تجربة العمل السياسي الفلسطيني في سورية: الخصائص والتوقعات../ ماجد كيالي

يمكن أن نخلص من مراجعة هذه التجربة بأن زمن العمل الفصائلي (بأشكاله السائدة)، الذي بدأ في أواسط الستينيات، أوشك على الأفول، بما له وما عليه، بدليل تراجع قدرة معظم الفصائل على القيام بدورها الوطني، وانحسار مكانتها التمثيلية، وتآكل بناها، والعزوف عن الانخراط في صفوفها

تجربة العمل السياسي الفلسطيني في سورية: الخصائص والتوقعات../ ماجد كيالي
اشتغلت الحركة السياسية الفلسطينية المعاصرة، منذ قيامها، على تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، وصوغ هويته وشعاراته وإطاراته الوطنية، وتنمية شعوره بمصيره المشترك (بين أمور أخرى). مع ذلك فإن مآلات هذه التجربة تفيد بنكوص هذه المسارات، فثمة اليوم تصدّعات في العناصر المشكّلة لو......حدة الفلسطينيين كشعب، وضمور في مدركاتهم لهويتهم الوطنية، وشكوك حول معنى مصيرهم المشترك؛ على الرغم من كل النجاحات التي تم إنجازها في مراحل النهوض الوطني (في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي). فقد بينت التجربة المعاشة افتراق الإمكانيات عن الرغبات، واختلاف الواقع عن المتخيّل، فلا أوضاع الفلسطينيين كانت على نسيج واحد، بعد أن مزّقت النكبة وحدتهم المجتمعية، وبعد أن باتوا يخضعون لسلطات أمنية وسياسية وقانونية متعددة ومتباينة، ولا القوى السياسية (بتجاربها المزاجية والمتعثرة والمقيدة) كانت امتلكت الإطارات الملائمة لأخذ هذه التجربة نحو نهاياتها المرجوة.
 
هكذا بتنا اليوم، لاسيما مع انحسار الحركة الوطنية، وضمور أطرها الجامعة، وانقسام كياناتها واختلاف سياساتها، أمام وجود نوع من "مجتمعات" متعددة (إن جاز التعبير)، فثمة فلسطينيو 48 الذين يخضعون لنظام المواطنة الإسرائيلية، وفلسطينيو الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، واللاجئون المواطنون في الأردن، واللاجئون في كل من سورية ولبنان، وغيرهما من بلدان اللجوء والشتات. على ذلك فإن الحديث عن التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ونقصد بها تجربة فصائل المقاومة تحديدا، يحيلنا (بغض النظر عن الرغبات) إلى تجارب متعددة ومختلفة، بمقدار تعددية "مجتمعات" الفلسطينيين، وبنفس اختلاف الظروف التي يعيشون في ظلها.
 
أولا، تجربة التنظيمات السياسية الفلسطينية في سورية؛ غلبة الطابع السياسي المدني وتمايز العلاقة مع المجتمع المحلي
 
تأسيسا على ذلك يمكن تمييز التجربة السياسية لفلسطينيي سورية بالنواحي الآتية:
 
1. اتسمت هذه التجربة بطابعها السياسي المدني المتمحور حول الأنشطة التنظيمية والإعلامية والجماهيرية، ما مكنها من معايشة تجربة سياسية طبيعية (إلى حد ما)، على خلاف التجارب الأخرى (الأردن ثم لبنان)؛ التي طغى فيها البعد العسكري (الناجم عن تغوَل الأجهزة الأمنية و"الميليشياوية") على بنى الفصائل، ما أثر سلبا على إطاراتها التنظيمية والشعبية ومضامين ثقافتها السياسية. ويبدو أن الدولة السورية أسهمت في ذلك (بغض النظر عن مقاصدها)، كونها حالت دون انفلاش وجود الفصائل المسلحة، بواقع قدرتها على التحكم بإقليمها.
 
2. لم تشهد هذه التجربة، أيضا، تفشي ظاهرة "التفرغ" في الفصائل (بالقياس لتجربة لبنان وبعدها الضفة وغزة)، بالنظر لاندماج الفلسطينيين في الحياة الاقتصادية السورية، وتوفر مصادر عمل للأجيال الجديدة من الشباب الفلسطيني. ولا بد من التوضيح هنا بأن هذا الأمر يحسب لصالح فلسطينيي سورية، الذين التفّوا حول راية المقاومة، وانضووا في فصائلها، بناء على قناعات سياسية، وبمعزل عن الدوافع الخاصة. واستطيع الجزم من تجربتي الشخصية بأن تنظيم "فتح" في مخيمات سورية، مثلا، لم يكن فيه نشطاء متفرغون، باستثناء المتفرغين في مقر الإقليم (في مخيم اليرموك) لأغراض إدارية، لا تنظيمية؛ وهذا ينطبق على غالبية الفصائل (قبل العام 1982). لكن هذه الظاهرة توسعت، إلى حد ما، بعد التاريخ المذكور، بسبب انتقال مقار معظم قيادات الفصائل وأجهزتها إلى دمشق، وبحكم تحول الساحة الفلسطينية في سورية إلى ساحة للاستقطاب السياسي، لاسيما للفصائل المعارضة لقيادة المنظمة (قيادة فتح). وعلى كل فإن هذه الظاهرة سرعان ما انكمشت مع نضوب الإمكانيات المادية؛ ما أدى إلى تداعيات سلبية (سياسية وقيمية) في المجتمع، وفي الفصائل، ضمنها تدهور صورة الفصائل في المجتمع، وتشوه معنى الانتماء إليها، وتزعزع ثقة العاملين في الفصائل باستقرار اوضاعهم. كما نجم عن ذلك خلق ظاهرة أخرى من العاطلين عن العمل، من ناشطي الفصائل، والفدائيين السابقين، الذين باتوا على قارعة الطريق، من دون أن يكون لهم مهنة أخرى، ومن دون أن يكون باستطاعتهم العمل لتحصيل قوت عيالهم (لذلك كنت تجد بائعا على الرصيف أو في سوق الخضار كان في السابق ضابطا أو مسؤولا في أحد الفصائل).
 
