أمس واليوم: ياسر عرفات- حضور الغياب/ أنطـوان شلحـت

لقد تمنى الإسرائيليون غياب عرفات و"تنفسوا الصعداء" مع وفاته، حسبما أكد أكثر من سياسي ومعلق

أمس واليوم: ياسر عرفات- حضور الغياب/ أنطـوان شلحـت
تعريف:
 
هذا المقال هو عبارة عن تقديم تصدّر العدد 25 من سلسلة "أوراق إسرائيلية" الصادرة تباعًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار (رام الله)، والذي نُشر في أواخر 2004، وضمّ بين ثناياه 33 مقالاً من مجموعة المقالات التي ظهرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية في حينه وتناولت موضوع وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وما سيترتب على هذه الوفاة. وحملت تلك "الورقة" عنوان "حضور الغياب: رحيل ياسر عرفات بأقلام إسرائيلية". وقد أُدخلت على المقال بعض التعديلات الطفيفة المرتبطة بتغيّر وظائف كتّاب المقالات. وأشير في المقال الأصلي إلى أن حضور غياب عرفات سيظل طاغيًا على المشهد الفلسطيني برمته، وهو ما يتأكد الآن، كما تأكد في الأمس.
 
 
(*) اجتهد الإسرائيليون، من ساسة ومعلقين، ومن كتاب ومحللين، على اختلاف أنواعهم ومشاربهم، كثيرًا جدًا في سبيل أن تظهر الحملة الضارية على الرئيس ياسر عرفات، وهو على فراش مرضه، ومباشرة بعد رحيله، في لبوس محدّد يوحي بأن في الأمر "تصفية لحسابات شخصية" قديمة- متجددة، في الإمكان أن تُعزى إلى عملية "فصد الدم" فحسب. وعلى رغم ذلك لم يكن في مقدرة هذا الاجتهاد، على ما فيه من نزعة شخصنة مفرطة في حدّتها، أن يضبّب الأهداف الحقيقية الكامنة وراء هذه الحملة المتصلة، والتي ليس أبسطها أن العداء لعرفات الشخص هو تعبير صارخ عن عداء راسخ لكل ما كان يمثله من طموحات الفلسطينيين، وأن الجانب الشخصي، الذي لا يمكن إسقاطه من الحسبان في حالات كثيرة، هو مجرّد تفصيل مهم في منظومة متكاملة تعتبر أكثر أهمية ودلالة.
 
ولعلّ المقالات الـ 33، التي جمعناها في هذه "الورقة الإسرائيلية"، بعد اختيارها من سيل مقالات أخرى يصعب حصرها، تدلل على ذلك في أبعد من مستوى وصعيد.
 
بطبيعة الحال ليس في حيازتنا ما يكفي من أدوات التحليل العلمي، التي تسعف في استشفاف بواعث "النفوس الفاعلة" أو حتى الأبعاد النفسانية، العصابية، للجوانب المرتبطة بالتعبير عن المشاعر الشخصية البحتة المبثوثة في معظم هذه المقالات. وأقصد تلك التي تمحورت، في شبه إجماع، من دون وازع مهني، سياسي، أو حتى أخلاقي، حول نزعات لا تمت إلى السمات البشرية  بصلة، كالشماتة والتشفي و"هيصة موته قبل أن يموت" (وبعد مماته)، بتعبير المعلق الصحافي جدعون ليفي. لكننا نملك أن نقرأ ونستقرئ "الرسائل السياسية" التي أريد تمريرها بقوة فوق السطور وبينها أيضًا.
 
وأيًا تكن هذه "الرسائل" فإن في مكنتنا أن نستقطر منها انطباعين متصلين:
 
* الأول: أن أكثر ما أزعج الإسرائيليين، بل وأقضّ مضاجعهم، في شخص الراحل الكبير هو رفضه المتواصل وإصراره المثابر على عدم مماشاة الإملاءات الإسرائيلية لعملية التسوية مع الفلسطينيين، خصوصًا بعد أن انطلقت في طريق المفاوضات السياسية، التي لم تكن مشقوقة من قبل أوسلو.
 
