مساهمة عربية في إنتاج النكبة الفلسطينية../ عبد الاله بلقزيز

مساهمة عربية في إنتاج النكبة الفلسطينية../ عبد الاله بلقزيز
لم يجانب ياسين الحافظ الصواب حين قال، قبل أربعين عاماً، إن التأخر العربي هو الذي أنجب “إسرائيل"، ولن نتزيد حين نقول إنه عينه الذي يحمي بقاءها حتى اليوم ويوفر لها أسباب الأمن الذاتي.

نعم، في وسع أي منا أن يقرأ نجاح الحركة الصهيونية في إقامة كيانها على أرض فلسطين، قبل ستين عاماً، وفي تحويله إلى دولة قوية ضاربة بوصفه (أي النجاح) ثمرة لدعم استعماري لم ينقطع يوماً عن تلك الحركة ودولتها، فلا تخطئ قراءته التقدير، وفي وسعه ان يعزو نجاحها إلى إدراكها المبكر إلى حاجة الاستعمار إلى “إسرائيل"، في قلب المنطقة العربية وما قد تعنيه تلك الحاجة من فرص نادرة للحركة الصهيونية لتوفير موارد قوة لم يكن ممكناً لها توفيرها بإمكاناتها الذاتية في مثل ذلك الزمن القياسي.

ومرة أخرى لن يكون التعليل مخطئاً، وربما مال بعضنا إلى التشديد على صلة ذلك النجاح الصهيوني بالاقتدار الملحوظ في مجال تنظيم “الدياسبورا" اليهودية في انحاء العالم وإتقان استدماجها في المشروع الصهيوني بدءاً من توفير مادته البشرية (الهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين) وصولاً إلى توفير الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري له (اللوبي اليهودي - الصهيوني في أمريكا وأوروبا) مروراً بتوفير الموارد المالية (من طريق التبرعات اليهودية العالمية للوكالة اليهودية و"إسرائيل" وتبرعات الدول الكبرى)، ولن يجانب هذا البعض الصواب في ما ذهب إليه.

في الوسع ذلك كله لأن الحركة الصهيونية ما نجحت في تهجير يهود العالم إلى فلسطين إلا بمساعدة الاستعمار البريطاني الذي مكنها من وعد (وعد بلفور) بإقامة “وطن قومي لليهود" ووفر لمشروع الهجرة اليهودية السند القانوني واللوجستي، وما نجحت في الحصول على “الحق القانوني" لها في إقامة الدولة اليهودية إلا بمساعدة الاستعمار البريطاني (بدءاً من تقرير “لجنة بيل" الملكية حول تقسيم فلسطين في نهاية الثلاثينات وصولاً إلى القرار 181 في الأمم المتحدة في نوفمبر من العام 1947)، ولا هي تمكنت من إعلان قيام دولتها في الخامس عشر من مايو/أيار 1948 إلا بالتنسيق مع سلطة الانتداب البريطاني عشية انسحاب قواته من فلسطين، ولا هي تمكنت من خوض الحرب ضد الجيوش العربية السبعة في العام نفسه والانتصار فيها وتوسيع نطاق سيطرتها على أراضٍ فلسطينية جديدة - تقع خارج نطاق تلك التي منحها قرار التقسيم لليهود - لولا المساعدة العسكرية البريطانية للقوات الصهيونية.

ثم إن هذه الدولة لم تستطع الصمود والتوسع وخوض حروب الأعوام ،1956 ،1967 ،1973 ،1982 ،1996 ،2006 وبناء القاعدة الصناعية - العلمية المتطورة، وحيازة القدرة النووية والتفوق العسكري في ميدان السلاح التقليدي على البلدان العربية مجتمعة، إلا بدعمٍ مباشر من الدول الاستعمارية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية).

ومع صحة ذلك كله، كم يبدو لنا سهلاً - بل سخيفاً ومبتذلاً - أن نهرب بتفسير هزيمتنا في وجه “إسرائيل"، ونهربه، إلى العامل الخارجي كما لو أن مجتمعاتنا ودولنا بريئة مما حصل لفلسطين وشعبها منذ النكبة، قبل ستين عاماً، وحتى اليوم، فمن ذا الذي يصدق أن تهزم جيوش دول (عربية) أمام عصابات (صهيونية) مسلحة؟ ومن يصدق أن يتحدى أربعة ملايين يهودي أمة من ثلاثمائة مليون نفر، فيحتفظون بأرض سرقوها وأخرى احتلوها ويفرضون شروطهم بكل كبر وتحقير لمن يتوسلون منهم السلام؟

ما كان في وسع الشعب الفلسطيني وثواره، منذ عشرينات القرن العشرين وحتى اغتصاب وطنه، أن يرد هجوم الحركة الصهيونية عليه بسبب النقص الحاد في موارد القوة لديه.

لكنه كان في وسع العرب نجدته في ذلك الحين، وهو اليوم لا يملك - بقواه الذاتية - كسر شوكة “إسرائيل" لكن العرب يملكون نصرته لو شاءوا وإجبار “إسرائيل" على الانسحاب من المناطق المحتلة عام ،67 من لم يصدق، عليه أن يتذكر ماذا كانت تستطيعه حرب اكتوبر 73 التي توحد فيها السلاح مع المال مع النفط فأنتج ذلك النصر النسبي قبل اغتياله سياسياً في “كامب ديفيد".

إن اغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية عليها ما كان ليكون لولا ذلك التأخر التاريخي الذي دبت مفاعيله في الحياة العربية منذ ذلك الحين. وصيرورة تلك الدولة قوة امبراطورية في بحر جيلين ما كان ليكون لولا أن تلك المفاعيل ما زالت تسري في الاجتماع السياسي العربي حتى اليوم، لم تكن “إسرائيل" قدراً لولا أن التخلف والتجزئة مهدا لها، وهي لن تكون قدراً حين ستشق الأمة طريقها نحو التاريخ وتأخذ مصيرها بنفسها، إن استمرار الكيان الصهيوني أمر مستحيل في محيط شعبي عربي ينبذها ومهما جربت من حروب عدوانية وغزو وقهر واحتلال، فهي لن تحظى بالشرعية ولن تنعم بالبقاء الدائم، أما معاهدات “الصلح" و"السلام"، فلن تفيد في غفران الأمة لخطيئة الصهيونية أو في تزوير حقائق الصراع ومحو الذاكرة الجماعية، غير أن نقطة ضعف هذه الحقيقية التاريخية والنفسية والقومية والدينية في وجدان الأمة هي غياب المشروع التحرري والوحدوي العربي الذي يحولها إلى حقيقة مادية.

هانحن، إذن، نصطدم مرة أخرى بالحقيقة المرة: إن غياب هذا المشروع ليس شيئاً آخر غير استمرار مفاعيل حالة التأخر التاريخي في حياتنا.
"الخليج"

التعليقات