3. بالنظر للأسباب التي تحدثنا عنها فإن مجتمع المخيمات في سورية (على تباعد توزعها الجغرافي) لم يتأثر مباشرة بالعمل السياسي الفصائلي (ودائما بالقياس للتأثر الذي لحق بمجتمع مخيمات لبنان)، وقد نتج عن ذلك تمركز العمل الفلسطيني في دمشق ـ العاصمة، لدرجة أن غالبية مقار الفصائل ومنازل قادتها هي خارج حتى مخيم أو مدينة اليرموك. إضافة إلى ذلك فقد تمحورت البني الفصائلية حول ذاتها، وحول بعضها، ما أفضى إلى تشكّل نوع من "مجتمعات" فصائلية مكتفية بذاتها، بمعنى ما، من جهة المرجعية السياسية والعلاقات الاجتماعية والموارد المالية (المتأتية من الخارج أصلا وليس من المجتمع المعني). ومن الواضح أن الموارد المالية الخارجية التي تدفقت على الفصائل (في مراحل معينة) أدت إلى تمكين بعض الفصائل من خلق نوع من"سوق عمل" خاصة وشبكة خدمات قائمة على "التفريغ"، أو "الزبائنية السياسية"، ما أمن لها قاعدة اجتماعية ثابتة، مرتبطة بها مصلحيا، بغض النظر عن علاقات الانتماء المتأسسة على القناعات السياسية. وقد نتج عن ذلك خلق حالة من الغربة بين المجتمعات والبني الفصائلية، كما نتج عنه ترسخ العلاقات البطركية في الفصائل (بمعنى العلاقات الأبوية، التي تفضي إلى ثبات التراتبية، بدلا من العلاقات الحزبية المؤسسية والديمقراطية)، المدعومة بنمط "التفريغ" (أي الانتماءات المتأسسة على علاقات زبائنية) وكل ذلك أدّى، أيضا، لاعتبار هذه الفصائل نفسها وصية على الشعب وولية أمره ودون حساب أو مراجعة.
 
4. معلوم أن سورية شكلت ساحة عمل واسعة لكل الفصائل الفلسطينية، على تعددها وتنوعها وتعارضاتها (لعل التنظيم الوحيد الذي تم حظره نهائيا هو جبهة التحرير العربية التابعة لحزب البعث في العراق). مع ذلك فإنه لا يمكن الحديث عن هذه التجربة بدون التطرق للحساسية التي طبعت علاقة القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة وفتح والسلطة) بالقيادة السورية، والتي ازدادت توترا،على خلفية تداعيات الغزو الإسرائيلي لبنان (وتفاقمت بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993)، وأدت إلى قطيعة، نجم عنها حظر تنظيم حركة "فتح"، ووضع قيود على نشاط الفصائل المتحالفة معها، مقابل إطلاق حرية النشاط للفصائل المعارضة، بحيث باتت الساحة الفلسطينية في سورية من أهم ساحات المعارضة للتسوية والسلطة.
 
5 ـ شكل وعي فلسطينيي سورية لمكانتهم كلاجئين الأساس لاحتضانهم فصائل المقاومة والانخراط فيها بلا حدود، لاسيما أن حركتهم الوطنية انطلقت باعتبارها حركة لاجئين، تتوخى تحرير فلسطين، ما يعيد الأرض والشعب. لذلك وفي تفحصنا لهذه التجربة يمكننا ملاحظة أن ثمة ظاهرة متنامية، تتمثل بنوع من الانصراف، أو اللامبالاة، في التعاطي مع مجمل الفصائل الفلسطينية. ويمكن إحالة ذلك إلى تنامي شعور الإحباط عند الفلسطينيين، والتذمر من واقع الاختلاف والاقتتال والانقسام. لكن هذه الظاهرة تستمد وجودها من نمو شعور عند اللاجئين بأن حركتهم الوطنية تخلت عنهم، وعن حقوقهم، وذهبت باتجاه التسوية، ومجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع. وما يعزز من هذا الشعور واقع تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة، وتحويل مركز العمل الوطني إلى الضفة والقطاع، وغياب الهيئات والمنظمات الشعبية الجامعة. وتفيد هذه الملاحظة بأن انتقال ثقل العمل من الخارج إلى الداخل أدى إلى تهميش دور الشتات في العملية الوطنية.
 
