سياسات إسرائيل لهدم البيوت الفلسطينيّة وصراع الذاكرة، الأرض، الهُويّة: منظور نسويّ

-

سياسات إسرائيل لهدم البيوت الفلسطينيّة وصراع الذاكرة، الأرض، الهُويّة: منظور نسويّ


لمّا راح البيت ، لمّا هدموه حسيت مش بس راحت داري إنّما راح مقداري. راحت قدرتي أحمي وأحضن ولادتي، راحت طاقتي إنّو  أَبني وأطوّر نفسي، حتى الأشياء الصغيرة مثل: أصحى لما بدي، أعمل فنجان قهوة مثل ما بدي، ألعب مع ولادتي مثل ما بدي، أحكي مع جوزي ايمتى وكيف ما بدي راحت، راحت.  راحت داري وراح مقداري (صوت سلوى)[i]


 


من لمّا هدّوا البيت انجبرت أستأجر دار من ورا الجدار [جدار الفصل العنصريّ] ... وانحرمنا من كلّ شي... انحرمنا ندخل القدس، انحرمت من الشغل بالمدرسة، ما هو يا أنا يا جوزي منقدر نبقى بالقدس عند دار حماي... فانجبرت إنّو أترك شغلي، وأصحابي وأبقى مع الأولاد... كمان سناء بطّلت من المدرسة. ما هو ما بنقدر على المصاريف ... هدّونا ... هدّونا بهدّة هالبيت ...(صوت هدى)[ii]


 


تعكس أصوات سلوى وهدى منظوراً مختلفًا لتأثير سياسات هدم البيوت الفلسطينيّة على المرأة. أصوات ترتفع لتطرح -وبأشدّ قوّة- الميراثَ الفلسطينيّ للشتات، للصراع على البقاء. أصوات تعيد إنتاج معرفة نسويّة ونسائيّة تطالب بوضع المرأة وصوتها ومقاومتها في مركز الحوار. فتقول حفيظة:


 


باصحى كلّ يوم حتى أكتشف من جديد اللي مش قادرة أصدقه، أني خسرت بيتي بعد اعتقال أولادي الأثنين، وكمان باشوف  البيوت الجديدة اللي بنوها للمستوطنين اليهود ... [رؤية] بيوتهم تُبنى على الطراز الحديث، مع حدائق كبيرة وساحة ألعاب للأطفال، في وقت اللي اولادي موجودين أو في السجون الإسرائيلية أو هون، في هاي الخشه اللي قدروا  أهالي المخيم بصعوبة إعطاءها لي بعد هدم بيتي – [هذا] بقتلني. وهيك، هاي الخشة هي بيتي وبيت أطفالي.[iii]


 


إنكار حفيظة المستمرّ لفقدان بيتها أصبح أصعب وأكثر إيلامًا بسبب شهادتها الفعليّة على بناء الإسرائيليّين/ات لبيوتهم/نّ، بينما الفلسطينيّون/ات يهجّرون/يهجَّرن، حتّى من بيوتهم/نّ الخاصّة المبنيّة في مخيّم للاجئين/ات. وهي تكرّر باستمرارٍ السؤالَ: "نحن مساجين في بيوتنا، وهم إلهم حرّيّة التنقّل ... هل بعتبرونا حيوانات ويعتبرون أنفسهم من بني البشر"؟


 


إنّ إعادة إنتاج الصراع الخارجيّ، المتّسم بالعنف والعدائيّة تجاه المجتمع والبيت الفلسطينيّ، ينعكس جليًّا بالتصادم البارز بين الرواية الصهيونيّة لسياسات هدم البيوت، الرامية إلى تغييب الذاكرة القوميّة من فقدان الأرض وسلب البيت وتشتيت أهله -وإلى الرواية الفلسطينيّة، ولا سيّما رواية المرأة الفلسطينيّة-. إنّ عمليّة هدم البيوت هي ليست عمليّة قانونيّة تتطلّب دراية بالقوانين وحذافيرها لمواجهتها، ولا "قضيّة أمن". فسياسة هدم البيوت مندرجة ضمن حدود الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وتتماشى مع الرواية الصهيونيّة التي ترمي إلى القضاء على البيت، والذاكرة، والأرض، والهُويّة، وإنسانيّة الفلسطينيّ/الفلسطينيّة.


