في عيد الأم؛ الطفلة الأسيرة ديما الواوي: بدي أروّح عند امي

إن الجنود الإسرائيليين ألقوها على الأرض، ودعسوا على ظهرها ببساطيرهم ذات النعال الحديدية، وإن الجنود كانوا يتفننون في تعذيبه

في عيد الأم؛ الطفلة الأسيرة ديما الواوي: بدي أروّح عند امي

لا زلت أسمعها وهي تنادي الناس في كل مكان، يترجرج صوتها البريء ويصير شظايا تتناثر في كل الاتجاهات، تستدعي كل ما في السماء وما على الأرض من شرائع روحية وأرضية، وتنعف في وجه الجميع كل المبادئ والنصوص والقرارات والاتفاقيات التي تحظر اعتقال الأطفال وزجهم في السجون واغتيال الأحلام.

هي أصغر أسيرة فلسطينية تقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ديما الواوي (12 عاما)، على قضبان السجن في عيد الأم، في شهر آذار الراحل ماءً وزهرا وحليبا إلى ربيع الحياة، وتنادي: بدي امي، مشتاقة لها، مشتاقة للمدرسة، مشتاقة للدفتر والشجرة، مشتاقة للمريول والجري في باحة البيت كفراشة حرّة، بدي أمي، بدي أمي.

لم يجرب قادة العالم السياسي وفقهاء القانون الدولي والقائمون على العدالة الإنسانية، تلك اللحظة عندما يداهم جيش الاحتلال منازلهم بالسلاح والكلاب المفترسة، يدمر ممتلكات البيت ويزرع الرعب في نفوس النائمين، يعتقل أطفالهم الصغار من فراش النوم، يقيدهم ويعصب أعينهم ويركلهم ويضربهم ويأخذهم في عتمة الليل مع نعاسهم ودهشتهم وصدمتهم إلى تلك السجون والمعسكرات.

هؤلاء القادة لم يسمعوا شهادة هذه الطفلة القاصر وهي تقول: ا، واستخدموها 'لعبة تعذيب'، يسخرون منها ويصورونها بأجهزتهم الخلوية، كأنهم لم يكونوا أطفالا، أو أنهم لأول مرة يرون طفلة تتحداهم وترفض وجودهم في حياتها، تريد أن ترى المستقبل بلا احتلال وقيود ومستوطنات وإعدامات.

لم يسمع قادة العالم ديما الواوي، وهي تقول: إن المحققين الإسرائيليين أرعبوها وهددوها قائلين:  بدنا ندفنك بالقبر وأنت حيّة. وإن المجندات عروها من ملابسها، وحشدوا كل طاقاتهم لإسكات تمردها وتقليم أغصانها الغضة، لقد رأوا فيها جيلا آخر لا يجوز أن يكبر أو ينمو، وإنما عليه أن يدفن في الزنزانة الضيقة، وأن يحاصر وعيه مبكرا بكل الأسلاك الشائكة.

'بدي أروّح عند أمي، أخذولي الأقلام والمحاي'، وأخذت تبكي بشدة، دموع ساخنة دافقة، هي الأسيرة الطفلة كريمان سويدان ( 14 سنة) ابنة الصف التاسع، تفتش عن أمها في عيد الأم، أين الهدايا؟ أين المساء الدافئ في البيت؟ وتجهش بالبكاء وهي تصرخ: اشتقت لأمي ولأبوي ولأخوتي ولبنات صفي بدي أروّح'.

الطفلة كريمان دعسوا على رأسها خلال نقلها في السيارة العسكرية، ضربوها بوحشية وهددوها باعتقال امها وأبيها إذا لم تعترف، ضربوا رأسها بحديد السيارة، وهناك في معتقل الجلمة فتشوها تفتيشا عاريا، وزجوها في زنزانة مليئة بالصراصير، صراخ السجانة والبرد الشديد والأكل السيئ والرائحة القذرة، وإجبارها على التوقيع على أوراق باللغة العبرية، إنه الخوف والرعب، أشباح المحققين، ضحكاتهم الهستيرية، لا نوم للأطفال، لا ضوء في تلك العتمة الداكنة.

الأطفال هم المستهدفون في حملة الاعتقالات المستمرة، وهم المستهدفون للقناصة الإسرائيليين المقنعين، وهم المستهدفون لحكومة إسرائيل التي ترى فيهم خطرا وجوديا على بقائها ومستقبلها، لهذا يلاحقونهم بالاعتقال والرصاص وبالأحكام الجائرة.

في عيد الأم، نحمل وردة إلى تلك الأم التي تنتظر أطفالها القابعين في السجون، وإلى تلك الأم التي لا زالت قيد الأسر تنتظر عودتها إلى أطفالها الحالمين، وإلى تلك الأم التي أنجبت شهيدا، يسمو بروحه وسلامه مع الصاعدين.

هي الأم... أراها منذ الفجر حتى الفجر في رحلة رمادية الى السجون، ينفجر قلبها حنيناً تارة، وينفجر غضبا تارة أخرى، فكل ما حولها معسكرات وأبراج ومستوطنات وثكنات، وعلى شبك الزيارة تقول لطفلتها الأسيرة: جئتك عبر دولة تقوم على الحراب، قطعت المسافات كلها منذ النكبة حتى سجن الدامون، وليس معي لك سوى قلبي وخبزا بالزعتر، وضوء نجمة رافقتني طوال الطريق'.

الأم تسأل ديما ماذا تريدين أن تقولي للعالم؟ أجابت: أريد أن يعرف العالم بأن ينتبهوا لأنفسهم، حتى لا يصيبهم ما يحدث لنا.

هذا وباء، تقول أم لثلاثة أطفال معتقلين، يأخذون أولادنا لتحطيمنا نفسيا، وهذا يؤثر في المجتمع بأكمله وفي كل الناس، لا أظن أن أيا منّا قد تعافى من صدمة رؤية أولادنا وهم يؤخذون منا.

في عيد الأم، ماذا نقول لها وهي تتغرب عن أطفالها الصغار، تسمعهم خارج سرير المهد والصلوات والدعوات، تراهم مكلبشين حائرين لا يبتسمون، يتلفتون رعبا هنا وهناك، تسألنا كيف تنام ديما دوني، وكيف تغفو كريمان قبل أن أروي لها حكاية جميلة تحلم بها حتى الصباح.

ترنو الأم إلى طفلتها، عائمة بين أمواج حزنها، أسئلة كثيرة تراها تحت أهدابها، وليس فيها سوى ملاكها، ووحشتهم ودخان في صوتها، وحجر في قبضتها.

اقرأ أيضا: حملة ضغط دولية للمطالبة بالإفراج عن أصغر أسيرة فلسطينية

ترنو الأم إلى طفلتها، شهيدة أو أسيرة، تقول لنا ولهم: إذا كنت قد قدمت طفلتي قربانا لهذا البلد، وأعلنت موت الأمومة وفتحت جرحي على المدى، فالحياة وجه طفلتي ترعى الغيوم، تعود وتعود بعد قليل، ما البلد إن لم تكن باب حب وعطاء على الكون؟ أصغيت إليها، وانحنيت على جرحها، وتشعبت فيها، كأني جذر تمدد وتمدد.

سمعت أمي تقول

أيها الطفل الحميم

لا تنم، لا تنم

قبل أن تتقبل ناري

وتصهر جمري في جمرك الكريم 

التعليقات