6ـ على ما تقدم، يمكن ملاحظة أن هذه التجربة تتضمن العديد من المراحل، تمتد أولها من البدايات حتى خروج منظمة التحرير من لبنان (1982)، وهي شهدت نوعا من الاستقرار والنمو، برغم التوترات التي أحاطت بالعلاقات السورية ـ الفلسطينية بهذه الفترة. وتمتد المرحلة الثانية حتى اندلاع الانتفاضة الثانية (عام 2000)، وهي التي شهدت القطيعة بين سورية والقيادة الفلسطينية الرسمية، على خلفية افتراق مواقفهما بعد غزو لبنان (1982)، ثم بعد عقد اتفاق "أوسلو". وقد كان من تجليات هذه القطيعة إغلاق مكاتب ومراكز "فتح"، وحظر أنشطة تنظيمها، وتحجيم وجوده، الأمر الذي أدى إلى انحسار العمل الفلسطيني، رغم ما أتاحه ذلك، بالمقابل، من إطلاق المجال لأنشطة الفصائل المعارضة. وثمة المرحلة الثالثة التي نشأت بدفع من تفاعلات الانتفاضة الثانية (التي اندلعت في أيلول 2000)، واتسمت بتطبيع العلاقات السورية ـ الفلسطينية، بشكل محدود. وقد شهدت هذه المرحلة، أيضا، صعود مكانة "حماس"، التمثيلية والسياسية، وكمنافس لحركة فتح وتنظيمها، مع ما لحماس من إمكانيات مادية، وحضور نضالي قوي، ودعم سياسي من سورية. كما شهدت هذه المرحلة محاولة الفصائل تعزيز بوضعها بالتحول أيضا نحو العمل الجماهيري العام (وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا)، بما في ذلك إنشاء لجان شعبية موازية (بتغطية مستقلة بشكل أو بآخر).
 
7ـ من باب المقارنة، فإن تجربة العمل السياسي في الفصائل للاجئين الفلسطينيين في لبنان تختلف عنها في سورية من جهة غلبة الطابع العسكري عليها، وهيمنة هذا الطابع على بناها التنظيمية والجماهيرية، وعلى أشكال عملها وأنشطتها، ومن جهة كثافة مشاركة الفلسطينيين في مخيمات لبنان فيها، كما من ناحية انتشار ظاهرة التفرغ في الانتماء للفصائل ولأجهزتها المختلفة، وكذلك من ناحية هيمنة قيادات الفصائل على المجتمع المحلي، وكلها أمور في غاية الأهمية في دراسة التجربة السياسية الفلسطينية في لبنان. لكن مع ذلك يمكن القول إن هاتين التجربتين متقاربتين من ناحية المآل العام لدور الفصائل الفلسطينية، وتراجع الدور السياسي للاجئين في الشتات، وبروز أشكال عمل جديدة، مع بروز ظاهرة الناشطين السياسيين المستقلين، حيث ثمة في لبنان امكانيات ومجالات عمل ارحب بالنسبة لهم.
 
ثانيا، الواقع الراهن للفصائل في سوريا؛ ضمورها وتراجع مكانتها التمثيلية
 
على ضوء ما تقدم من ملاحظات يمكن القول إن الساحة الفلسطينية في سورية تعرضت لذات أعراض الساحات الأخرى، من ناحية ضمور الحجم التنظيمي للفصائل (إن بحكم التسرب منها أو بحكم صرفها قطاعات واسعة من المنتسبين إليها)، ومن ناحية انصراف الأجيال الجديدة من الشباب عن الانتساب إليها، أو حتى الانخراط في أنشطتها، وأيضا من ناحية تضاؤل القيمة أو المكانة التمثيلية لهذه الفصائل (بالمعنى النسبي).
 
ويمكن تلمس ذلك بملاحظة العزوف عن المشاركة في الأنشطة الجماهيرية للفصائل (المهرجانات والاجتماعات والندوات وحتى المظاهرات أو التحركات المنظمة سلفا)، ولجهة تدني أعداد المشاركين فيها، لاسيما من فئة الشباب، واقتصار هذه المشاركة غالبا على المتفرغين في الفصائل (على قلتهم)، وعلى بعض المهتمين من المستقلين، الذين يحرصون على حضور هذه الأنشطة.
 
طبعا يمكن تفسير ما تقدم بتراجع اهتمام الأجيال الجديدة بالعمل العام، وبالقضايا السياسية، لصالح الاهتمام بالحاجات الشخصية والقضايا الحياتية (التعليم والعمل..)، على خلفية التحولات والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحاصلة في المجتمعات المعاصرة. لكن الأمر في الساحة الفلسطينية يرتبط، أيضا، بتراجع قدرة الفصائل عن القيام بدورها الوطني، وضعف إمكانياتها، وتكلس بناها، وخبو حيويتها النضالية، وغياب الحراكات الداخلية فيها، وشعور اعضائها بالإحباط.
 
وكما ذكرنا سابقا فإن المسألة نسبية بين الفصائل، حيث أن حركة فتح ماتزال تشكل الثقل الأساسي في حجم الانتماء إليها، أو المتعاطفين معها، على الرغم من وضعيتها الخاصة في سورية. ويمكن تفسير ذلك باعتبار أن هذه الحركة تحتل مكانة القيادة في المنظمة والسلطة، وتستند إلى تراث نضالي، وتعتمد طرقا "شعبوية" في التنسيب، وأنها لازالت تتمتع بإمكانيات كبيرة في التوظيف و"التفريغ". ولاشك أن تنظيم فتح في سورية يعاني كثيرا من تجميد قدراته ومن تحديد أنشطته وإغلاق مكاتبه، ما يؤثر على حجمه كما على فاعليته؛ وربما أن تغير هذا الواقع إيجابا، قد يسهم بتعزيز وضعه وتطوير فاعليته.
 
