من دفاتر النكبة (24): جيش الجهاد المقدس والسعي لاستقلالية القرار الفلسطيني (2)../ د. مصطفى كبها

-

من دفاتر النكبة (24): جيش الجهاد المقدس والسعي لاستقلالية القرار الفلسطيني (2)../ د. مصطفى كبها
كانت إقامة جيش الجهاد المقدس منافية للمصالح البريطانية والطموحات الهاشمية ومصالح بعض الدول العربية الأخرى. وقد رافق الجنرال تشارلز كلايتون، الملحق السياسي البريطاني في القاهرة، كافة المداولات المتعلقة بالشأن الفلسطيني إن كان على مستوى مؤسسات الجامعة العربية أو على مستوى العلاقات الثنائية بين القاهرة وبين باقي العواصم العربية.

انصبت السياسة البريطانية في حينه على معارضة إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو أي جسم ومؤسسة فلسطينية مستقلة تعمل بإمرة المفتي، وذلك لعدة أسباب كان أهمها محاسبة المفتي على التحالف مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وكذلك الخوف من أن تسير الدولة الفلسطينية المستقلة المقترحة على سياسة معادية لبريطانيا وحليفاتها بشكل يهدد، حسب الرؤية البريطانية، أمن واستقرار المنطقة.

كما وأنه غني عن القول الـتأكيد على أن بريطانيا فضلت تفاهماتها وتحالفها مع الهاشميين ( الذين عارضوا معارضة شديدة إقامة دولة فلسطينية بزعامة المفتي الحاج أمين الحسيني ) والذين وقفوا وراء بريطانيا في المراحل الصعبة أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا فضلاً على أن الهاشميين في العراق والأردن لم ينسوا اشتراك المفتي في ثورة رشيد عالي الكيلاني في أيار 1941. صحيح أنه كانت للدولتين الهاشميتين (العراق والأردن ) طموحات مختلفة بالنسبة لمستقبل الهلال الخصيب، ولكن كان لكليهما عداء واضح للحاج أمين ولخططه بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية.

جيش الجهاد المقدس في محك المعارك: اختلفت آليات عمل جيش الجهاد المقدس عن آليات عمل جيش الإنقاذ إن كان ذلك في طريقة القتال أو طرق التعبئة والتموين والتسليح، والأهم من ذلك كله علاقته مع الأهلين. ففي حين حاول جيش الإنقاذ التصرف كجيش نظامي، عملت وحدات جيش الجهاد المقدس حسب مبدأ "حرب الأنصار" المبنية على هجمات مباغتة ضد المعسكرات والقواعد العسكرية أو مفارق وعصب المواصلات المركزية دون المحاولة للاستيلاء والسيطرة الدائمة (حسب المفاهيم العسكرية النظامية).

كانت الوسائل والخطط القتالية التي سار عليها مقاتلو هذا الجيش مشابهة جداً لطرق القتال التي سارت عليها فصائل الثورة الفلسطينية للأعوام 1936 -1939، بحيث كان 35 ضابطاً من ضباط هذا الجيش من قادة الفصائل المسلحة للثورة.

تمركزت معظم فصائل جيش الجهاد المقدس في منطقة المركز من القدس والخليل في الجنوب وحتى الحدود الشمالية لمنطقة اللد والرملة مروراً بمدينة يافا وقراها. كانت القيادة المركزية لهذا الجيش في مدينة بير زيت حيث تواجدت هناك هيئة أركان بقيادة عبد القادر الحسيني وعضوية كل من كامل عريقات (من قرية أبو ديس ) وقاسم الريماوي (من قرية بيت ريما ). وبعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني في موقعة القسطل قام خليفته في القيادة، خالد الحسيني، بنقل هيئة الأركان والقيادة إلى داخل البلدة القديمة في مدينة القدس.

