عن أطفال الشوارع في قطاع غزة

عن أطفال  الشوارع في قطاع غزة
في ليالي غزة المعتمة وفي بردها اللامتناهي فجأة يحاصرونك كالأشباح، لا تتجاوز
أعمارهم الثانية عشر عاما، يستعطفونك ويطرقون زجاج سيارتك لعلك تشتري بضعا مما
تحمله أيديهم النحيلة فيما تتساقط دموعهم إذا تمنعت عن الشراء. إنهم أطفال
الشوارع الذين أصبحوا إحدى علامات غزة المحاصرة والممنوعة من الحياة.

تزايد أطفال أسفلت الشوارع هي ظاهرة خطيرة بدأت تنتشر في قطاع غزة وهي مرتبطة
مع ارتفاع معدل البطالة وانعدام الدعم الأسري. ونظرا للفقر الشديد والحاجة
الملحة وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة تفشت تلك
الظاهرة بين الأطفال المشردين الذين يزداد انتماءهم لأسفلت الشارع وما يتبعه من
ظواهر سلبية أخرى تطرأ عليهم كالتدخين والسرقة والتسول والعنف والإجرام في
أوساط هؤلاء الأطفال.

يقول سمير زقوت أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية " إن الظاهرة بدأت
بالانتشار مع قدوم السلطة الفلسطينية في عام 1994 وما صاحبها من اندثار الطبقة
الوسطى في المجتمع الفلسطيني وازدياد الفقراء فقرا والأغنياء غنى.

ويضيف " تبدو الظاهرة جلية للعيان في الأطفال الذين نراهم على الإشارات الضوئية
في الشوراع الرئيسية لمدينة غزة في معظم أوقات النهار والليل، يبيعون ويتسولون
من سائقي السيارات العامة والخاصة دون توقف".

ويؤكد زقوت أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وانعكاسات التدهور الحاد في مستوى
معيشة طبقات سكانية بأكملها انعكس على المجتمع الفلسطيني في صورة تفكك أسرى
وارتفاع معدل الطلاق ما خلق ظواهر جديدة لم يعرفها المجتمع الفلسطيني من قبل.

يقول محمد هتهت، أحد عشر عاما من حي الشجاعية في مدينة غزة " لقد طلق والدي
والدتي وأنا ابن سبع سنوات وأجبرني والدي على ترك المدرسة والتسول في الشوارع
لإحضار طعام لإخوتي الصغار زاعما أنه لا يعمل ولا يستطيع أن ينفق علينا".

ويضيف " كنت أتسول في سوق الشجاعية شرق مدينة غزة ولم أكن أحصل إلا على ستة أو
سبعة شواقل يوميا إلى أن نصحني أحد الباعة بأن أتوقف عن التسول واشترى لي بضاعة
بحوالي 150 شيقل ومن يومها وأنا أدوام في هذا المكان أمارس مهنة البيع ومسح
زجاج السيارات مما يوفر لي عشرة شواقل على الأقل يوميا.

ويؤكد محمد أنه لا يستطيع أن يعود إلى البيت ومعه أقل من الشواقل العشرة لأن
ذلك يعني له الضرب والإهانة مستذكرا أنه لمرات عديدة ظل ينتظر أمام الإشارة
الضوئية في جو ماطر حتى العاشرة ليلا خوفا من العودة إلى والده بأقل من
الشواقل العشرة.

وينتقد الأخصائي النفسي زقوت عدم وجود مؤسسة لرعاية هؤلاء الأطفال رغم بعض
المحاولات المتعثرة من هنا وهناك والتي كان آخرها محاولة مؤسسة مبرة الرحمة في
غزة.

وأشار زقوت إلى أنه تعامل شخصيا مع العديد من حالات أطفال الشوارع والذين
يعانون من اضطرابات نفسية جراء ما يلاقونه ويواجهونه من صعاب ومآس منوها إلى أن
إحدى هذه الحالات كانت لطفل يبلغ من العمر الرابعة عشر عاما ويعاني من اضطراب
ما بعد الصدمة والتبول اللاإرادي والتسول في الشوارع.

وأضاف ان هذا الطفل كان ضحية طلاق والديه ورفض كلا من أسرة والدته ووالده
احتضانه مما اضطره للجوء إلى الشوارع وأرصفتها للمبيت والتسول من أجل سد رمقه.

ويضيف زقوت " توجهت أنا وهذا الطفل إلى ما يعرف بالإصلاحية في غزة " مكان
للأحداث الذين يرتكبون جرائم وبحاجة إلى إصلاح" ،وطالبتهم باستيعابه في داخلها
بدلا من الشارع إلا أنني فوجئت بردهم " نحن نقبل فقط أطفال يتم تحويلهم من قبل
النيابة العامة، وعليك أن تتركه في الشارع حتى يسرق ويلقى القبض عليه حتى تحوله
النيابة العامة لنا ونستوعبه".

تقول إحدى الأمهات المتسولات التي رفضت الكشف عن اسمها أو أن يتم تصويرها هي
وأبناءها الخمسة الذين تجبرهم على التسول ومسح زجاج السيارات في الشوارع " نحن
ضحية زوجي الذي يرفض أن ينفق عليي وعلى أبنائه خاصة أنه مدمن على المخدرات
وبحاجة إلى مصاريف يومية لا نقوى عليها".

وتضيف " ترك أولادي جميعا المدارس إلى الشوراع فهي عملنا وحياتنا ولا نستطيع أن
نتخلى عنها في ظل انعدام أي فرص للمساعدة أو العمل وتدهور أوضاع الناس
الاقتصادية والحياتية".

وتقول تلك المتسولة " حتى مهنة التسول أصبحت غير مجدية فالناس كانوا في الماضي
يدفعون بسخاء أما الآن فإنني ألمس في عيونهم الرغبة في الدفع ولكنهم لا يملكون
المال".

تقول نسرين خيرالله، تسعة أعوام " منذ الثامنة صباحا وأنا أقف بجوار الصراف
الآلي لأحد البنوك ا لتجارية انتظارا لما يمكن أن يجود به علي بعض الزبائن
الذين يتعاملون مع البنك"

وتضيف " أغادر بيتي البعيد عن البنك بمسافة تصل إلى أربعة كيلو مترات منذ
الصباح الباكر مشيا على الأقدام كي أكون أول الواصلين إلى البنك لإن الناس في
الصباح يكونوا كرماء."

وتقول " لا أستطيع رغم البرد والمطر أن أبقى في البيت لأن زوجة أبي تضربني
وتعاملني بقسوة وتطلب مني دائما عدم العودة إلى البيت دون نقود". وتشير نسرين
بيدها وهي تبتعد إلى داخل أحد الأسواق المحيطة بالبنك إلى مجموعة من طلاب
المدارس الناظرين إليها بفضول شديد " أتمنى أن أكون مثلهم".

التعليقات