ومع أن حركة "حماس" تبدو منافسا قويا لحركة "فتح"، للاعتبارات التي ذكرناها، إلا أن هذه الحركة مازالت تعتبر جديدة في سورية، وربما تعتبر "وافدة" أيضا (وهذا ينطبق على حركة الجهاد الإسلامي)، حيث أن غالبية قياداتها وكوادرها من الضفة والقطاع المحتلين، وبالنظر إلى عدم وجود ميل جدي لديها للعمل التنظيمي بين فلسطينيي سورية. وإذا نحينا حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" جانبا، فإن ما يلفت الانتباه أن الفصائل المحسوبة على المعارضة، والتي تتمتع بحرية واسعة في مجالات عملها في سورية، وهي: الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة و"الصاعقة"، وجبهتا التحرير والنضال الشعبي، و"فتح الانتفاضة"، والحزب الشيوعي الثوري، في حالة تراجع مستمر، على أكثر من صعيد (مع تأكيد أن ثمة فرق بين تنظيم وآخر).
 
وكانت هذه الفصائل قد شهدت تسرّب أعداد كبيرة من المتفرغين منها، كما إنها قامت بمرحلة من المراحل، بصرف أعداد كبيرة من كوادرها والعاملين في أجهزتها، بدعوى انحسار مواردها المالية، أو لأسباب تنظيمية وسياسية، ما أثر على حجمها ومكانتها وفاعليتها السياسية. وعلى الصعيد الجماهيري يمكن ملاحظة وجود فصائل يكاد لا يكون لها من الوجود سوى هيئاتها القيادية، بمعنى أنها تفتقد لأي تمثيل شعبي، (تماما كما بعض الفصائل الموالية للسلطة في الضفة وغزة، حيث أن هكذا فصائل تدين بوجودها لنظام المحاصصة، كما للاستقطاب بين فتح وحماس). وفي هذا المشهد يمكن تمييز الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة والصاعقة، اللتين تعتبران ضمن إطار منظمة التحرير، حيث تتمتع الأولى بنفوذ سياسي وتواجد منتظم في مخيمات سورية (بغض النظر عن حجمه ودوره)، في حين تتمثل الثانية، بتنظيم فرع فلسطين لحزب البعث العربي الاشتراكي، المتواجد والنشط في مخيمات سورية.
 
وفي جميع الأحوال فإن دور معظم هذه الفصائل بات يقتصر فقط على صورتها كفصائل معارضة لفتح والسلطة والمنظمة، وعلى موقفها المعارض لخط المفاوضات والتسوية، وهذا ما يتبدى من الاجتماعات التي تعقدها، والمؤتمرات التي تنظمها، والبيانات التي تصدرها، والمظاهرات التي تسيرها، أكثر مما يتبدى من مكانتها التمثيلية في المجتمع، أو من دورها في مقارعة العدو الصهيوني. ويبدو أن مشكلة "تحالف الفصائل المعارضة" في سورية، وبغض النظر عن دورها في مجال الصراع ضد إسرائيل، أنها لم تنجح في تقديم نفسها بوصفها نموذجا بديلا لقيادة "فتح" والفصائل المتحالفة معها، فهي لم تبن مؤسسات وطنية جامعة ولا هيئات تمثيلية مستقرة، ولم تستطع حتى تفعيل الاتحادات الشعبية في الساحة التي تعمل فيها بمطلق الحرية، وحتى إنها لم تستطع تكريس علاقات ديمقراطية سليمة فيما بينها.
 
وما ينطبق على الفصائل الثماني المعارضة ينطبق على وضع الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير، وهي الجبهات الشعبية والديمقراطية والنضال والتحرير وحزبا الشعب وفدا، لجهة انحسار عضويتها وتراجع فاعليتها. لكن ينبغي هنا، أيضا، تمييز وضع الجبهتين الشعبية والديموقراطية، فهذين الفصيلين مازالا يتمتعان بحالة تنظيمية وبحيوية نضالية وبفاعلية سياسية مناسبة، إلى حد ما، بالنظر إلى اعتمادهما حياة حزبية طبيعية وسليمة ما أمكن، وبالنظر إلى تاريخهما النضالي، وتبنيهما توجهات سياسية نضالية ومغايرة لحال الاستقطاب الدائرة بين فتح وحماس. ويمكن هنا الإشارة إلى أن عدم التوافق بين هاتين الجبهتين المحسوبتين على تيار اليسار، يضعف من مكانتهما ومن دورهما، مثلما يضعف مكانة تيار اليسار في الساحة الفلسطينية. أما بالنسبة للفصائل الأخرى (جبهتي التحرير والنضال وحزب فدا) فوضعها أصعب من وضع تنظيم "فتح"، بالنظر إلى ضعف إمكانياتها، وقلة أعداد المنتسبين فيها، ووجود فصائل موازية لها في إطار المعارضة؛ وحتى بين الفصائل المنضوية في إطار المنظمة ثمة "فيتو" من الجبهة الديمقراطية على أي تواجد لحزب "فدا" في أية هيئة سياسية في سورية. أما بالنسبة لحزب "الشعب" فإمكانياته وفاعليته محدودة، وهو حديث العهد في العمل السياسي بسورية، فمنذ سنتين فقط استطاع أن يفتح مكتبا له في مخيم اليرموك بدمشق.
 