* الثاني: اختزال جميع السيناريوهات الفلسطينية المتوقعة بعد رحيل عرفات في سيناريو واحد ووحيد (يشكل السيناريو المشتهى إشتهاءً كاملاً من طرف إسرائيل) هو- إهالة التراب على حضور غيابه، وذلك من خلال محو إرثه السالف، الذي جاهر الأغلب في خلع توصيف "التركة" عليه، لناحية الإحالة، في اللاوعي إن لم يكن في الوعي التام، إلى شدة وطأته، وإلى ضرورة التخلص منه مرة واحدة وإلى الأبد. وهو ما يعني أو يتعين أن يعني، على صلة بما تقدّم، مماشاة الإملاءات الاسرائيلية للتسوية من الآن فصاعدًا، من جانب القيادة الفلسطينية التي ستتولى إدارة الدفّة بعد رحيل عرفات.
 
ومن دون مبالغة ينسحب هذان الانطباعان على الغالبية الساحقة من ردات فعل الساسة والمعلقين الإسرائيليين، من اليمين والوسط وحتى اليسار الصهيوني.
 
تأسيسًا على ذلك فإنه إذا ما نحينا جانبًا التعبيرات المباشرة عن المشاعر الخاصة، التي يظل لها سياقها، فمن شأن القراءة السياسية لردات الفعل هذه أن تعيد "اكتشاف" ياسر عرفات ونمط قيادته. كما أن من شأنها أن تجوهر مواقفه التي ثابر عليها حتى الرمق الأخير.
 
وبالعطف على كل ذلك ثمة حاجة إلى إيراد بعض التوكيدات:
 
(*) أولاً- إن عملية شيطنة الآخر، الفلسطيني أو العربي، والذي تحدّد منذ فترة في شخص الرئيس عرفات، ليست اختراعًا جديدًا كل الجدة في ممارسة التحريض والافتئات الإسرائيلية، بل هي ابتكار ضارب في القدم- إذا جاز التعبير- في ممارسة الحركة الصهيونية منذ بداياتها. هذه الممارسة صوّرت الإنسان العربي، لمجرّد كونه نبتة أصيلة في الوطن الذي طمعت في اغتصابه وفي تجريد أصحابه منه، في أبشع هيئة. ولذا فما من شيء أكثر "سهولة" و"خفة" في إسرائيل من العودة إلى هذا التصوير الشائه للفلسطيني كلما لزم الأمر. لا يغيّر في هذا إن كان عرفات "له يد مباركة" في السلام أم "له يد متضادة" في نقضه لأن الطرف الذي يحدّد "البركة"، و"السلام" أيضًا، وبالتالي يحدّد ما يتضاد معهما، هو إسرائيل. ولا ننسى أنه منذ أن اندلعت الانتفاضة الثانية اجتاحتنا دعاية إسرائيلية للحرب، تقطيع المفاهيم بشأنها نادرًا ما يختلف باختلاف أصحابها. مثل هذه الدعاية يكون جمهورها المستهدف (الإسرائيلي) كله آذان صاغية لسبب بسيط هو أن هذا الجمهور يتقن جيدًا تنميط شخصية الفلسطيني من أجل تدعيم "تصوره الذاتي".
 
"إن الحاجة إلى الإعلان عن وجود عدو (مناوب) نبعت أولاً وقبل كل شيء من عدة احتياجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة في إسرائيل"، وفقًا لما يؤكد الأستاذ الجامعي الإسرائيلي إيلي بوديه. ويضيف: إن هذا الأمر يتيح أولاً تعزيز تضامن الشعب الإسرائيلي في مواجهة ما ينظر إليه كعدو متربّص وخطر محدق. ويتيح ثانيًا "فهمًا" أفضل للحاضر الذي يتراءى كجزء من سياق تاريخي طويل، وربما حتميّ، من الصراعات والحروب المفروضة على الشعب اليهودي. وهو ثالثًا وأخيرًا يتيح إمكان التهرب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع. وفي ظل هذا الوضع يغدو من السهل العودة إلى نغمة "لا يوجد شريك للحوار" (في الجانب الآخر...) والتي تحولت إلى مبدأ مهم في سياسة إسرائيل الخارجية منذ إقامة الدولة.
 
