تشويه الحيز المديني الفلسطيني: هكذا اختفت "عروس فلسطين"

مدينة يافا التي عرفت أمجادًا في الماضي، تعيش اليوم ضحية لمخططات لهدمها ومحو معالم المدينة الفلسطينية منها، مثلها مثل عكا وحيفا. مسيرة بدأت في العام 1948 ولم تتوقف حتى هذه اللحظة..

تشويه الحيز المديني الفلسطيني: هكذا اختفت
مدينة يافا التي عرفت أمجادًا في الماضي، تعيش اليوم ضحية لمخططات لهدمها ومحو معالم المدينة الفلسطينية منها، مثلها مثل عكا وحيفا. مسيرة بدأت في العام 1948 ولم تتوقف حتى هذه اللحظة. ما الذي جرى للمدينة التي كانت؟! يافا، حالة كان اسمها مدينةمرَّ الحيّز المديني الفلسطيني بتغييرات جذرية نتيجة لحرب 1948 وقيام دولة إسرائيل. في هذا الإطار يصف د.عزمي بشارة (1998، 2008) هذه التغييرات أو بالتحديد النكبة الفلسطينية بالـ „كسر”، التي سببت بخراب وهدم المدينة الفلسطينية وسيرورة الحداثة.

بالإضافة إلى ذلك ونتيجة للنكبة، خسرت الأقلية الفلسطينية النخبة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية وأقصيت إلى الهامش المديني. وهكذا فقد أصبحت يافا، بعد 1948، والتي كانت توصف بـ”عروس فلسطين”، حيَّا مهملا ومضطهدا على هامش تل أبيب، بعد أن فُرّغت من معظم سكانها ومن مضمونها التاريخي والثقافي والاجتماعي والحيزي (روتبرد، 2005؛ ياهف، 2004؛ برغر، 1998؛ الحوت، 1991).

وصل عدد السكان الفلسطينيين في يافا سنة 1947 إلى 71 ألف نسمة تقريبًا، وبقي فيها بعد النكبة أو „الكسر” حسب بشارة (2008) 3600 نسمة فقط والباقون أصبحوا لاجئين.

بعد الحرب وفي سنة 1950 ضُمت يافا إداريا إلى تل أبيب، ورُكز السكان الفلسطينيون الباقون في حي العجمي، أما أملاكهم، أراضيهم وبيوتهم فحولت إلى ما يسمى „القيم على أملاك اللاجئين” واستعملت بيوتهم لإسكان اليهود المهاجرين (مونترسكو، 2007؛ مونترسكو وفبيان، 2003).

اليوم، يسكن الفلسطينيون الذي يصل عددهم إلى 17.3 ألف نسمة ويشكلون 4.4% من سكان تل أبيب-يافا، في أجزاء من ما تبقى من الأحياء الفلسطينية في يافا.
يهدف هذا المقال إلى وصف التغييرات الحيزية التي جرت على الحيز المديني الفلسطيني بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل، وذلك من خلال دراسة ووصف التغييرات الحيزية في يافا، وكيفية استعمال التخطيط المديني لتحقيق هدف سياسات مؤسسات التخطيط بالسيطرة على المكان، تغييره وتهويده. النتيجة لسياسات ولممارسات مؤسسات التخطيط هي خلق حيز مشوه وغريب عن الواقع والتاريخ الفلسطيني.

اعتبرت يافا منذ القسم الثاني من القرن التاسع عشر وحتى 1948، مدينة فلسطينية مركزية وحيوية، من ناحية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحيزية. هذه التطويرات إنعكست في تغيير المشهد الحيزي المديني، الذي أصبح يشمل، أحياء جديدة خارج الأسوار: منها أحياء أقامها وسكنها أهل يافا، وسكان المدن والقرى الفلسطينية وعرب من الدول العربية المجاورة مثل العجمي والمنشية، وأحياء أخرى أقامها وسكنها مجموعات مختلفة من الدول الغربية مثل سارونا والألمانية ونفي تسيدك (الحي اليهودي الأول في يافا)؛ بناء مؤسسات حكومية وجماهيرية وتعليمية: تطوير وإقامة مراكز ثقافية، مثل دور السينما والمطاعم؛ إقامة مراكز اقتصادية وتجارية مختلفة، مثل، شارع إسكندر عوض وشارع بطرس؛ تطوير البنية التحتية من شوارع ومواصلات محلية وبين يافا والقرى والمدن الفلسطينية (روتبرد، 2005؛ ياهف، 2004؛ البواب، 2003؛ كيرميلنك وميجدل، 1999؛ الحوت، 1991؛ كيرك، 1984).