ثالثا، الفصائل ومجالات نشاط جديدة
 
في إطار محاولاتها وقف التدهور في مكانتها وفي دورها، الذي يشمل التدهور في حال المنظمات الشعبية (العمال والطلاب والكتاب والصحفيين والمعلمين والمرأة)، حاولت بعض الفصائل التعويض عن تضاؤل عضويتها، وتراجع فاعليتها السياسية، بإيجاد مجالات عمل أخرى، ربما تلقى قبولا جماهيريا أفضل.
 
هكذا عملت الفصائل على توجيه بعض كادراتها، أوالمتعاطفين معها، للعمل لصالحها، في المجال الجماهيري من خلال بعض الأنشطة ذات المحتوى السياسي العام، من مثل لجان الأرض ودعم الانتفاضة وحق العودة، أو ذات المحتوى الشبابي (في مجال الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية)، أو ذات المحتوى الخدمي الاجتماعي (في مجال الصحة والعمل والتعليم والبيئة). والمشكلة أن هذه المحاولات أصيبت بأعراض الفصائل التي قامت بها، إضافة إلى إنها لم تنجح بالتعبير عن ذاتها كإطارات مستقلة. والأنكى أنه بات لكل فصيل من الفصائل المقتدرة لجنتها لحق العودة وناديها الرياضي وجمعيتها الخيرية ومستوصفها الصحي!
 
وقد برزت الجبهات الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة (مع حركتي فتح وحماس)، باعتبارها الفصائل الأكثر نشاطا بهذه المجالات. ومثلا فقد عملت الجبهة الديمقراطية على تحويل مقر قيادتها في مخيم اليرموك (بناية بعدة طوابق) إلى مركز ثقافي، يضم مكتبات للصغار والكبار وقاعات للمطالعة وللكومبيوتر وللمحاضرات. كما أنشأت مؤسسات للأطفال، ومستوصف للخدمات الصحية، وتتبع لها أيضا "لجنة الدفاع عن حق العودة" (وهي أول لجنة تأسست لهذا الغرض ـ في العام 1996) تابعة لها.
 
وبالنسبة إلى حركة "فتح"، فثمة إطارات مستقلة تعمل من خلالها، من مثل مؤسسة أسر الشهداء، ونادي فتيات فلسطين، وجمعية الكثافة، وعديد من النوادي الرياضية والمنديات الثقافية واللجان الجماهيرية؛ بحيث ما يعوضها، نوعا ما، عن محاولات تغييب أنشطتها.
 
أما بالنسبة إلى لفصائل المعارضة فإلى جانب الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ومنظمة الصاعقة (التي تنشط من خلال التنظيم الفلسطيني لحزب البعث)، فإن حركة "حماس" وحدها هي التي تمتلك مجموعة كبيرة من لجان العمل الجماهيري على تنوع مجالات عملها، وكذا الجمعيات الخيرية، الناشطة والفاعلة في مخيمات الفلسطينيين في سورية، بحكم إمكانياتها المادية، وبواقع فاعلية دورها السياسي.
 
فاعليات لناشطين من خارج التنظيمات السياسية
 
لكن ساحة العمل الجماهيري في مخيمات الفلسطينيين في سورية لم تعد محتكرة لصالح الفصائل السائدة. فعلى خلفية اندلاع الانتفاضة الثانية، وما أطلقته من طاقات كفاحية كامنة لدى الفلسطينيين، وبالتزامن مع نمو ظاهرة التضامن الأممي مع قضية فلسطين، وبالاستناد لتطور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، وتزايد أهمية المجتمع المدني في العالم، بدا أن ثمة بإمكان مجموعات من الأفراد المستقلين، مهما كان عددهم، إحداث فاعليات مؤثرة في المشهد السياسي. ويجدر بنا أن نوضح هنا بأن مصطلح "المستقلين" يشمل الأفراد الناشطين في العمل السياسي والجماهيري، بشتى أنواعه، من دون ارتباط مباشر بفصيل معين. ومعنى ذلك أن هؤلاء الأفراد ينشطون بشكل طوعي، وبناء على وعيهم لدورهم في العملية الوطنية، متوخّين في ذلك المصلحة العامة، أي مصلحة القضية والشعب؛ من دون ارتهان للمصالح والمواقف الفصائلية.
 
وربما يمكن إحالة بروز دور الناشطين المستقلين إلى تزايد القناعة بعدم جدوى العمل السياسي في الفصائل، التي باتت اقرب إلى بني مترهلة وجامدة، وحكرا على طبقة سياسية معينة، لافتقادها للحراكات الداخلية وللعلاقات الديمقراطية، ولاسيما بعد تراجع دور هذه الفصائل في العمل الوطني (بالقياس للسابق)، وانحسار امكانياتها. ويجدر بنا هنا الإشارة ايضا إلى ملاحظة ان القطاع الأبرز من هؤلاء الناشطين المستقلين كانوا سابقا من المنتمين تحديدا لحركة "فتح" والجبهتين الشعبية والديمقراطية.
 
