فلسطين: قضية العرب أم مشكـــلة الفلسطينيّين؟ (1/2)../ د.عزمي بشارة

-

فلسطين: قضية العرب أم مشكـــلة الفلسطينيّين؟ (1/2)../ د.عزمي بشارة
إنه لشرف كبير لي أن أكون اليوم بينكم في هذا الصرح الأكاديمي العريق بمناسبة الذكرى الواحدة والستين للنكبة، وهو الصرح ذاته الذي شهدت أروقته منذ ستين عاماً الكلمات الأولى لكتاب قسطنطين زريق «معنى النكبة»، وكتابه الثاني «معنى النكبة مجدّداً» في ما بعد.

صحيح أن آباءنا (أجدادكم أنتم الشباب) الذين عاشوا النكبة حينذاك، لم يتوقعوا يوماً أن نحيي الذكرى الواحدة والستين للنكبة لأنهم كانوا موقنين حينها بأنها دولة مزعومة لن يكتب لها الحياة طويلاً في تاريخ المنطقة العربية وضمن جغرافيتها، إلا أنّ الصهاينة أيضاً، وفي أسوأ كوابيسهم، لم يظنوا أبداً أنه بعد مرور واحد وستين عاماً على النكبة، سيكون هناك شباب ما زالوا مصرّين على إحياء تلك الذكرى.

ويكتسب وجود هذا الحشد هنا اليوم معنى خاصاً، إذ إنه يمثّل ردّاً حاسماً على من سوّلت له نفسه من الرؤساء العرب أن يهنّئ إسرائيل من دون خجل بيوم «استقلالها» الذي هو يوم نكبة للفلسطينيين.

هذا الحشد الكبير في هذا الصرح الوطني والأكاديمي الكبير هو دليل قاطع على أن القضية ما زالت حية، ما يدحض مزاعم الدولة الصهيونية وبعض الدول العربية الرسمية التي فقدت ذاكرتها ولم تعد تعرف التاريخ الذي سبق عام 1967.

إن مجرد وجودنا اليوم سوية لإحياء ذكرى النكبة، يثبت عمق الهوة التي تفصل بين النظام العربي الرسمي والرأي العام العربي.
اكتسبت عملية إحياء ذكرى النكبة أهمية خاصةً منذ إطلاق ما يُسمى بعملية السلام العربية التي لم يكتب لها الانطلاق، ناهيك بالاستمرار لولا مجموعة فرضيات عمل، منها فصل القطري عن القومي، ويُعدّ تهميش ذكرى النكبة عام 1948 إحدى أهم ركائزها. إذ يتناول المعجم السياسي العربي الحالي كلاماً بشأن تحرير الدول العربية لأراضيها المحتلة عام 1967، ما يشير إلى وجود صراعات عربية إسرائيلية سابقة أدّت إلى احتلال أراضي بعض الدول عام 67. أي أن حالة الحرب كانت سائدة ما بين عامي 48 و67، حيث قاتل العرب في الجولان وسيناء من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، أو قاتلتهم إسرائيل لأنهم لم يعترفوا بها، ولأنهم رفضوا توطين الفلسطينيين، وكانت حالة الحرب سياسة بعضهم الفعلية، وسياسة الجميع الرسمية على الأقل.

أما الركيزة الثانية فهي افتراض قضية فلسطين مشكلة الفلسطينيين، ومشكلة كيانية فلسطينية في النهاية.

وحتى ذلك الحين، اعتبرت إسرائيل أي تحرك عربي حتى على مستوى تحديث الدولة تهديداً لها، لأن فلسطين لم تكن بمفهوم العرب قضية الفلسطينيين وحدهم، بل كانت قضية العرب أجمعين؛ فقضية فلسطين ارتبطت في الواقع وفي الأذهان ارتباطاً وثيقاً برؤية هذه الأمة لنفسها ولمستقبلها.