نشطت في محيط مدينة القدس قرابة 15 سرية من سرايا جيش الجهاد، وبلغ عدد مقاتليها قرابة 1000 مقاتل. في محيط مدينة رام الله نشطت سبع سرايا، وبلغ عدد أفرادها قرابة 500 مقاتل، في حين نشطت في منطقة يافا واللد والرملة اثنتا عشرة سرية بقيادة حسن سلامة، وبلغ عدد مقاتليها قرابة الألف مقاتل. وأقام حسن سلامة هيئة أركان قيادية في منطقة راس العين ضمت بالإضافة له كلاً من محمود أبو الخير وفخري مرقة.

كما وعملت سرايا أخرى لجيش الجهاد في منطقة الشمال حيث نشطت سرية في محيط مدينة طبرية بقيادة صبحي شاهين، وسرية أخرى في منطقة جنين بقيادة فوزي جرار (من قرية صانور)، وثلاث سرايا في منطقة الناصرة عملت تحت قيادة توفيق الإبراهيم (أبو إبراهيم الصغير وهو من قرية اندور).

بلغ عدد مقاتلي كافة سرايا منطقة الشمال قرابة 500 مقاتل. وبذلك يكون العدد العام لمجموع مقاتلي جيش الجهاد قد بلغ قرابة الثلاثة آلاف مقاتل، هذا إضافة إلى العشرات الذين اهتموا بالأمور التنظيمية واللوجستية كالتجنيد وإيجاد السلاح ونقله إلى مواقع المقاتلين وكذلك إقامة شبكة لجمع المعلومات ونقلها بين قيادة المفتي في القاهرة إلى قادة السرايا المقاتلة على الأرض.

كانت قوات جيش الجهاد المقدس هي القوات العربية الوحيدة التي كانت جاهزة لمباشرة مهامها القتالية فور الإعلان عن قرار التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947. كانت العملية العسكرية الأولى التي نفذها مقاتلو هذا الجيش في قطاع القدس، وذلك في الرابع عشر من كانون الأول لعام 1947 حين قامت مجموعة لجيش الجهاد المقدس بقيادة بهجت أبو غربية بمهاجمة حافلة يهودية كانت في طريقها إلى الجامعة العبرية في جبل المشارف (هار هتسوفيم ). قتل في هذه العملية اثنان من راكبي الحافلة، وجرح تسعة. وأعلنت قيادة الجهاد المقدس أن هذه العملية جاءت رداً على مهاجمة قوات "الهاجاناه" لتجمع عربي في باب الخليل وقتلها لستة من العرب وإصابة قرابة العشرين بجراح متفاوتة.

توالت هجمات جيش الجهاد المقدس على القوافل ووسائل النقل اليهودية، ففي الرابع عشر من كانون الثاني عام 1948 هوجمت قافلة يهودية على مقربة من قرية بيت نبالا (قضاء الرملة ) قتل بعض أفرادها وجرح آخرون، وفي السادس عشر من الشهر ذاته هوجمت قافلة يهودية ترافقها سيارات عسكرية يهودية للحراسة في منطقة قرية صوريف في قضاء الخليل وقد قتل 35 من أعضاء القافلة وجرح العشرات، في حين خسر مقاتلو جيش الجهاد أربعة مقاتلين وجرح مثل عددهم.

ولشدة ما أصاب القافلة اليهودية من أهوال يعرف الحدث في الرواية التاريخية اليهودية باسم " قافلة ال- 35 أو ال- ל"ה " وذلك على عدد القتلى اليهود في هذا الحدث. كما وقامت خلايا التفجير التابعة للجهاد المقدس بتفجير شارع "هسوليل" في الأول من شباط 1948، وشارع "بن يهودا" في الثاني والعشرين منه. وأدت هاتان العمليتان إلى مقتل 74 شخصاً وجرح قرابة المائتين.

وووجهت هذه العمليات بعمليات يهودية انتقامية بشكل فاقم الوضع في قطاع القدس إلى حرب أحياء دامية راح ضحيتها المئات من الطرفين في غضون شهري شباط وآذار 1948، الشيء الذي شكل مقدمة لما جرى في الثامن والتاسع من نيسان 1948 في موقعة القسطل ومجزرة دير ياسين وعن ذلك سنفصل في الحلقة القادمة.

التعليقات