هكذا شهدت المخيمات الفلسطينية في سورية، كما غيرها، انتشار ظاهرة اللجان (على تنوع مهامها وموضوعاتها وأنشطتها)، للتعويض عن قصور الفصائل، وكبديل عن العزوف عن الانتماء إليها، وتلبية ميل قطاع من الشباب للانخراط في العمل السياسي. وقد تشكلت هذه اللجان بداية في إطار دعم الانتفاضة، وبعد ذلك ظهرت لجان للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الأرض والهوية، ثم ظهرت لجان الدفاع عن حق العودة. وكما قدمنا فإن الأمر لم يقتصر على ذلك فثمة لجان أيضا تعنى بالأنشطة الثقافية أو الرياضية أو بالخدمات الصحية.
 
وإذا استثنينا اللجان التي تعمل تحت غطاء حركة "حماس"، فإن معظم الناشطين في هذه اللجان ينتمون إلى التيار العلماني، الوطني واليساري، لاسيما أن عددا كبيرا من الناشطين فيها كانوا من المنتمين سابقا لحركة "فتح"، وللجبهتين الشعبية والديمقراطية. وبناء على هذا الواقع ثمة اليوم عشرات اللجان والهيئات الشعبية المستقلة تعمل أو تعلن العمل بين تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، ويمكن بين فترة وأخرى إشهار لجنة أو إعلان غياب أخرى.
 
فعلى سبيل المثال، وفي مجال الدفاع عن حق العودة، ثمة اللجان الآتية: "لجنة الدفاع عن حق العودة"، "عائدون"، "الأرض"، "بادر"، "واجب"، "ساند"، "ثبات"، "سنعود"، "فلسطيننا"، اللجنة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن حق العودة، لجنة اللاجئين وحق العودة، مركز أبناء البلد للدفاع عن حق العودة، رابطة العودة، لجنة حتمية العودة، ملتقى الشباب لحق العودة، لجنة الشباب لحق العودة، ملتقى العودة، رابطة بيت المقدس لأجل العودة، حركة عودة الشعب الفلسطيني! وفي الواقع فإن هذا العدد من اللجان ليس دليل حيوية، أو علامة عافية، وإنما هو دليل انفلاش وعلامة على عدم نضج المجتمع المدني، وافتقاد العمل الجماهيري إلى الخبرات والضوابط اللازمتين، فضلا عن ان هذه اللجان لاتعمل بذات مستوى الفاعلية والاستمرارية، وثمة لجان ليس لها سوى الاسم، كما ذكرنا سابقا.
 
وقد بينت التجربة ان ثمة مشكلات تحيط بعمل هذه اللجان، ضمنها، مثلا، محاولات الفصائل الحد من انتشارها، وعدم التعاون معها، والنظر إليها بصورة تنافسية، لا تكاملية، بحيث وصل الأمر ببعض الفصائل حد تشكيل هيئات مماثلة لهذه اللجان، تعمل تحت رعايتها. أيضا، تعاني هذه اللجان من ضعف الإمكانيات، ومن القيود المحددة للنشاط الجماهيري، ومن ضغوط الشرعية الفصائلية، ومن تمركزها في مخيم اليرموك خصوصا ومخيمات العاصمة السورية دمشق عموما. وعلى صعيدها الداخلي تعاني هذه اللجان والهيئات، في أحوال كثيرة، من افتقادها للخبرات والكادرات المجربة، ومن العمل بطريقة مزاجية وعفوية وعاطفية، كما تعاني أساسا من انعدام بنائها على قواعد قانونية ومؤسسية وديمقراطية، وضعف التنسيق بينها، وعدم وجود مقرات مناسبة لممارسة أنشطتها.
 
وطبعا فإن مشكلة التمويل تبقى على غاية الأهمية لأن المجتمع الفلسطيني (كما المجتمعات العربية) لم ينضج إلى حد تمويل الأنشطة العامة، لاسيما بسبب ضعف الامكانيات، وبحكم ثقافة فصائلية سائدة تفترض الاعتماد على المساعدات الخارجية. ومع أن بعض اللجان حاولت توفير بعض إمكانياتها من التبرعات، وبعضها من بعض رجال الأعمال من الميسورين الفلسطينيين، كما تحصيل دعم من بعض الفصائل، إلا أن ثمة لجان تحاول ان تعتمد في تمويلها على علاقاتها مع منظمات دولية، أو من خلال الاشتراك في انشطة معها (ويدخل في هذا الإطار الانخراط في أنشطة بعض اللجان العاملة في المجال الفلسطيني العام مثل شمل، أو مركز العودة في لندن).
 
وتحاول هذه اللجان مد الجسور مع اللجان المماثلة الناشئة داخل الأرض المحتلة أو في بلدان اللجوء والشتات، كما تحاول إيجاد صلات لها مع المنظمات الدولية، بهدف تعزيز خبراتها، ونيل المساعدات اللازمة منها، وتوطيد مكانتها. وثمة بين هذه اللجان من بات له قنوات اتصال مع وسائل الإعلام، بأنواعها، وثمة من له حتى مواقع متخصصة على شبكة الانترنيت، تنشر فيها المواضيع المتعلقة بالقضايا التي تتبناها، وتقارير عن أنشطتها، وتتواصل عبرها مع جمهورها. وعموما فقد عبرت هذه اللجان عن حيويتها بكثير من الأنشطة وضمنها المظاهرات والاعتصامات، وجمع التبرعات للانتفاضة الثانية، والأنشطة الإعلامية، ومن خلال تنظيم المعارض الوثائقية، وإحياء المناسبات الوطنية، وغير ذلك من الأعمال بحسب اختصاص كل لجنة.
 