مع ذلك، بقي هذا المشهد اليافاوي اليوم قائما فقط في الذاكرة الجماعية الفلسطينية (مونترسكو، 2007). وصف سليم تماري (2000) يافا اليوم „كشيء من الخيال، لا يوجد تماثل بين يافا مدينة والِديَنا وبين مدينة الأشباح اليوم”. كما أن جغرافية فلسطين لم تعد قائمة إلا في الذاكرة، هذا ما أكد عليه إدوارد سعيد (1999: 14) أن جغرافية فلسطين، كما هو عرفها، لم تعد قائمة وأن „تاريخ فلسطين أستبدل بشكل تدريجي بصورة مبتدعة لإسرائيل القديمة...”.

وصف مزاوي وخوري-مخول (1991: 36) التغييرات التي مرت بها يافا كالتالي: „منذ 1948 كان مصير المدينة بالاختفاء التدريجي المتتالي […] تم محو قسم كبير من المدينة […] عملية إعادة البناء في البلدة القديمة، مشروع ميناء يافا، مشروع منحدر يافا ومشروع ترميم يافا – لكل هذه المشاريع أهداف محددة سياسية: تغيير أساسي وجوهري للسمات الحيزية-الثقافية للمدينة”.

أستعمل ويستعمل التخطيط في إسرائيل، التي تعتبر لقسم من الباحثين والباحثات كدولة صاحبة سمات كولونيالية، بشكل عنيف ضد الأقلية الأصلانية الفلسطينية، من اجل تنفيذ أهداف المشروع القومي-الصهيوني، تهويد الحيز والسيطرة على الأرض والمكان (فنستر، 2004؛ يعقوبي، 2002؛ يفتاحئيل، 1998). ويعكس إنتاج الحيز في المدينة هرمية قائمة على علاقات قوى أثنية، إذ أن سياسات وقوانين التخطيط في إسرائيل تعتبر أدوات مركزية لسيطرة المجموعة القومية المهيمنة على الحيز في المدينة وتغييره لصالحها، وفي هذه الحالة الأغلبية اليهودية.

وهكذا ومنذ قيام الدولة، تجاهلت مؤسسات التخطيط في إسرائيل بشكل عام، وفي تل أبيب-يافا بشكل خاص، التاريخ الحيزي والمعماري، بالإضافة إلى تجاهل الاحتياجات الحيزيَة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأقلية الفلسطينية، وذلك بهدف تغيير المكان والحيز ومحوه من الواقع ومن الذاكرة. وأدت هذه السياسات والممارسات إلى فصل وإقصاء الأقليات، في هذه الحالة الأقلية الفلسطينية في يافا، إلى حيز مقلص ومحدود، لا يكفي الاحتياجات اليومية والثقافية للسكان الأصليين وإلى خلق حيز مشوه.

كما ذكرنا، تهدف هذا السياسات والممارسات التخطيطية والحيزية إلى تغيير الطابع الفلسطيني ليافا، الثقافي والحيزي والمعماري. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، هُدمت معظم أحياء يافا الفلسطينية؛ والمناطق التاريخية والأثرية؛ وغيرت أسماء شوارعها وأسماء بعض الأحياء المتبقية وحوّل ما تبقى من المدينة القديمة “القصبة” في يافا إلى حي سكنه الفنانون اليهود. مقابل يافا - “الآخر المطلق” „المدينة السوداء” – „المدينة السوداء”، بُنيت وطُورت تل أبيب “المدينة البيضاء” كمدينة غربية وحديثة ومختلفة ومنفردة عن الحيز الجغرافي الفلسطيني ليافا، والتي كان خراب وهدم يافا شرطا مسبقا لتطورها (ليفين، 2007؛ روتبرد، 2005).

من المثير ذكره هنا، أنه مقابل هدم وتغيير حيز يافا الفلسطيني التاريخي القائم منذ مئات السنين، يجري في تل أبيب سيرورة “ترميم” وحفظ للتراث المعماري الجديد نسبيا. إذ أنه ومن خلال التخطيط، أكدت وشددت بلدية تل أبيب على التاريخ المعماري الحديث لتل أبيب وبالمقابل قامت بإقصاء وإخفاء التاريخ المعماري الفلسطيني ليافا.

من الممكن وصف وتلخيص سيرورة ممارسات وسياسات التخطيط في يافا، كالتالي:
مباشرة بعد حرب 1948، وبعد إفراغ يافا من غالبية سكانها، مُيزت سياسة التخطيط والحيز في يافا بإفراغ المكان وهدمه.