 


وسؤالي في هذه المقالة: ماذا عن الرواية الفلسطينيّة النسائيّة؟ كيف تتصادم مع الرواية الصهيونيّة؟ وماذا عن أصوات النساء في هذا الخصوص؟ هل هي أصوات ممنوعة؟ وهل تُقصَى من الرواية الفلسطينيّنة الذكوريّة؟ وباعتبارنا نسويّات فلسطينيّات ناشطات نعمل جاهداتٍ على منع إقصاء الرواية النسائيّة، وعلى إحياء ذاكرة النساء، وعلى تسليط الضوء على إنجازاتهنّ وأدوارهنّ المتعدّدة في المجتمع، نرى أهمّيّة بالغة في طرح الرواية النسويّة من خلال بعض الأصوات لنساء فلسطينيّات -كطرح لرواية تنقل معاناة إنسانيّة غنيّة تتمثّل في أساليب مقاومة ونضال مختلفة ومتميّزة.


 


إنّ عمليّة الهجوم على البيت الفلسطينيّ -كمحاولة للسيطرة على الذاكرة وعلى "الفلسطينيّ الآخر"، وتدميرهما كلّيًّا، تُحيل البيت/المكان/الأرض إلى عامل مركزيّ وإلى أداة تحكّم وسيطرة في مسار بناء الرواية الصهيونيّة. فمن خلال الهدم المستمرّ، والسياسات المختلفة التي تنتهجها المؤسّسة الإسرائيليّة، مثل البيروقراطيّة القانونيّة، والتي تصعّد الهجوم على البيت والتي تدّعي أنّه لو عرف الفلسطينيّ القوانين واحترمها لتمكّن من الحفاظ على بيته ومنع فقدانه له، زاد من قمع الفلسطينيّ/ة لأرضه. كذلك استعملت المؤسّسة الإسرائيليّة مهارات تهديد وتهديم الهيكليّة الاجتماعيّة الإيجابيّة للمجتمع  ومحاولة تهميش واستغلال آليّات المقاومة والنضال النسائيّة، مثل ما حدث في مخيّم جنين في أحد الاجتياحات، حيث استعملوا مكبّراتهم الصوتيّة لتهديد المجتمع قائلين:


 


" يا أهالي جنين ... سلموا نفسكم،  إرحموا نساوينكم"[iv]


 


 ولم تكتفِ السياسات الإسرائيليّة باستخدام جسد ومكانة وطاقات المرأة للهجوم على البيت الفلسطينيّ، بل استمرّت في الهجوم على النواة الأصغر في المجتمع، ألا وهي الأسرة والبيت الأسريّ، وعملت من خلال سياسات "فرّق تسدْ". فإنْ حاول الجيران مساندة ومساعدة أصحاب البيت المهدّد بالهدم، أو البيت الذي على وشك الهدم، قامت الدولة -بأدواتها القمعيّة المختلفة- بهدم بيوت المساندين من أبناء العائلة أو المجتمع، أو بالتهديد بالهدم والسجن والإيذاء وغير ذلك...


 


وقد  أظهرت دراسة حديثة أنّ أفراد الفئات المستضعَفة (كالنساء، والأطفال، وكبار السنّ) يتأثّرون نفسيًّا من الهجوم التاريخيّ على بيت ووطن الفلسطينيّين. وقد أظهرت دراسات الباحثين  النفسيّين الاجتماعيّين في قطاع غزّة، لا سيّما تلك التي تدرس تأثير الصدمات، أظهرت أنّ النساء هنّ أكثر من يعانين من المشاكل النفسيّة- الجسديّة، بينما يعاني الأطفال وكبار السنّ من الاكتئاب ومن الصدمة الحادّة واضطراب ما بعد الصدمة.[v]


 


