16/01/2022 - 20:11

صفد...  سقوط المدينة (4/4)

كان السقوط المتتالي لقرى قضاء صفد، على عين قوات جيش الإنقاذ منذ مطلع كانون الثاني/ يناير 1948، دون أي إرادة سياسية للتحرُّك، أو شرف عسكري لمنع سقوطها؛ يحسم مصير صفد المدينة نحو سقوطها الحتمي

صفد...  سقوط المدينة (4/4)

امرأة تقف على سطح منزلها في صفد

هذه المقالة هي الجزء الرابع والأخير من مقالات حول مدينة صفد، إذ سبقتها ثلاث مقالات، الأولى؛ "خُبز الغزال... من ذاكرة بَرّ مدينة صفد"، والثانية؛ "صفد من ذاكرة الناس وحكايا التأسيس"، فيما جاءت الثالثة تحت عنوان: "صفد: من ليالي البرد والبارود".


من يقنع الصفديين أن مدينتهم لم تُسلّم تسليما؟ كانت مدينة صفد وكذلك الصفديون، لحظة احتلال مدينتهم في ليل العاشر من أيار/ مايو لسنة 1948، أصغر بكثير من تاريخهم القتالي وذاكرتهم الثورية، منذ أن دبت أحذية الغُزاة الإنجليز فوق شِعاف جِبالهم وشِعاب أوديتهم.

إن كل أدبيات الصهاينة عن احتلال صفد الذي عدّوه "تحريرا يهوديا" لها، سواء كانت الأرشيفات، أو مذكرات قيادات الـ"هاغاناة"، أو حتى الباحثين ومنهم من أُطلق عليهم "المؤرخون الجدد"، جميعها نظرت ليوم العاشر من أيار/ مايو ضمن سردية "مظلومية" يهود صفد وحارتهم في المدينة، إذ برّر الصهاينة، حصارهم لصفد واحتلالها كرد فعل على الطوق الذي ظلّ يفرضه عرب مدينة صفد على يهود المدينة وحارتهم، منذ صدور قرار التقسيم في تشرين الثاني/ نوفمبر من نهاية عام 1947(1).

للمنتصر دائما رواية واحدة ومتماسكة بصرف النظر عن صحتها، بينما للمهزوم روايات عن هزيمته، فأهالي مدينة صفد عموما يحمّلون النظام العربي وجيش إنقاذه الذي وصل المدينة في كانون الثاني/ يناير من سنة 1948، مسؤولية ضياع المدينة وفلسطين عموما وسقوطهما بيد الصهاينة، إلى حد اتهام زعماء في الدول العربية الناشئة وقيادات في جيش الإنقاذ بالتراخي المُتعمَّد في الدفاع عن صفد، لا بل تسليمها.

فيما شملت الأدبيات العربية المكتوبة عن سقوط المدينة، كتاب العابدي: "صفد في التاريخ" وهو الذي عاش وعاين سقوط المدينة خلال تواجده وعمله فيها مدرّسا. ومنها كذلك مذكرات بعض القيادات العسكرية العربية التي وصلت فلسطين وشاركت في القتال، مثل محمد هشام العظم، الذي قيّم سقوط صفد بعنوان: "في أعقاب معركة صفد 1948".

وجادو عز الدين الذي اشترك في معركة صفد وكتب عنها ضمن مذكراته بعنوان: "من مذكرات حرب فلسطين (جيش الإنقاذ)". وكذلك الشيخ عبدالله بن الشيخ أمين القاضي حسيني الذي كتب في مذكراته: "سقوط صفد".

ثم غيرها، من الدراسات البحثية الحديثة عن صفد وسقوطها مثل كتاب "تاريخ صفد" للباحث مصطفى العباسي. وكذلك دراسة محمد جمال باروت بعنوان: "سقوط صفد: فاتحة سقوط الجليل". والكتب التذكارية عن المدينة مثل كتاب: "مدينتي صفد، الشمس تُشرق من هناك" لمحمد أمين صبحي العسكري.

ليس من مجال لتناول ما أوردته وقالته كل هذه الأدبيات عن سقوط المدينة، إلا أنها جميعا تجمع على "غياب الجهوزية العسكرية للدفاع عن المدينة"، كسبب لسقوطها وترحيل أهلها. بينما تختلف هذه الأدبيات في الدوافع السياسية وراء هذا الإخفاق العسكري.

