أنتهاء مؤتمر ألارشيفات والأوراق العائلية لفلسطين في جامعة بير زيت

أنتهاء مؤتمر ألارشيفات والأوراق العائلية لفلسطين في جامعة بير زيت

أديب زيادة


في جامعة بير زيت اختتم يوم الاثنين 28/7/2008 مؤتمر ( الأرشيفات والمذكرات والأوراق العائلية كمصدر لدراسة التاريخ الاجتماعي في فلسطين). فعلى مدار يومين كانت الجامعة على موعد مع هذا الحدث الفريد من نوعه على مستوى الوطن، والذي عقد بالتنسيق مع مؤسسة الدراسات المقدسية. شهد المؤتمر مداخلات ثرية من قبل مجموعة من المؤرخين والباحثين والكتاب والمهتمين بالشأن التأريخي الفلسطيني. ولكن الجديد في هذا المؤتمر دخوله حقلاً قلّ البحث فيه من قبل المؤرخين، فقد تقدم بالمداخلات باحثون يشكّلون عناوين هي الأبرز بين من أفردوا جزءً من أوقاتهم للأرشيف الفلسطيني المنثور. فعلى الرغم من عدم وجود أرشيف فلسطيني بالمعنى الرسمي إلا أن جهد الباحثين واجتهادهم هو الذي ساقهم إلى فتح صفحات تأريخية مطوية على مدى عشرات السنين إن لم يكن المئات. وفقاً لمنسقي المؤتمر فقد كان الجزء الأول منه يهدف الى التركيز على السير الذاتية في فترة ثورة عام 1936م وحرب عام 1948م وقضايا أخرى بالاعتماد على مصادر أرشيفية أولية وسير ذاتية ومذكرات فردية وعائلية،  حيث تشتمل المواد التي تم نقاشها على سجلات المحاكم والأوراق الخاصة والأرشيفات العامة وأرشيفات المؤسسات والصور الفوتوغرافية. أما الجزء الثاني من المؤتمر فقد هدف إلى التركيز على قضايا منهجية وبحثية وبعض المشكلات المتعلقة بالارشيفات القائمة حالياً وخصوصاً ما يتعلق بمدى توفر المعلومات وامكانية الوصول اليها وسرية المصادر. كما هدف أيضاً إلى تشجيع من يمتلكون أوراقاً وأرشيفات عائلية كي يسمحوا للبحاثة للاطلاع عليها. ومن هذه الزاوية فقد حقق المؤتمر جزءً مهماً من أهدافه؛ إذ أثار فعلاً مسألة كانت تتم بشكل مبعثر رغم كونها على مستوى عال من الأهمية، كما أن دفعة جيدة من التشجيع تلقاها من يعملون في هذا الإطار لا سيما في ظل الاهتمام الذي لاقاه المؤتمر.


على الرغم من أهمية المداخلات عموماً إلا أن هناك بعضاً منها شكل إضافة نوعية لهذا الجهد المبذول وفتح الباب أمام أنواع جديدة من مجالات البحث في التاريخ الفلسطيني كتلك التي تتعلق بالصورة كأداة توثيق ومصدر لقراءته، بالاضافة الى الارشيف المعماري الفلسطيني. ولن نتوقف على حيثيات المؤتمر وتفصيلاته سوى أننا سنلقي الضوء على بعض المحطات.   