إنّ الأخطار المستمرّة وغير المتوقّعة (كما رأينا، على سبيل المثال، في قصص النساء) قد أثّرت على قدرة النساء على المحافظة على أنفسهنّ، وعلى عملهنّ، وعلى دراستهنّ، بيدَ أنّها زادت من الدافعيّة في مواجهة أعمال العنف وممارسات الجيش الإسرائيليّ المستمرّة. إنّ سياسات إسرائيل بالتهديد بالهدم، والهدم  الفعليّ، حسبما وصفتها النساء في بحثي الأخير حول الموضوع، حوّلت عمليّات الهجوم على البيت الفلسطينيّ إلى عامل مؤكّد على فهم ومراجعة تاريخ الشتات، وعلى حاجتهنّ لفهم أعمق وأقوى للتاريخ، وذلك ابتغاء َمواجهة الواقع. وقد أشارت المشارِكات في الدراسة أنّ السياسات الإسرائيلية الصهيونيّة لم تمحُ أو تلغِ الذاكرة والتاريخ والحاضر، بل جعلت البيت الفلسطينيّ، بوجوده أو بهدمه، حيّزًا للمقاومة والنضال. إنّ الكثير من النساء أكّدن، رغم شعورهنّ بالشتات ومعاناتهنّ اليوميّة، وعبّرن عن إيمانهنّ بأنّ على كلّ امرأة فلسطينيّة أن تعمل جاهدة لصيانة عائلتها وحماية بيتها من الغزاة/ المحتلّين. قالت حفيظة:


 


في الحي اللي ساكنين فيه نتقاسم أنا والنساء العمل بيننا. واحدة بتساعد في تعبئة الطلبات عشان نسجل أولادنا في المدارس، أو عشان ناخذ الأوراق الرسمية الضرورية والتصاريح علشان نقدر نتحرك احنا واولادنا بأمان؛ وواحدة بتجيب  الأدوية للمرضى؛ وسلفتي – اللي بتشتغل في الأمم المتحدة – بتحكيلنا عن حواجز الطرق أو تقييدات ثانية، عشان نكون كلنا منتبهات. وبنتّصل كمان بقرايبنا واصحابنا عشان نطّمّن عليهم، واحنا دايمًا مستعدّات إذا احتاجونا. بقبلش مرات أنام في ملابس النوم... حياتنا غير شكل عن حياة النساء الثانيات.  تعلّمنا من تاريخ الشتات... أنا دائمًا جاهزة... حتى  وأنا نايمة.[vi]


 


وقالت نوال:


ما بقدرولنا... لأنّو بيوتنا اللي سرقوها وأخذوها وأراضينا اللي صادروها، بتحكي عربي وبتحكي قصّتنا.


 


ولكن بالرغم من الهجوم على البيت وسرقته ومصادرته أو هدمه، استطاعت النساء تحويل بيوتهنّ إلى مواقع للمقاومة، وللصمود والبناء. إنّ ردود فعل كهذه خلقت، في الحقيقة، ورغم الألم المقرون بها، صمودًا أشدّ، كما عزّزت ودعمت بناء هُويّة قوميّة وشخصيّة. وَفق مشاهداتي، إنّ هذا الإحساس في الترابط، المتداخل مع الإحساس القوميّ بالانتماء، عزّز مكانة المرأة، وحوّل البيت والأرض والذاكرة إلى مواقع للنضال.


 


وكما قالت آمال:


 


مش رح نسمح لهم يطردونا من بيوتنا، مثل ما صار في الـ 1948.  شتّتونا في الـ 1948. في الـ 1948 أخذوا أراضينا، بيوتنا، ودمّروا علاقاتنا العائلية. عمي حفيظ استشهد، وزوجته وأولاده رحلوا على الأردن؛ عمي محمد (كان عمره 14 سنة في ذلك الوقت) اعتقلوه الإنجليز  المستعمرين، وما عاد في أيّ اتصال معه.  أبوي بقي في فلسطين. وحوّلوا بيتنا لبيت حزن... وكلّ مرّة كنّا نبنيه، كانوا يهاجمونا، يقتلوا أقاربنا، ويأخذوا بيوتنا ويتركونا مشتتين. الآن، ليس 48، فهم أقوى بكثير اليوم لأنه مش بريطانيا لحالها بتأيّدهم، كمان  أمريكا، واحنا ما وقفنا يوم عن مقاومتهم... بس احنا خايفين، وما فش حدا بعرف شو بخبيلنا المستقبل...


 


إنّ الاعتماد على البيت كموقع للمقاومة، إضافة إلى وعي تاريخ القمع والإنكار القوميّ، قد عزّزا الحاجة إلى الصمود والتقارب. يخلق هذا الإرث المتأصّل من الفقدان شعورًا بضياع الأمل، إلا أنّه يشجّع النساء للتفتيش عن مأوى آمِن لهنّ ولعائلاتهنّ كجزء من صمودهنّ. وبالرغم من السياسات القمعيّة، خلقت النساء، بأساليبهنّ الخاصّة، طُرُقَ مواجهة وصمود وبناء للبيت المهدّد بالهدم أو المهدوم.