جانب من المدينة عام 1946 (المَكتب الصَّحافي للحكومة الإِسرائيليَّة)

تُصوِّر الرواية الصهيونية احتلال صفد على أنه "تحرير" وفعل بطوليّ في ادعاء أن فئة قليلة من المقاتلين الصهاينة قد استطاعت التغلب على أضعافها من المقاتلين الفلسطينيين والعرب، وهذا الادعاء "البطولي" من حيث قلة تعداد قوات الصهاينة في مقابل أضعافه من العرب، ينسحب في الرواية الصهيونية على معارك فلسطين كلها في أعمال الطرد عام النكبة، إلى أن كشفت المواد الأرشيفية الإسرائيلية في العقود الأخيرة العكس، إذ تفوّقت العصابات الصهيونية في العتاد والتعداد أضعاف المقاتلين الفلسطينيين العرب بنسبة تقارب في التعداد، واحدا إلى ثلاثة في بعض المواقع والجبهات.

أما عن صفد تحديدا، فإن الرواية الصهيونية عن احتلال المدينة تشير إلى أن أقلّ من 200 مسلّح يهودي، قد واجهوا قوة عربية من مسلّحين محليين ومتطوعين، تراوَح تعدادهم ما بين 3500 - 4000 محارب(2). غير أن المصادر والمراجع العربية، منها ما كتبه عارف العارف، يؤكد أن تعداد المدافعين المسلّحين العرب عن المدينة، لم يكن قد تجاوز الـ600 مسلّح(3). فيما يذكر العباسي الذي اعتمد في أرقامه على الأرشيفات العبرية، أن القوات العربية قد بلغ تعدادها 690 محاربا في بداية أيار/ مايو 1948، منهم 444 من المدافعين المحليين من أبناء مدينة صفد، والذين يؤكد العباسي أنهم لم يكونوا جميعهم مسلّحين. بينما قوات الصهاينة التي كانت على درجة عالية من الجهوزية والتدريب، قد تراوحت ما بين 550 إلى 600 مسلح من قوات الـ"هاغاناة" والـ"بلماح"(4).

على صفد السلام

كنعان والقلعة وكذلك مركز البوليس، كانت هذه المواقع الأكثر حساسية، والتي ظلّت تحت سيطرة الإنجليز طوال فترة انتدابهم على المدينة، وذلك حتى السادس عشر من نيسان/ أبريل سنة 1948. كان الموعد الرسمي المُقرر لانسحاب الإنجليز من البلاد هو الخامس عشر من أيار/ مايو من لعام ذاته. وبعد انسحاب الإنجليز، سيطرت القوات العربية المدافعة عن صفد على تلك المواقع.

أما في ما يخصّ مواقف الإنجليز من الصراع العربيّ - اليهوديّ في المدينة، طوال المناوشات التي بدأت منذ صدور قرار التقسيم أواخر سنة 1947، وحتى خروجهم من المدينة في منتصف نيسان/ أبريل سنة 1948؛ فقد ثابر الإنجليز على إظهار أنفسهم بلعب دور الوسيط بين طرفيّ الصراع، بينما تثبت الوقائع غير ذلك في كثير من الأحيان، وكان آخرها في أحداث معركة صفد حينما قامت الوحدة الإيرلندية من الجيش البريطاني، بتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي والعسكري كذلك لصالح اليهود(5).

أما عن قوات جيش الإنقاذ، فقد دخلت فلسطين ما بين العاشر والثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 1948، بقيادة أديب الشيشكلي وانتشرت في مناطق الجليل، وكانت قد اتخذت من قرية الصفصاف مقرّا لها، بينما يُذكر في مصادر أخرى، أنها قد أقامت مقرها ونقطة ارتكازها في قرية الرأس الأحمر(6)، ممّا أثار حفيظة الصفديين، بحسب العابدي الذي سأل أديب الشيشكلي بنفسه عن ذلك، بعد أن نقل له امتعاضَ أهالي مدينة صفد، من جَعْل مركز القيادة في قرى ريف المدينة وليس في المدينة، دون أن يقدّم له الشيشكلي أيّ تفسير عسكري أو سياسي عن ذلك(7).

من بين قوات جيش الإنقاذ، كان الضابط السوري إحسان كم ألماز، من أكثر الضباط القادمين من الدول العربية حظوة في قلوب الصفديين، وظلّ اسمه محفورا في ذاكرة أبناء المدينة إلى عقود تلت بعد تهجيرهم منها.

عمل إحسان كم ألماز على تدريب القوات الصفدية المحلية، وعُيِّن قائدا لحاميتها، ولمّا حاول مهاجمة حيّ اليهود في الثامن عشر من نيسان/ أبريل، بعد انسحاب الإنجليز من صفد، ودخول الإمدادات العسكرية للحيّ، قام بعض ضباط جيش الإنقاذ، وتحديدا الضابط الأردني ساري الفنيش، بنهيه عن ذلك، إلى حد رفع فيه فنيش مسدسه بوجه كم ألماز مهددا إيّاه بالقتل، بحجة أن الأوامر العليا تقتضي الدفاع عن المدينة فقط، وليس الهجوم. عندها غادر إحسان كم ألماز مدينة صفد، صائحا بأعلى صوته في شوارعها، وعلى مسمع أهلها، قائلا: "على صفد السلام"(8).