في سيرورة الهدم والمحو، هدم حي المنشية بشكل كامل (باستثناء مسجد حسن بك)، بينما هدم قسم ما يقارب 70% من مباني حي العجمي و 30% من حي جباليا. وقد هدم 70% من البلدة القديمة وما تبقى منها يخدم كمستعمرة مغلقة للفنانين (السكن فيها مشروط بلجنة قبول) ومركز سياحي (مونترسكو ، 2007؛ روتبرد؛ 2005).

هدم الحيز اليافاوي مس بالطابع الحيزي والمعماري والثقافي والاجتماعي ليافا. تدعي فنستر (2007: 193) إن „سيرورة بناء الأمة اليهودية لم تعتمد فقط على مبنى اجتماعي ثقافي، اقتصادي وسياسي، إنما بناء الحيز كحيز يهودي ومحو التاريخ الفلسطيني”.

هكذا تجاهل التخطيط المديني لتل أبيب-يافا التاريخ الحيزي الفلسطيني وقام بهدمه بهدف محوه من الواقع ومن الذاكرة، بالمقابل، عكس تخطيط الحيز في يافا تاريخ الأكثرية اليهودية، الذي هو تاريخ جديد نسبيا (روتبرد، 2005؛ ليفين، 1999). هذا يذكرنا بالنظام الكولونيالي عامة الذي هو أيضا استعمل التخطيط الحديث، بهدف السيطرة على الحيز، عن طريق استعمال سلسلة من تقنيات التخطيط، والذي أدى في النهاية لإقصاء السكان الاصليين وحرمانهم من تاريخهم ومن ذاكرتهم الحيزية (ساندركوك، 2003، 1998؛ جاكوبس، 1996). تدعي جاكوبس (1996) أن الطموح لإقامة مستعمرات مؤسس على „الرغبة في المحو”.

إهمال مؤسس وعدم استثمار كقسم من عملية إخلاء وبناء: المرحلة التي اتبعت عملية الهدم في يافا هي مرحلة إهمال مؤسس وعدم تطوير في يافا. إذ أن بلدية تل أبيب بمشاركة وباتفاق مع شركات السكن، بما يعرف بـ"عميدار" و"حلميش"، و"دائرة أراضي إسرائيل"، حالت دون عمليات صيانة المباني القديمة في يافا، وقامت بسداد محكم للبيوت وهدم قسم منها فيما بعد، وكل ذلك بهدف خلق حيز ومبان غير قابلة للسكن وبذلك تهجير، مرة أخرى، للسكان الفلسطينيين من هذا الحيز.

في هذه المرحلة تم إعداد مخططات هيكلية تعتمد على هذه السياسات بالإضافة إلى مبادئ تخطيطية تدعى „إخلاء وبناء”، أي إخلاء المباني من سكانها، هدمها وبنائها مرة أخرى (مونترسكو وفبيان، 2003). مثال على ذلك مخطط منحدر يافا رقم 2236، الذي يشمل في حدوده الأحياء العربية العجمي وجباليا، والمنحدر من غرب „شارع 60” (ما قبل 1948 واليوم يعرف بشارع كيدم).

يحتوي هذا المخطط على مركبين أساسين، المركب الأول: تجفيف منطقة من البحر مقابل الأحياء العربية، بهدف زيادة أراض لأهداف السكن ومساحات خضراء. تحولت هذه المنطقة إلى موقع غير قابل للبناء والتطوير ولجمع أوساخ البناء ويعتبر كمصدر ضرر بيئي وصحي للسكان العرب ولمياه البحر وسكانه. بعد تجميد العمل في هذه المنطقة لسنوات طويلة، تعمل البلدية اليوم على تحويل المنطقة فقط إلى مساحات مفتوحة.

المركب الثاني لهذا المخطط هو „إخلاء وبناء”، والذي من خلاله تم هدم ما يقارب 1347 مبنى سكنيا (شقر، 1996). أدت سياسات وممارسات الإهمال والـ”إخلاء وبناء” إلى تدهور المنطقة ولخلق مساحات أراضي خالية ومهملة والتي مهدت طريق دخول أصحاب الأموال للاستثمار في مشاريع سكن في يافا.
منذ منتصف سنوات الثمانيات تغيرت السياسة من سياسة إهمال و”إخلاء وبناء” لسياسة ترميم وتطوير (جولدهبر، 2010؛ مونترسكو، 2007؛ مونترسكو وفابيان، 2003).

تتميز هذه السياسية بدعم وتشجيع بلدية تل أبيب للسوق الخاص، بهدف مصرح وهو تطوير وإصلاح يافا من الناحية الجغرافية، الاجتماعية والاقتصادية، وذلك عن طريق خصخصة الأراضي والمباني وجذب سكان جدد إلى يافا، وعن طريق إدخال يافا إلى المشروع القطري „ترميم الأحياء”.

