من دفاتر النكبة (23 ): "جيش الجهاد المقدس" واستقلالية القرار الفلسطيني (1)../ د.مصطفى كبها

-

من دفاتر النكبة (23 ):
بعد ازدياد تدخل الجامعة العربية في الشأن الفلسطيني وجملة القرارات التي اتخذتها في هذا الشأن، ومن ضمنها إرسال قوات جيش الإنقاذ إلى فلسطين، وجدت القيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الحاج أمين الحسيني، نفسها مهمشة وغير قادرة على اتخاذ أي قرار يتعلق بمستقبل بلادها. لم يرق ذلك للحاج أمين الذي حمل منذ فجر سنوات العشرين من القرن الماضي راية "استقلالية القرار الفلسطيني"، خاصة بعدما ازدادت علاقاته تعقيداً مع قادة اللجنة العسكرية للجامعة العربية وقادة جيش الإنقاذ وعلى رأسهم قائده العام فوزي القاوقجي.

قرر المفتي إقامة ذراع عسكري فلسطيني داعم للهيئة العربية العليا، وقد أطلق عليه اسم "جيش الجهاد المقدس".

تكون هذا الجيش من وحدات من المتطوعين الفلسطينيين، عمادها قادة ومقاتلو الفصائل المسلحة التي اشتركت في ثورة 1936 -1939 وبضع عشرات من الفلسطينيين الذين كانوا قد تجندوا في قوات الحلفاء (ضمن الجيش البريطاني ) أثناء الحرب العالمية الثانية.

أخذت الهيئة العربية العليا على عاتقها أمر تسليح وتموين هذه القوات، وعلى النقيض من الوحدات التابعة لجيش الإنقاذ، فقد فازت وحدات جيش الجهاد المقدس بتعاطف ومعاضدة الأهالي في الأماكن التي نشطت فيها هذه الوحدات. وقد فضل الشبان الفلسطينيون التطوع في صفوف هذه الوحدات على أن يكونوا هدفاً للاستهتار من قبل القائمين على قوات جيش الإنقاذ والذين لم يخفوا مشاعر الاستعلاء والاستهتار إزاء المتطوعين الفلسطينيين في وحداتهم.

أما النواة الأساسية لهذه القوات فكانت مجموعة الفصائل المسلحة التي أنشأها عبد القادر الحسيني (1908 – 1948 ) في منطقة القدس. وعبد القادر هو ابن موسى كاظم الحسيني ( والي اليمن ورئيس بلدية القدس في العهد العثماني ورئيس اللجنة التنفيذية العربية أبان حكم الانتداب البريطاني). وهو حائز على شهادة البكالوريا من الجامعة الأمريكية في القاهرة (يوم تخرجه من هذه الجامعة قام بتمزيق شهادتها على الملأ وأمام السفير الأمريكي في القاهرة، الشيء الذي سبب أزمة دبلوماسية بين القاهرة وواشنطن انتهت بإبعاد عبد القادر من مصر).

استعان عبد القادر بتجربته الغنية في حرب الأنصار، والتي كان قد اكتسبها أثناء ثورة 1936 -1939، كما وأضاف إليها دراسة مهنية في العلوم العسكرية تلقاها في الكلية العسكرية العراقية في بغداد، والتي حصل على أثرها على رتبة ضابط صف في الجيش العراقي، وشارك في الثورة التي قادها رشيد عالي الكيلاني هناك في أيار من عام 1941.

فور الإعلان عن إنشاء وحدات جيش الجهاد المقدس، سارع للانضمام لعبد القادر رفاقه من قدامى مقاتلي ثورة 1936- 1939 وزملاؤه من أيام الكلية العسكرية في بغداد. فقد انضم على التوالي كل من : إبراهيم أبودية من صوريف (قضاء الخليل)، وبهجت أبو غربية من القدس، وحسن سلامة من قرية قولا (قضاء الرملة )، ويحيى هواش من قرية البروة (قضاء عكا)، وحمد زواتا من قرية زواتا (قضاء نابلس)، وتوفيق الإبراهيم (أبو إبراهيم الصغير ) من قرية أندور (قضاء الناصرة)، وخليل العيسى (أبو إبراهيم الكبير) من قرية المزرعة الشرقية (قضاء رام الله ) وآخرون.