أرشيف المحكمة الشرعية والكنائس


تحدث عن أوقاف القدس في القرن السادس عشر من خلال سجلات المحكمة الشرعية محمد غوشة الرئيس التنفيذي لمؤسسة دارة القدس للبحوث والتوثيق والإعلام. كما تحدث موسى سرور رئيس دائرة التاريخ في جامعة بير زيت عن الاشكالات التي تواجه الباحثين في دراسة سجلات محكمة القدس الشرعية. إلى جانبهما تحدث خضر سلامة مدير المتحف الاسلامي ومكتبة المسجد الأقصى في القدس عن الحقبة المصرية في فلسطين من خلال سجلات المحكمة الشرعية والوثائق المحفوظة هناك منوهاً إلى أن هناك إرثاً كبيراً يمكن للباحثين الإفادة منه في حال استخدامه لأغراض التأريخ وقراءة المراحل. أما جورج هنطليان سكرتير ومدير أرشيف البطركية الأرمنية في القدس لما يزيد على الثلاثين سنة فقد أشار إلى وجود ما يزيد على العشرين مليون صفحة من الوثائق المحفوظة في البطركيات بمختلف أسمائها والمحكمة الشرعية وأن ما ينقصنا هم المؤرخون وليس الوثائق، كما أفاد أن للوثائق الموجودة في البطركيات ميزة على نظيراتها في المحكمة الشرعية كونها تحتوي على تقارير مستمرة عن الأوضاع الحياتية لدى السكان عموماً والطائفة المسيحية، بالاضافة الى مراسلات مع القناصل والسفراء الاجانب، بينما تحتوي المحكمة الشرعية على تلك الوثائق التي تتعلق بالقضايا القانونية، كالمواريث والعقود والاوقاف والانساب وهو ما يجعل أرشيف البطركيات مرجعاً تأريخياً مهماً بحاجة إلى جهود جبارة ينبغي أن يبذها الباحثون والمؤرخون؛ إذ علينا ألا نكتفي بالتاريخ الرسمي المكتوب عن القدس وفلسطين بل إعادة تدوين التاريخ بما يحكي قصة الشعب في هذه الارض وكيف عاش وبماذا تأثر وكيف أثر.   


المذكرات الشخصية واليوميات


تحدث في هذه المسألة كلّ من بشارة دوماني الاستاذ المشارك في دائرة التاريخ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي حيث تناول أوراق الباحث إحسان نمر العائلية. كما تحدثت كيمبرلي كاتس الاستاذة المساعدة في تاريخ الشرق الاوسط بجامعة تاوسن في ميريلاند حول يوميات سامي عمرو بعنوان ( خليلي في القدس الانتدابية) فخلافاً لاهتمامات المؤرخين بالشخصيات من الشرائح العليا في المجتمع تناولت المتحدثة شخصاً كان يدوّن يومياته ينتمي إلى الشرائح الدنيا في المجتمع حيث سلطت الضوء على طبيعة ما كان يحيى أمثال هؤلاء البسطاء. وقد تناول عصام نصار استاذ التاريخ في جامعة الينوي الامريكية يوميات جريس السلطي تحت عنوان( سنة عصيبة في البقعة) والتي تناول فيها الكاتب تلك الأيام العصيبة التي عاشها من تبقى من الفلسطينيين في القدس الغربية بعيد سقوطها بيد الاحتلال الصهيوني وانفصالها بسورٍ وبوابةٍ عن القدس الشرقية، وقد بلغ عدد الفلسطينيين الذين قام الصهاينة بتجميعهم  في منطقة أطلق عليها اسم منطقة    ( ZONE A ) حوالي ثلاثين ألفاً لم يكن الطعام أو الشراب يصل إليهم إلا عن طريق الصليب الأحمر أوجمعية الشبان المسيحيين، وعاش الناس قرابة السنة في بؤس شديد وتخويف وترهيب لم يعرفوه من قبل. في هذه اليوميات حلّل المتحدثون الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كان الناس يعيشونها وطبيعة الأوضاع التي واجهها هؤلاء أثناء الفترة الانتدابية وحرب عام 1948م انطلاقاً من حياة تلك الشخصيات. علاوة على ذلك تحدث سميح حمودة المحاضر في دائرة العلوم السياسية في جامعة بير زيت عن تفاعلات وعلاقات النخبة الفلسطينية أثناء فترة الانتداب، بالاعتماد على قراءات متعمقة ليوميات داود الحسيني ويوميات طاهر الفتياني واللتين يعدهما المتحدث للنشر، ومذكرات عارف العارف والحاج أمين وغيرها مقترحاً صرف النظر عن المنهج القومي أو الماركسي الطبقي في قراءة التفاعلات التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع الفلسطيني، داعياً إلى تبني المنهج الانثروبولوجي في تحليل ما حصل للشعب الفلسطيني والذي يقوم على دراسة كافة التفاصيل بصغيرها وكبيرها والنفوذ إلى بنية المجتمع وبنية الوعي والثقافة والهوية التي كانت موجودة في أوساط الفلسطينيين حينها، والتي بمجملها افرزت معطيات المرحلة وتسببت في سقوط فلسطين، موضحاً أن الاستعمار عموماً يقوم على السيطرة على بنية المجتمع ووعيه توطئة لفرض سيطرته على ذلك المجتمع.    