المشروع الأخير انتهى في 1994 بدون إحراز أي تغيير للوضع المتدهور في يافا، على العكس في بعض الحالات تسبب في تدهور المباني السكنية، لاستعماله طرق ترميم غير مناسبة للمباني العربية القديمة.

لكن من جهة أخرى، شجعت عمليات الترميم والتجديد، والتحسين النسبي في البنية التحتية السوق الخاص ودخول سكان جدد ذوي معايير اقتصادية مرتفعة إلى يافا بما أدى إلى ما يسمى بسيرورة البرجزة (gentrification - وتعني دخول سكان جدد من أبناء الطبقة الوسطى-العليا إلى أحياء قديمة متجددة).

صحيح أنه ممكن رؤية سيرورة البرجزة كسيرورة اقتصادية نيو-ليبرالية، لكن عمليا هذه السيرورة مدعومة على يد بلدية تل أبيب عن طريق استثمار بالبنية التحتية، توفير وتسريع سيرورة ترخيص البناء (مونترسكو وفابيان، 2003).

ولهذا، من الممكن الإدعاء أن البلدية ومؤسسات التخطيط استمروا في سياسة السيطرة والتهويد وإقصاء الأقلية الفلسطينية في يافا، لكن بطرق أخرى مختلفة. النتيجة هي ظهور مشاريع ومناطق سكن فاخرة في قلب يافا الفقيرة المعدة بالأساس لأصحاب القدرة الإقتصادية وليس لسكان يافا الفلسطينيين.

هنالك كثير من الأمثلة لمثل هذه المشاريع المنتشرة في يافا، منها مشروع „تل اندروميدا” ومشروع آخر هو „الحي” ("روفاع" باللغة العبرية) الذي يمتد على مساحة 12 دونم ويقع بجانب البلدة القديمة. يحتوي على 259 وحدة سكنية، في الطابق الأول أماكن لمصممين ومعارض.

هذه المشاريع، بدورها غيرت المشهد المديني ليافا، وخلقت مشهدا آخر، غريبا عن المكان الفلسطيني، لكنه غير غربي وغير تل-أبيبي أيضا. يهدف هذا „التطوير” إلى إخفاء الذاكرة الحيزية لدى السكان الفلسطينيين، من سكان يافا.

تسمي ساندركوك (2003) مخططي هذا „التطوير” بـ „سارقي الذاكرة” المتلهفين لمحو كل أثر تاريخي، في حالة يافا، لكل أثر ومبنى تاريخي فلسطيني.

عمليا، „الذاكرة” تضع الفرد في إطار تاريخي واسع – تاريخ عائلي، تاريخ مديني وقومي، لهذا ففقدان الذاكرة يؤدي إلى فقدان الهوية الفردية والجماعية (ساندركوك، 2003).

من الممكن أن نحدد القسم الثاني من منتصف سنوات الألفين كمرحلة إضافية فيها إتسعت سيطرة السوق الخاص في يافا، ليشمل أيضا عامل العولمة، إذ شهدت يافا في هذه السنوات ازديادا وارتفاعا في تسويق مبانيها وحيزها ليس فقط لأفراد من أصحاب الإمكانية الاقتصادية المرتفعة من داخل إسرائيل، إنما لأغنياء من العالم الغربي أيضا، الذين يسكنون في مناطق مغلقة ومنفصلة عن المناطق العربية (مروم، 2006).

أدت هذه التغييرات إلى التشديد وتأكيد الجيتو العربي والفصل الحيزي، وإلى انتقال قسري للأقلية الفلسطينية من بيوتهم القائمة ليد شاطئ البحر باتجاه الشرق.

بالإضافة إلى ذلك، سيرورة الإخلاء والهدم مستمرة أيضا في هذه الفترة، إذ أنه في سنة 2008 أرسلت "عميدار" أوامر إخلاء لعائلات فلسطينية في الأحياء اليافوية عجمي وجباليا، بإدعاء أن هذه العائلات „إجتاحت” هذه الأملاك بشكل غير قانوني، أو أضافت مساحات بناء بدون مصادقة شركات السكن و\أو مؤسسات التخطيط والبناء.

اتساع سيطرة السوق الخاص في يافا، بمساعدة البلدية ومؤسسات التخطيط التي عملت على تحسين البنية التحتية وعلى توفير وتسريع سيرورة مصادقات البناء، هو عمليا عامل أساسي في تغيير المشهد المديني ليافا.

أخيرا، ما حدث ويحدث في يافا من سياسات وممارسات حيزية حدث ويحدث أيضا في المدن الفلسطينية الأخرى مثل حيفا، عكا والرملة وغيرها، من هدم ومحو وإهمال حيزي وتخطيطي مؤسس، مع الاختلافات البسيطة.
......

التعليقات