ومن المهم التنويه هنا أن بعض هؤلاء الذين سبق ذكرهم كان قد انتمى للفصائل السرية المسلحة التي أقامها الشيخ عز الدين القسام في منطقة حيفا والشمال في النصف الثاني من الثلاثينيات. وبسبب هذه الخلفية عاد هؤلاء واتخذوا لأنفسهم لقب "قساميين"، وقد عادوا إلى القواعد التي كانت لهم في ثورة 1936-1939، وأعادوا تجنيد من تبقى من رفاق السلاح أثناء تلك الثورة.

في مذكراته يتحدث بهجت أبو غربية، أحد مساعدي عبد القادر الحسيني في جبهة القدس،عن آليات تجهيز وتدريب جيش الجهاد المقدس، فيقول إنه سافر إلى القاهرة ليلاقي القائد عبد القادر الحسيني الذي قام بالاتصال بالمحاربين القدامى في جميع أنحاء فلسطين، وذلك كي يتم تنظيمهم ضد المشروع الصهيوني.

ويضيف أبو غربية أنه اتفق مع عبد القادر على خطة لتنظيم وتسليح قطاع القدس، بحيث حددا كميات السلاح والذخيرة لكل حي، وقاما بتعيين قائد عسكري لكل حي. واتفقا على أن يقوم عبد القادر بإرسال كل السلاح والذخيرة التي يحتاجها قطاع القدس مع إبراهيم أبو دية، في حين يقوم أبو غربية بتهيئة المخازن والمخابئ لاستلام السلاح.

من الضروري أن نذكر بأن هذا اللقاء الذي يروي وقائعه بهجت أبو غربية، كان قد حصل قبل اتخاذ هيئة الأمم المتحدة لقرار التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947، الشيء الذي يعني أن القيادة الفلسطينية (وعبد القادر الحسيني على وجه الخصوص ) كانت مدركة لإمكانية تعقد الأوضاع واللجوء إلى السلاح وأنها أخذت احتياطاتها في قطاع القدس على الأقل، ولكن دخول الجامعة العربية في الصورة أعاق إلى حد كبير قدرة المناورة للقيادات العسكرية الفلسطينية، وجعل من أمر نجاحها بالدفاع عن مواقعها أمراً أشبه بالمستحيل.

قد يقول قائل بأن ذلك جاء متأخراً، ويقول آخر بأن سياسة الحاج أمين طيلة فترة الانتداب انصبت على جذب انتباه العالمين العربي والإسلامي نحو دور أكثر فعالية في الموضوع الفلسطيني، ولكن الإجابة تكمن في شكل الدور العربي والذي لم يأت كما أرادته القيادة الفلسطينية: مجسداً لحدة التعاطف الشعبي العربي في سائر الأقطار العربية مع الشعب الفلسطيني من جهة، ومحترماً لاستقلالية الرأي الفلسطيني وسيادته من جهة أخرى. أما لقضية التوقيت المتأخر لعملية التأهب والاستعداد فإنه من الواضح للجميع بأن المجتمع الفلسطيني برمته لم يدرك خطورة ما آلت إليه قضيته إلا في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب ازدياد وتيرة الهجرة اليهودية، وتعاظم تعاطف القوى المؤثرة على مستوى العالم آنذاك، مع مشروع الوطن القومي اليهودي.

ولكن بالرغم من ذلك التأخر الواضح إلا أن التحضيرات التي قام بها عبد القادر الحسيني في قطاع القدس في النصف الثاني من سنة 1947 كان قد أثبت نفسه (على الأقل حتى استشهاد عبد القادر الحسيني في الثامن من نيسان 1948 في موقعة القسطل) في كل ما يتعلق بالدفاع عن الأحياء العربية في القدس وما جاورها من قرى.

وكذلك فيما يتعلق بإقلاق الأحياء اليهودية وإجبار قيادة "الهاجاناة" بالحفاظ على قوات كبيرة للدفاع الشيء قلل من كثافة القوات اليهودية وفاعليتها في جبهات أخرى. ولعل المتأمل لمجمل الصورة في فلسطين في الشهور الأربعة الأولى التي أعقبت إصدار قرار التقسيم بوسعه أن يتفهم، إلى حد ما، دعاوى المفتي الحاج أمين الحسيني حول فظاظة تدخل الجامعة العربية وبعض البلاد العربية المجاورة بالشأن الفلسطيني وعدم مراعاتها لقدرات ورغبات الفلسطينيين حتى في قضية عن مدنهم وقراهم وأراضيهم.

التعليقات