التراث المعماري


التراث الثقافي مصدر للتأريخ، والعمارة جزء من هذا التراث وبالتالي هي جزء من عملية التأريخ، وغالباً ما يعكس النسيج المعماري النسيج الاجتماعي عند الامم إذ يبين لنا ذلك آليات تكيّف المرء مع البيئة والمحيط. بهذه الكلمات بدأ نظمي الجعبة مدير مركز رواق والمحاضر في جامعة بير زيت حديثه عن العمل الضخم الذي قام به المركز عبر الفترة السابقة، فالمركز قام بتوثيق خمسين ألف بناية بنيت قبل العام 1948م في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط بما نسبته 95% من العمائر الموجودة معللاً عدم العمل على ذلك في أراضي الثمانية وأربعين بالصعوبات الأمنية واللوجستية. إلا أن ذلك لم يمنعه من تقدير تلك البنايات التي كانت موجودة في أراضي الثمانية والأربعين بالمقارنة مع الضفة الغربية والقطاع بحوالي المئة ألف بناية، والتي سعى الاحتلال إلى محو الكثير منها عن الوجود؛ كي يزيل أثر وماضي وحاضر ومستقبل الفلسطينيين من علا هذه الأرض. وقد أشار الجعبة إلى أنّ نصف هذه المباني في الضفة وغزة مهجور أو آيل للسقوط أو أنه ساقط فعلاً، مما يعني ضرورة تكاتف الجهود إنْ لتوثيق وإعمار ما هو موجود داخل الخط الأخضر من فلسطين أو إعمار ما هو خارجه. وقد ختم الجعبة حديثه بالقول إن المبنى هو بمثابة وثيقة، وأن انهياره أو فقدانه هو فقدان للوثيقة بما يحمله ذلك من معاني التفجع والحسرة والخسارة، ذلك أنّ لكل مبنى قصةً وحكايةً تختفي خلفه، داعياً لقراءة النكبة بطريقة مغايرة من خلال التراث الثقافي والمعماري الفلسطيني.     