وربما يكون أبرز الأنشطة التي استطاعت هذه اللجان ومجموعات المستقلين التعبير من خلالها عن ذاتها تمثلت بالاعتصام، الذي تم تنظيمه من قبل عشرات المنضوين في هذه اللجان، والذي استمر لأسابيع عدة، وتخلله إضراب عن الطعام، في مقر الأمم المتحدة بدمشق (مطلع العام 2001)، في إطار فعاليات فضح الانتهاكات الإسرائيلية، ودعم الانتفاضة. كما تمثلت بتظاهرة حياكة أكبر علم فلسطيني (صيف 2007)، تحت شعار "علم أكبر لوطن أغلى"، وذلك بالتزامن مع الذكرى الـ60 لنكبة فلسطين. وقد تبنى هذه الفكرة مجموعة من الناشطين الشباب في اللجان، حيث بدأوا بجمع تبرعات بسيطة من الفلسطينيين، بمغزى حشد أوسع مشاركة في هذا النشاط الإعلامي والجماهيري. وكان الغرض من هذا النشاط تأكيد إصرار الفلسطينيين على هويتهم وعلى تمسكهم بحقوقهم الوطنية. وبالفعل فقد نجح هؤلاء النشطاء بحياكة علم كبير، طوله 232 مترا وعرضه 116 مترا، وبلغت مساحته الكلية 27 ألف متر مربع، في إشارة إلى مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27 ألف كيلو متر مربع، وتم عرضه فيما بعد في مساحة ارض واسعة وسط احتفال جماهيري وبحضور وسائل الإعلام.
 
وعلى الصعيد السياسي يمكن تمييز مبادرتين، أولاهما تمثلت بتبني بعض نشطاء اللجان لمشروع "كفيتاس" (2005)، وهو مشروع كانت طرحته الأكاديمية الفلسطينية كرمة النابلسي (وتبناه الاتحاد الأوروبي)، ويهدف إلى إيجاد هياكل مدنية لتمكين أو تعزيز مشاركة اللاجئين الفلسطينيين في السياسة الفلسطينية، ضمن إطار منظمة التحرير، باعتبارها ممثلهم الشرعي والوحيد، وباعتبار أن قضيتهم هي جوهر قضية فلسطين. وقد كشف هذا النقاش عن ضيق صدر الفصائل الفلسطينية (المعارضة والموالية) من أي صوت مستقل، ومن أي طرح جديد ولو كان يصب في خدمة قضية فلسطين ويسهم بتعزيز دور الفلسطينيين في العمل السياسي.
 
وقد تكرر ذلك في المبادرة الثانية المتمثلة بقيام مجموعة من المثقفين والنشطاء الفلسطينيين المستقلين بصوغ ما تم تسميته "مشروع رؤية سياسية فلسطينية جديدة"، تم نشرها ومناقشتها بكثافة في وسائل الإعلام. وقد تضمن هذا المشروع نقد واقع الساحة الفلسطينية، وحث على ضرورة تبني رؤية سياسية جديدة تتضمن إعادة بناء الساحة الفلسطينية، ببناها وعلاقاتها وأشكال عملها، على قواعد نضالية ومؤسسية وديمقراطية. كما تضمنت الرؤية ضرورة التحول إلى تبني مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة، باعتبار ذلك الحل الأمثل والأكثر عدالة والأكثر تجاوبا مع حاجات المستقبل، وباعتباره الأكثر تمثلا لحقوق الشعب الفلسطيني، في مختلف أماكن وجوده.
 
رابعا، قراءة مستقبلية
يمكن أن نخلص من مراجعة هذه التجربة بأن زمن العمل الفصائلي (بأشكاله السائدة)، الذي بدأ في أواسط الستينيات، أوشك على الأفول، بما له وما عليه، بدليل تراجع قدرة معظم الفصائل على القيام بدورها الوطني، وانحسار مكانتها التمثيلية، وتآكل بناها، والعزوف عن الانخراط في صفوفها. وفي حين يبدو أن هذه النتيجة تستثني وضع حركتي "فتح" و"حماس" وتصب في صالحهما في ظاهر الأمور، وعلى المستوى المنظور، إلا أنها ليست في الحقيقة كذلك، إلا بسبب قدرة هاتين الحركتين على الاستقطاب، بحكم النفوذ السياسي الذي مازالتا تتمتعان به، وباعتبار موقعهما المهيمن على المجتمع (في الضفة وغزة)، وقدرتهما الكبيرة على التوظيف و"التفريغ، وأيضا بحكم إمكانياتهما المادية الكبيرة وموقعهما في السلطة.
 