صحيح أن الفلسطينيين كانوا الضحية المباشرة، إلا أن الأمة العربية برمتها كانت هي المستهدفة بالتجزئة والهيمنة من الاستعمار. أما سعي بعض الدول العربية إلى عقد صفقة منفردة في سياق ما يعرف باتفاقيات سلام منفرد مع إسرائيل، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، فقد انطلق من ضرورة وضع حد للصراع من منطلق أمن الأنظمة لا مصالح شعوبها ودولها، وقد تطلب وضع حد لصراع الدول العربية مع إسرائيل الافتراض أن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين وحدهم؛ فالصهيونية في الأساس هي مشروع سياسي للحركة الصهيونية التي رأت نفسها حركةً قومية حديثة متحالفة مع الاستعمار وجاهزة للتحول إلى استعمار استيطاني كتذكرة دخول إلى الحضارة الغربية وإلى عالم الأمم الغربية. وقد تبنّاها الاستعمار البريطاني لأسباب ثقافية واستراتيجية واقتصادية، واستهدف الأمة العربية في إطار فكرة تجزئتها وتقسيمها.

لذا، من أجل السير في ركب عملية سلام، تمسي الإصابة بالنسيان الجماعي ضرورة حتمية، بهدف التخلص من الذاكرة الجماعية.

صحيح أنّ الصهيونية سعت إلى تكريس نفسها حركة قومية تبني أمة على غرار قومية أوروبا الوسطى في القرن التاسع عشر بهدف تحرير الإنسان اليهودي من حالة المنفى من خلال بناء الدولة ونفي المنفى، وليمسي اليهود شعباً كبقية الشعوب، وصحيح أنه كان هنالك جانب ثقافي ديني متعلق بنظرة الأنغليكانية الرسمية لمهتمها التاريخية، إلا أن تبني الاستعمار للصهيونية، (وتبني الأخيرة له ولأهدافه) يتسم بأبعاد أخرى مختلفة تماماً تتعلّق برؤيته الاستراتيجية للمنطقة لا فلسطين وحدها.

و«صُودف» أنّ الشعب الفلسطيني هو من كان موجوداً على الأرض، فـ«تعثّر» المشروع الصهيوني بهذا المشروع الوطني القائم على أرضه. ولذلك فإن اعتبار قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين وحدهم، يعني حكماً تزوير التاريخ؛ ولا عجب في ذلك، إذ إن هناك صناعات أكاديمية كاملة تعتاش على تزوير التاريخ. ولا بد أن يقوم تزوير التاريخ في مثل هذه الحالة المتعلقة بمعنويات الأمة وفهمها لذاتها ولتواصلها على تشويه النفوس قبل تشويه عملية التأريخ. فهو يحتاج إلى إنشاء عربي من نوع جديد، تطغى عليه القطرية، وهذا يعني حتى القبلية والطائفية وغيرها في الدولة القطرية، فمن لا يعتبر قضية فلسطين قضيته لا يكتفي بذلك بل يبدأ وينتهي إلى التعريفات الأضيق. حيث لا يعود جنوب لبنان قضية كل اللبنانيين والعرب، ولا الجولان قضية كل السوريين والعرب، بل تضيق الانتماءات تدريجياً ليتفوّق الانتماء القبلي والعائلي والعشائري على ما عداه من انتماءات... جنوب لبنان محتل هذه قضية الجنبويين... وإذا انتشر هذا النمط فقد يؤدي إلى أن كون الجولان محتلاً ربما يفترض أن يعني ذلك الجولانيين، كما تعني غزة الغزاويين والقدس المقدسيين. لا حدود لما قد يصل إليه التدهور الذي يبدأ بالتخلي عن قومية المعركة ضد الاحتلال والاستيطان.

قضية فلسطين هي إما قضية العرب، أو ليست قضية بل صراع حدود بين كيان فلسطيني وآخر إسرائيلي، تماماً مثلما هي مسألة عالقة في عملية صناعة السلام بين إسرائيل والدول العربية المنفردة.

ليس هناك من قضية فلسطينية غير عربية، وليس هناك من قضية فلسطين منفصلة عن المسألة العربية. أما اعتبار قضية فلسطين مقتصرة على قضية الأراضي المحتلة عام 1967 فيعني كما أسلفنا أولاً: تنظيم عملية نسيان لنكبة عام 48، وثانياً: تهميش قضية اللاجئين كقضية تفاوضية، وثالثاً: بداية التعريف بالذات خارج السياق العربي من خلال كتابة تاريخ منفصل لكل كيان على حدة خارج السياق العربي الشامل.

وليس صدفة أن يجري بموازاة خيارات السلام المنفرد إحياء لهويات غير قائمة ولا متخيلة كالهوية البابلية والفينيقية والفرعونية، ثم لننتهي منها إلى الهويات ما قبل القومية مثل الهوية الطائفية. فهذه على الأقل حقيقية، أو على الأقل قابلة للتخيل، وهي التي تقوم عليها الهويات القطرية. رابعاً، الإصرار على ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني مسؤول عن شؤون الفلسطينيين للتحرّر من عبء القضية الفلسطينية.