الصورة


تلعب الصورة دوراً توثيقياً لا يقلّ أهمية عن الأوراق المكتوبة، فهي توثق الحقبة الزمنية بمتغيراتها وسلوكياتها وتناقضاتها وتفاعلاتها والقيم السائدة فيها، ومنها يمكن للباحث أن يقف ويحلّل أنماط السلوك داخل المجتمع من جانب، والطباع التي عامل بها المحتلون الشعب الفلسطيني من جانب آخر. وهذا ما يتميز به عصام نصار والذي من مؤلفاته" لقطات مغايرة: التصوير الفوتوغرافي المحلي في فلسطين" حيث عرض مجموعة صور تُعرض للمرة الأولى، تتحدث عن الحقبة الانتدابية وبعض الشخصيات فيها، تماماً كما فعل جين مايكل مدير ارشيف صور المعهد التوراتي للآثار في القدس، والذي تعرض لفلسطين العثمانية عبر الكثير من الصور الفوتوغرافية التي أرّخت لوجود شعب في هذه الارض بالصورة رغم الادعاءات الصهيونية بنفي ذلك. كذلك قام أ لباحث أحمد مروات مدير أرشيف الناصرة الفلسطيني بعرض صور تم شراؤها من أحد الصهاينة الذين عثروا عليها في بيت أحد الفلسطينيين بعد احتلال القدس عام 1948م، والصور تؤرخ لأعمال المصورة الفلسطينية الأولى على مستوى البلاد كريمة عبود والتي تخصصت في تصوير النساء الفلسطينيات في أنشطتهن الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، نافيةً بالصورة الفوتوغرافية الترويج الصهيوني لنمطية المرأة الفلسطينية التي يتهمونها باللاحضارية والجهل. هذه الصور تحكي كما غيرها من الوثائق، وتوثق للاجيال ما لا تستطيع الكتابة تركيزه في الاذهان للتاريخ.


( ناقة الله) والثلاثمئة ألف جندي


(ناقة الله) هو اسم الجريدة التي أصدرها (عارف العارف) المؤرخ الفلسطيني الشهير في منطقة سيبيريا وكانت موجهة للجنود السوريين في الجيش العثماني الذين كانوا يخدمون هناك أثناء الحرب العالمية الأولى. والجديد الذي أفصح عنه سليم تماري مدير مؤسسة الدراسات المقدسية أنّ عدد الجنود العرب الذين قاتلوا إلى جانب الدولة العثمانية في الحرب بلغوا حوالي ثلاثمئة ألف عربي بما نسبته ثلث الجيش العثماني، وقد كانت مداخلته تلك في اطار استعراضه لمذكرات عارف العارف بين العامين 1915-1917م والذي كان آنذاك ملازماً في الجيش العثماني وتم اعتقاله على أيدي الروس في سيبيريا، وقد استعرض تماري تجربة العارف الاعتقالية بالاستناد الى تلك اليوميات غير المنشورة.


نحو أرشيف وطني فلسطيني

 لا يؤسَّس الارشيفُ والمؤرخ في البال كما قال عصام نصار، والاوراق التي يحفظها الارشيف في الغالب تحفظ لأغراض الدولة القانونية. وفي الحالة الفلسطينية فالفلسطينيون لا أرشيف لديهم وعلى الباحث الفلسطيني أن يبحث في أرشيفات الآخرين إذا أراد أن يؤرخ لذاته وفقاً لذات المصدر. وكون المؤرخ الفلسطيني ذا خصوصية لاعتبارات الاحتلال ومحاولات طمس حقوقه القانونية والانسانية، فقد غدا مؤرخنا مهووساً بالقضايا السياسية، مهملاً في الوقت ذاته التأريخ للحياة الاجتماعية والثقافية كما أكد غير واحد من المشاركين في المؤتمر؛ لذا فقد جاءت اليوميات والارشيفات العائلية لسدّ هذا الفراغ والتي بدأت ترى النور بفعل العديد من الكتاب والمؤرخين وعلماء الاجتماع المجتهدين. وقد أبدى البعض أسفه لتمكنه من الدخول إلى الأرشيف العثماني أو البريطاني أو حتى (الإسرائيلي) وعدم تمكنه من الدخول إلى الأرشيف المصري أو الأردني راجين أن يتم فتح تلك الأرشيفات أمام الباحثين في أقرب وقت. وإذا ما أراد الفلسطينيون أن يكوّنوا أرشيفهم الخاص فإن ذلك بحاجة إلى مؤسسة جادة وقرار جريء ومدروس؛ كون ذلك سيشكل محطة انطلاق الباحثين لتجميع تراث المجتمع وتسهيل إعادة كتابة التاريخ والنظر فيه من زوايا ربما لم تكن مطروقة من قبل.   .

التعليقات