وفي أي حال فإن عهد السياسة الفلسطينية بعد قيام السلطة في الضفة وغزة (بعد عقد اتفاق أوسلو1993) ليس كما قبلها، فثمة مؤشرات في هذه المرحلة تفيد بأفول العهد الفصائلي، ضمنها تهمّش منظمة التحرير، التي انبنت على أسس فصائلية، ووفق نظام المحاصصة ("الكوتا")، وبحكم إخراج اللاجئين في الشتات من المعادلات السياسية (بعد قيام السلطة)، وتحول حركتي "فتح" و"حماس" (اللتين تهيمنان اليوم على قيادة الساحة الفلسطينية) عن طابعهما كحركتي تحرر وطني، إلى نوع من سلطة تحت الاحتلال (في الضفة وغزة). وإذا تمعنا بالتحولات الحاصلة في في هاتين الحركتين يمكننا ببساطة ملاحظة أننا لا نتعامل مع مجرد فصيلين، بقدر ما نتعامل مع سلطتين بكل مافي هذه الكلمة من معنى. كما يمكن أن نضيف إلى ذلك اعتماد التمثيل النسبي في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ومحاولات تعميم ذلك في الخارج)، ما يضع حدا لنظام "الكوتا"، الذي يضمن بقاء أي فصيل، والحفاظ على مكانته وامتيازاته، بغض النظر عن فاعليته، ومستوى تمثيله، أو بغض النظر عن وجوده من عدمه.
 
أما بالنسبة إلى لتجربة السياسية الفلسطينية في الساحة السورية، فهي على أهميها وحيويتها وغناها، ليست تجربة حاسمة في تقرير اتجاهات السياسة الفلسطينية، بل يمكن القول إن هذه التجربة تكتسب أهميتها من ارتباطها مع التجربة السياسية العامة للشعب الفلسطيني. وكما قدمنا فإن هذه التجربة ستظل، على الأرجح، خاضعة لسقف معين يحدد تطورها، بحكم تباعد مخيمات اللاجئين عن بعضها، وتوزعها على المدن السورية، وتبعا لمحددات العمل السياسي في المجتمع السوري، التي تنطبق على النشاط السياسي عند الفلسطينيين، وأيضا بسبب خضوع هذا النشاط لتحيزات وحسابات معينة، بحسب السياسة المتبعة في هذا البلد.
 
ومعنى ذلك أن مآل الفصائل الفلسطينية والعمل السياسي عموما، في هذه الساحة، لا يتقرر فيما يجري في المجتمع الفلسطيني، على أهميته، وإنما سيتقرر، إلى حد كبير، بناء على ما يجري في الأراضي المحتلة (في الضفة وقطاع غزة ومناطق 48)، باعتبار إنها تضم الكتلة الأكبر من الشعب الفلسطيني، وبالنظر إلى أن هذه الكتلة المجتمعية هي التي تخوض الكفاح ضد المشروع الصهيوني بشكل مباشر، ولكونها متحررة من المحددات أو التوظيفات السياسية الإقليمية، وبحكم تحول ثقل العمل الفلسطيني وموارده إلى الداخل.
 
ومع ذلك ينبغي ملاحظة أنه ثمة ظاهرة جديدة، متنامية، في المشهد السياسي الفلسطيني (وضمنه في سورية)، كما على الصعيد العالمي، وهي تتمثل بظهور نوع من الحركات الجماهيرية الجديدة، التي تحاول فرض طريقها في المستقبل، بالاستناد لتطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
 
واللافت أن عمل هذه المجموعات لايتطلب تراتبية قيادية، ولا هيكلية معينة، كما لايتطب أكلافا مادية كبيرة، كما لا يتطلب أعدادا كثيرة، ولا عناء الانتقال من مكان إلى آخر، في اختصار للمكان والزمان أيضا. وكل ماهو مطلوب لهكذا أنشطة نوع من أشخاص مبادرين، يؤمنون بالعمل العام، لا بالمصالح الشخصية، ويمتلكون الخبرة السياسية، وبضعة كمبيوترات، والاتصال بالشبكة العنكبوتية؛ وهذا العمل ما يجيده الجيل الجديد من الشباب، وهو الجيل الذي باتت السياسة أحوج ما تكون إليه، في فلسطين وغيرها.
 
•  هذه المادة كتبت أواخر العام 2010، أي قبيل اندلاع الثورات الشعبية العربية.
*الآن بعد أن بات العدد (87) من مجلة الدراسات الفلسطينية في الأسواق، أصبح بإمكاني نشر مادتي تعميما للفائدة، ومن أجل طرحها للنقاش العام... وهي بمثابة مادة أولية، يمكن توسيعها وتطويرها والبناء عليها، فليس ثمة مادة كاملة، ولا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة والمطلقة.. وقد كتبت هذه المادة من واقع تجربتي في العمل السياسي الفلسطيني، بحكم انخراطي في حركة "فتح" (1970ـ1988)، واحتكاكي بنشطاء الفصائل الفلسطينية، وبمداخلات العمل الفلسطيني في سورية منذ تلك الفترة حتى الآن...... املا استدراج المعنيين إلى نقاش هذه التجربة... مع تأكيدي على أهمية وضرورة مراجعة تجربتنا الوطنية، بطريقة نقدية وموضوعية، وبروح وطنية مسؤولة، من الأردن إلى لبنان إلى الأراضي المحتلة، ومن خياري المقاومة والتسوية، إلى خياري الانتفاضة والمفاوضة، ومن تجربة الفصائل إلى تجربتي المنظمة والسلطة...آمل ان تجد هذه الدعوة قبولا مناسبا من الاصدقاء والمعنيين، لاسيما ممن واكبوا هذه التجربة في سورية.
 
ملاحظة: ـ نشرت في العدد (87) من مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 2011

التعليقات