كانت هذه ضرورة، ولكن التعاطي الرسمي معها وتشجيعها لم يكن بريئاً، ولم يكن لمصلحة الفلسطينيين، فهي لم تسعَ للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما كان يهمها التحرر من عبء القضية الفلسطينية وإلقائه على «أصحابه» الجدد.

لمسألة الاعتراف بالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وجهان: وجه تحرير القرار الوطني الفلسطيني من الصراعات العربية العربية أو المحاور العربية العربية كما تفاعلت في الستينيات والسبعينيات وبعد حرب أكتوبر 73، ووجه آخر هو التحرر من عبء القضية الفلسطينية والتمهيد لسلام منفرد.

أثّرت قضية فلسطين حتى على صناعة الهويات في الوطن العربي، ناهيك بالإيديولوجيا. فهي إذاً قضية في صلب ما يجري في كل دولة عربية، لذلك هي قضية عربية باميتاز. وعندما اكتشف الرئيس أنور السادات فجأة محبته للفلسطينيين ودعم بقوة الممثل الفلسطيني الوحيد عام 74 في الرباط في مواجهة الأردن، لم يكن ذلك بدافع الحرص على استقلالية القرار الفلسطيني، بل استعداداً لعقد اتفاقية «كمب دايفيد» وتمهيداً، لا لتحرير القرار الفلسطيني من التأثير العربي، بل لتحرير قراره هو من القضية الفلسطينية، داعياً الممثل الفلسطيني لتدبير شؤون شعبه. وكانت سبقت ذلك تغيرات بنيوية حقيقية في الاقتصاد والسياسة وخيارات جديدة في ما يتعلق بالتحالفات الدولية.

تُبنى كل الفرضيات السابقة كما أسلفنا على أن ارتباط العرب بقضية فلسطين بدأ عام 67 بسبب احتلال أراضي دول عربية، بعدما كانت مقتصرة على الفلسطينيين منذ عام 48 . إلا أنه حتى القراءة التي تبدأ عام 67 لتصل إلى المفاوضات تثبت أن قضية حق العودة ليست قضية تفاوضية، إذ إنها لا تصلح للتفاوض... لا في مسار تفاوضي عربي منفرد ولا في إطار تفاوضي فلسطيني منفرد، فإسرائيل لا تتراجع في مسألة حق العودة على طاولة مفاوضات.

وما يجري اليوم من مفاوضات لا يهدف إلا إلى عقد سلام منفرد عربي إسرائيلي، وسلام منفرد فلسطيني إسرائيلي بدلاً من إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.

وفي الذكرى الواحدة والستين للنكبة، لا بد من الإشارة إلى شيوع بعض المصطلحات التي لم يكن جيل الخمسينيات والستينيات ليتخيّل مجرد احتمال تداولها، كمثل الحديث عن المسارات و«الطرفين»: الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي الموجوديْن في عملية سلام ووجود «متطرّفين لدى الطرفيْن» و«معتدلين لدى الطرفيْن» و«عنف من الطرفيْن».

وفي الأسبوع الماضي شهدنا كيف يواجه البابا بالعتب كونه يدين الطرفيْن لا طرفاً واحداً، وأن يُذكر الأسرى من الطرفين. ويُقارن جندي إسرائيلي واحد أسير بأحد عشر ألف سجين فلسطيني، علماً بأن الجندي الإسرئيلي لم يخطف من منزله، بل كان في دبابة يقصف حي مدنيين في غزة. ليس هناك من إمكانية لمقارنة من هذا النوع لهذه السياقات بالذات إلا في إطار هيمنة فكرة المسارات بين أطراف، وكأن صراعاً هو بين أصحاب حقوق متنافسة أو متصارعة.