الاقتلاع والضياع

كان السقوط المتتالي لقرى قضاء صفد، على عين قوات جيش الإنقاذ منذ مطلع كانون الثاني/ يناير 1948، دون أي إرادة سياسية للتحرُّك، أو شرف عسكري لمنع سقوطها؛ يحسم مصير صفد المدينة نحو سقوطها الحتمي، فقد سقطت قرية الخصاص في الحولة في يوم 18/12/1947، وكذلك قرية سعسع في 14/2/1947، ثم قريتي تليل والحسينية في 12/3/1948.

جانب من منازل صفد عام 1936

وفي أواخر نيسان/ أبريل ومطلع أيار/ مايو، ضيّق الصهاينة، الخناق على مدينة صفد، بعد احتلال قريتَي بيريا وعين الزيتون، أقرب القرى للمدينة. كان ذلك في ليل الخامس من أيار/ مايو، قبل بأيام معدودة من احتلال صفد، وقد ارتكب الصهاينة مذبحة في عين الزيتون، راح ضحيتها العشرات من شبان القرية(9)، فضلا عن نَسْف مُعظم بيوت عين الزيتون وبيريا.

بعد أن احتلّ الصهاينة قريتَي عين الزيتون وبيريا، وسيطرتهم على خطِّ إمداد حارة اليهود، واشتداد قصْفِهم لأحياء صفد العربية، توجّه وفد صفدي برئاسة زكي أفندي قدورة إلى دمشق، من أجل توفير السلاح والذخيرة، غير أن ردّ رئيس سورية حينها، شكري قوتلي على طلب الوفد كان أنّ "العين بصيرة واليد قصيرة". بعدها توجّه قدورة بوفده إلى الملك عبد الله في الأردن الذي أمدهم بـ130 متطوعا بقيادة عز الدين التل، وملازم أردنيّ آخر يُدعى جميعان(10).

في الأثناء ذاتها، بدأ نزوح الصفديين من مدينتهم، مذعورين ومستغربين من صمت جيش الإنقاذ عن ترْك عين الزيتون لمصيرها الذي حلّ بها، والتي تُعدّ خطَ دفاع أوّل عن مدينتهم!

حاصرت قوات الـ"هاغاناة" والـ"بلماح" الصهيونيتين، صفد من جهاتها الثلاث، وأبقت على الجهة الغربية من وادي الطواحين مفتوحة لإخلاء المدينة منها.

أديب الشيشكلي

وفي التاسع من أيار/ مايو عشيّة سقوط المدينة، غادر الشيشكلي والفنيش صفد، تاركين القيادة لجميعان، الذي أصدر بدوره أوامره بالانسحاب في ليل العاشر من أيار/ مايو، لتسقط صفد يوم الحادي عشر من الشهر ذاته. اقتُلِع أهالي صفد من مدينتهم في ليلة ماطرة على غير العادة في كل أيار من تاريخ المدينة. وترافق وابل المطر مع وابل القنابل، فيما كان سَيْلٌ من البشر، عبر وادي الطواحين ليلا، يجّر لحمه فوق سيول الماء والشقاء، ليكون آخر ما ردّده معري صفد الشيخ سليم الخضرا، في آخر ليلة لأهل المدينة فيها:

صفد وطني وبها وطري

حيّا صفدا وابل المطرِ

قال الشيخ هذه الكلمات، فيما الدمع والمطر معا يبللان لحيته ثم شهق باكيا ومكملا شِعره قائلا:

هل أعود لأدفن في ثراك؟ من يدري؟(11)


الهوامش:

1. عن تلك الأدبيات، راجع: العباسي، مصطفى، صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917 - 1948 - دراسة اجتماعية وسياسية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2005، ص 258 - 260.

2. المرجع السابق، ص 282.

3. العارف، عارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1947 - 1952، دار الهدى، جزء 1، ص300.

4. العباسي، مصطفى، المرجع السابق، ص 284.

5. المرجع السابق، ص 271.

6. يَذكُر العباسي في دراسته أن مركز إقامة جيش الإنقاذ كان في قرية الصفصاف، بينما يؤكد محمود العابدي في كتابة "صفد في التاريخ"، أن مقر إقامة جيش الإنقاذ كان في قرية الراس الأحمر.

7. العابدي، محمود، صفد في التاريخ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1977، ص 227.

8. المصدر السابق، ص 230.

9. عن مذبحة قرية عين الزيتون، راجع : حبيب الله، علي، عين الزيتون... حكاية الدم والدمع، عبر موقع "متراس"، تاريخ 5/2/2019.

10. العابدي، محمود، المصدر السابق، ص 231.

11. المصدر السابق، ص 232.

التعليقات