 


إنّ قصص النساء عن التشريد والفقدان كانت مبنيّة على فهمهنّ أنّ الهجوم على البيت الفلسطينيّ يشكّل جزءًا من توجُّه أوسع للقوى العسكريّة المهيمنة تجاه الفلسطينيّ/ه الآخر/الأخرى. لقد حلّلت النساء المسار الأوسع للهجوم على  حاجاتهنّ وتقدّمهنّ في الوحدة العائليّة وعلى أفراد العائلة، واستنتجن أنّها طريقة لتقويض استقرار المبنى الاجتماعيّ. لقد تتبّعن آثار كلّ المسار من الهدم قبل الهدم، والهدم وقت الهدم، إلى الهدم بعد الهدم والذي يبدأ بتفريق العائلة وتدمير بيتها، ويستمرّ مع غارات ليليّة وضرب واعتقال وإطلاق رصاص على أفراد العائلة؛ وأشرن الى الصدمة والعجز المستمرّين نتيجة عدم القدرة على حماية أحبّائهنّ. وتحدّثن بصورة متواصلة عن التقنيّات القامعة الرامية إلى تقويض طاقاتهنّ كنساء أو تدمير العائلة، مثل تعذيب أفراد من العائلة (غالبًا يجري هذا بحضور آخرين/أخريات)، وركّزن على الطبيعة الجنسيّة للمضايقة ولانتهاك البيت. زهيرة[vii] تساءلت: "كيف يمكن للأمّ أن تشعر عندما يقتحم الجنود بيتها وهي نائمة؟... كلّ مرة اقتحموا فيها بيتي، شعرت بأنّي عريانة... وكأنّهم اغتصبوني... فهم في الحقيقة اغتصبوا بيتي".


 


هذه الأساليب والسياسات حاولت تحجيم طاقات المرأة في الدفاع عن بيتها ودارها، وحاولت تغييبَ الذاكرة القوميّة للفلسطينيّ والفلسطينيّة، وترسيخَ ذاكرة الخصم وطمس أو تنسية "الآخر" الفلسطينيّ، وإخراس الأصوات المقاوِمة لسياسات التنسية. إنّ جعل البيت حيّزَ مقاومة للنساء، وأصوات النساء غير المسموعة، كلّها تؤكّد من جديد أنّ الذاكرة القوميّة للمرأة الفلسطينيّة ملأى بالمقاومة والنضال، أملاً في أن تصل هذه الأصوات بمعاييرها التاريخيّة والأخلاقيّة لتخترق الحواجز الممنوعة.








[i] Shalhoub-Kevorkian, N. Counter-spaces as resistance in conflict zones: Palestinian women recreating a home. Journal of Feminist Family Therapy,  V. 17, NO. 3/4, 2005;   pp. 109-141. 



[ii] المصدر السابق



[iii] Shalhoub-Kevorkian, N.  (2005). Voice therapy for women aligned with political prisoners: A case study of trauma among Palestinian women in the second Intifada. Social Service Review, 79(2), 322-342.



[iv] Shalhoub-Kevorkian, N. (2004). The hidden casualties of war: Palestinian women and the Second Intifada. Indigenous Peoples’ Journal of Law, Culture and Resistance, 1(1): 67- 82.



[v] Qouta, S., R. J. Punamaki, and E. El Sarraj (1998). House demolition and mental health: victims and witnesses. Journal of Social Distress and the Homeless, 7(4): 279-88.


Shalhoub-Kevorkian, N. and Khsheiboun, S. (2006). Coping With Trauma: Palestinian Children Voicing Out Their Rights. A study for the World Vision Jerusalem.



[vi] Shalhoub-Kevorkian, N.  (2005). Voice therapy for women aligned with political prisoners: A case study of trauma among Palestinian women in the second Intifada. Social Service Review, 79(2), 322-342.



[vii] Shalhoub-Kevorkian, N.  (2003). Liberating voices: The political implications of Palestinian mothers narrating their loss. Women’s Studies International Forum 26(5), 391-407.

التعليقات