إنّ العودة إلى الثوابت مهمة جداً ليس في سياق سلفية أو أصولية ما، فلست من المتعصبين لثوابت بهذا المعنى، بل أعني بذلك القضية الفلسطينية نفسها، ما هي، لتثبيت البديهيات ووضعها في نصابها. وهنا لا أتحدث عن خطاب تقدمي مقابل خطاب رجعي، بل عن نضال عادل وعن نضال من أجل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. أما تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني والأمة العربية فيعني العودة إلى ما جرى عام 48. فقضية فلسطين هي قضية النكبة، هي قضية استعمار استيطاني لفلسطين وقد اتخذ هذا الاستعمار الاستيطاني منذ عام 67 أشكالاً تماثل نظام الأبارتهايد (الفصل) العنصري في جنوب أفريقيا. ولكنه في الحالتين نظام عنصري.

صحيح أنّ نظام الفصل العنصري الذي أقامته الحركة الصهيونية عام 48 أدى إلى تشريد الناس وإلغائهم وإبعادهم عن وطنهم، وهو فصل عنصري صهيوني قام على أساس تشريد السكان. إلا أن الاستعمار الاستيطاني اتخذ شكل فصل عنصري أكثر شبهاً بجنوب أفريقيا في حالة بقاء السكان في الأراضي المحتلة عام 67، إذ إن هناك كتلة ديموغرافية بقيت في فلسطين عام 67، ما أدى الحرمان المباشر من الحقوق في ظل الحكم العسكري وصولاً إلى الجدار والفصل العنصري في ما بعد.

ولكن مبدأ الفصل العنصري لم يعمل به منذ عام 67 فحسب، بل منذ عام 48، حيث يُعرف الفصل العنصري في إسرائيل من خلال شكلين: شكل تهجير الناس للحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، فيما يهدف الشكل الآخر إلى بناء جدار يفصل بين الناس. وقد بدأ هذا النوع من الصراع عام 48 لا عام 67، وحتى من هذه الزاوية لا بد من اعتبار النكبة حية.

أما الأمر الآخر المهم في إحياء ذكرى النكبة فهو سؤال كبير يواجهنا حالياً، ألا وهو جدوى الإصرار على قضية فلسطين بعد مرور واحد وستين عاماً على النكبة، في زمن الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ والتي قد تشرّد 900 ألف نسمة في غضون أيام. ولا يكمن السبب في كوننا شعب الله المختار نصر على العدالة أكثر من غيرنا ونرفض أن ننسى أكثر من غيرنا ونتمسك بوطننا أكثر من غيرنا، لسنا شعب الله المختار بل ضحايا من يعتبر نفسه شعب الله المختار. وربما نحن كما قال ناجي العلي رحمه الله شعب الله المحتار.

فالتمييز الذي مورس بحق الشعب الفلسطيني يتضمن إهمال قضيته لا الاهتمام بها، كما لم يُعرف شعب آخر وقع تحت استعمار حديث. ليس هناك من حركة تحرر وطني بعد الحرب العالمية الثانية استمرت 61 سنة، إذ إن جميع حركات التحرر في العالم أنجزت مهمات تحررها. لا يعود ذلك إلى أنه ليس هناك من اهتمام زائد بقضية فلسطين، بل لأنه ليس هناك من اهتمام أصلاً بقضية فلسطين.

وفي الزمن الذي حُلّت كل القضايا الوطنية في العالم، ما زالت قضية فلسطين عرضة لمزيد من التعقيد. وما سبب الاهتمام الدولي المتنامي الظاهر للعيان سوى لكون قضية فلسطين تقع عند تخوم المسألة اليهودية. الاهتمام هو بالمسألة اليهودية، وبفلسطين يتم الاهتمام بالنفي، إنه اهتمام معكوس. وفي الواقع، ما الفلسطينيون سوى ملاحظة هامش في العلاقات المركبة التاريخية بين الغرب والمسألة اليهودية. إن الاهتمام الغربي بالفلسطينيين مرتبط بالمسألة اليهودية، ولو كان الاستعمار بلجيكياً أو فرنسياً أو هولندياً لما أثارت القضية اهتمام أحد ولاستقل الشعب الفلسطيني واسترد أرضه منذ زمن.

ولقد حوّلت المسألة اليهودية وتعقيداتها في الغرب، الفلسطينيَّ إلى مجرّد كومبارس في سياق سؤال تحديدات الهوية الغربية إزاء المسألة اليهودية، التي ينبثق منها صراع الهوية الأوروبية الحديثة التي كانت تساق أمام الآخر الداخلي وأمام الآخر الخارجي. والآخر الداخلي في هذه الحالة هو اليهودي المعتبر هو الآسيوي الشرقي حين يكون في أوروبا، فيما الآخر الخارجي هو المسلم.

