح واقتناء مركب سريع والاستجمام في العالم الرحب وغيرها من متاع الدنيا، فإنّ الأسير يدير المعارك اليومية من داخل مكعبات اسمنتية معتمة بمساحة بعض الأمتار المربعة طيلة عقود لتحصيل ما هو أبسط من بسيط. هم يصارعون لاستنشاق الهواء شبه النظيف خلال "الدورة" في باحة السجن لمدة ساعة، بدلا من نصفها يوميًا، ويضطرون لخوض معارك ضارية بالأمعاء الخاوية من أجل إدخال حفنة من زيت الزيتون أو الزعتر ومن أجل السماح لهم بالتقاط صورة مع الأم أو الأب، ومن أجل ادخال صحيفة وكتاب.

ويُعبّر أولئك عن وطأة معاناتهم برسالة للرئيس الفلسطيني محمود عباس استهلوها بالقول: "طال أسرنا فيما ولدت أجيال وشاخت أمهاتنا وفقد بعضنا أحد والديه، من دون أن يحظى بإلقاء النظرة الاخيرة. ونال الشيب منا ولم نعد شبابًا .نحن سيادتكم معتقلون منذ الحرب الباردة وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي.. قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الاولى والثانية والثالثة... قبل مدريد وأوسلو .. قبل اندلاع الانتفاضة الاولى والثانية.. عمرنا من عمر هذه الثورة واعتقلنا قبل انطلاق بعض الفصائل؛ بل نحن معتقلون قبل اختراع الجهاز النقال والانترنت؛ نحن جزء من تاريخ والتاريخ كما هو معروف فعل ماضٍ انتهى، إلا نحن، فماضٍ مستمر ونرفض أن يصبح مستقبلا".

ولذا فأنه من الطبيعي أن تولي الاحزاب والفعاليات الوطنية الأهمية اللائقة لقضية من طال أسرهم وعذابهم؛ أما أن يأتي النواب العرب والأمناء العامون لـ "التجمع" و"الجبهة" و"الحركة الاسلامية" و"العربية للتغيير" ورئيس لجنة المتابعة بمفردهم، من دون قيام كل منهم بحشد أنصاره لمؤازرة الاسرى دومًا، فهو غير بعيد عن أن يكون إسقاط واجب بدلا من ممارسة القيم التي ينشأ الحزب عليها ويفترض أن ينميها ويذود عنها.

التعليقات