وقد ارتبطت قضية الآخر الخارجي بالنسبة للغرب، لفترة طويلة بالشرق. فاعتبر الأوروبيون، وفقاً لنظرياتهم العنصرية المختلفة، اليهود امتداداً للشرق في الغرب، فكان كل صراع صراعاً في داخل العلاقة مع الآخر، حول تحديدات الذات مع هذه العلاقات أكانت من الناحية الدينية أم من ناحية الصراع.

ولم تكن أوروبا لتسمح لليهودي بالاندماج. وبما أن موضوع الندوة اليوم هو قراءات في النكبة والتاريخ، أسمح لنفسي فقط بالإشارة دون الغوص في الموضوع، إلى أن الغرب اعتبر خروج اليهودي من أوروبا شرطاً لقبوله كأوروبي. ففقط بعد خروجه من أوروبا وإقامة دولة خارجها صار التعامل معه كأنه أوروبي من الحضارة نفسها. يصبح اليهودي المضطهَد في أوروبا والمرفوض أوروبياً مقبولاً عندما يتخلص ويخلص أوروبا من كونه آخر داخلياً ويمثل أوروبا في الخارج. وخير تمثيل لها هو الاستعمار الاستيطاني.

وكانت هذه هي الصفقة التاريخية بين الاستعمار والصهيونية: لدى خروج اليهود من أوروبا تُعتبَر إسرائيل امتداداً للغرب في الشرق الكبير. وكانت هذه الصفقة التاريخية مريحة للطرفين، أما الضحية فيها، فهي الأمة العربية عبر فلسطين. وهكذا نشأت إسرائيل امتداداً للاستعمار في المنطقة العربية، وكان شرط قبول اليهود كأوروبيين أن يصبحوا استعماريين واستيطانيين.

وفي ما يتعلق بتحديد ما هي القومية، لا بد من التساؤل عن ماهيتها: هل هي عرقية أم تقوم على المواطنة. والمسألة القومية في أوروبا الوسطى والشرقية خاصة، مسألة صراع مع الآخر دينياً وإثنياً هو اليهودي الداخلي وقد اتخذ شكل امتداد لصراع البروستانتية والكاثوليكية مع اليهودية كأنه وحدة وصراع الأضداد. المسألة اليهودية هي مسألة أوروبية بامتياز. ويستحيل قراءة الصهيونية من دون هذه الصفقة اللاواعية، إذ نحن بصدد براءة أثر رجعي للتاريخ وبأثر تراجعي في التاريخ.

ونحن نرى نهايتها الآن، أن أوروبا والحضارة الغربية عموماً تتضامنان مع إسرائيل في إسقاط العداء للسامية على العرب، من جهة، وإسرائيل تتعاون مع أوروبا في تخليصها من المسألة اليهودية واعتبار نفسها الممثل الأوحد لتاريخ اليهود عالمياً. لذلك ما الانشغال العالمي في قضية فلسطين سوى انشغال بالذات وبالهوية وبالآخر الداخلي والخارجي وليس بقضية فلسطين ولا بالغبن اللاحق بالفلسطينيين.

هذا الانشغال يتبلور في أسوأ حالاته، حيث التماهي الأوروبي مع استيطان استعماري في عدائه وارتكابه مجازر بحق السكان الأصليين، وخاصة أنهم من الحضارة التي تعتبر آخرَ خارجياً. فيما يستحق الأوروبي ــ الإسرائيلي الجديد التضامن الثقافي، بالإضافة إلى التضامن الاقتصادي والعسكري. وفي أفضل الحالات يؤدي التوجه النقدي إلى الضغط على الطرفيْن من أجل الاعتراف بعضهما بالآخر والمباشرة بعملية سلام وإطلاق وساطة أوروبية... تريح الأخيرة من مسؤوليتها المزدوجة عن العداء للسامية وعن القضية الاستعمارية في الشرق... بدل أن تقف في مثل هذه الحالة مع الضحية، فإنها تقف مع عملية السلام بين طرفين.

وهكذا تحوّل جميع تلك المحاولات القضية الفلسطينية إما إلى ناتج جانبي لعلاقات غربية إسرائيلية، أو إلى حقّيْن متساوييْن يتصارعان على الأرض نفسها لا ينقصهما سوى عملية سلام واعتدال وواقعية ووسيط نزيه.

التعليقات