(*) ثانيًا- لم تنحصر الحملة على ياسر عرفات في أوساط اليمين أو الوسط الإسرائيلي، بل تعدتها إلى أوساط اليسار الصهيوني، حسبما تعكس هذا بعض المقالات المنشورة هنا.
 
وفي خضم ذلك ظلّ القاسم المشترك المتواري لجميع هؤلاء منطلقًا، في قراءتنا، من استحصال كون "السلام"، بحسب مقاسه الإسرائيلي الراسخ، هو سلام فارغ من أي مضمون جوهري، من ناحية الفلسطينيين. ومثل هذا المضمون يتأتى فقط حين ينأى الواقع بنفسه أو حين ينأى به قائد مثل ياسر عرفات عن غاياته الإسرائيلية التقليدية، نحو سلام حقيقي قائم على قدر من العدل. وبمقدار ما إن "السلام" المذكور يلائم اليمين الإسرائيلي، موقفًا ورؤيا، فإنه غير منتف بتاتًا في رؤية اليسار الصهيوني- ذلك "اليسار" الذي سبق لباحث إسرائيلي ما أن أخذ عليه ما أسماه "مفهومه المسياني العلماني للسلام". وبرسم هذا المفهوم  تغاضى اليسار الصهيوني عن حقيقة أن غالبية مركبات السلام منذ أوسلو بقيت في الأدراج من دون تطبيق عملي، وأن الاحتلال استمر كما لو أنه لم يحدث شيء يذكر، وأن أي مستوطنة كولونيالية إسرائيلية لم تُحرك قيد أنملة من مكانها، وأن العنف الفلسطيني، نتيجة لذلك، لم يتوقف. وهكذا كان الواقع الإسرائيلي نفسه عقبة في الطريق إلى "الشرق الأوسط الجديد" والى الثمار الكبيرة التي وعد بها. وهذا الواقع كان، في الوقت ذاته، العقبة أمام الوصول إلى الشوط الأخير.
 
ويعتقد الباحث نفسه أن المسؤولية عن المناخ المسياني الذي يقول به، والذي تطور بعد (اتفاق) أوسلو، يتحملها مباشرة شمعون بيريس، رئيس الدولة الحالي والرئيس السابق لحزب "العمل" والحكومة الإسرائيلية (نشر بيريس بعد رحيل عرفات مقالاً غسل فيه يديه من المسؤولية عن إخفاق عملية التسوية حين وصف الراحل بأنه فتح أبواب التاريخ لكنه لم يمض إلى "الشوط الأخير"، وهو "التسليم بالواقع كما هو")، ويوسي بيلين (هو أيضًا نشر مقالا اعتبر فيه، بين السطور، الرئيس عرفات مسؤولا بكيفية ما عن نجاح أريئيل شارون في تكريس مقولة "اللاشريك"، إسرائيليًا ودوليًا).
 
ويؤكد هذا الباحث أن بيريس هو ذلك الذي بلور، بصورة عامدة، وعيًا استحواذيًا إلى ناحية أن "السلام أصبح قائمًا". وقد ذهب بيلين في عقبيه. ويضيف أن المسيانية، التي تتطلب مسيحًا كاريزميًا، هي جزء من التفكير الديني. أما المسيانية العلمانية فإنها لا تستوجب مسيحًا شخصانيًا، اذ إن المسيح في هذه الحالة هو السلام. وأعاد إلى الأذهان، في هذا الخصوص، إحدى المقابلات مع شمعون بيريس، والتي تحدث في سياقها عن الحاجة والضرورة إلى الدفاع عن جسد السلام، "كما لو أن السلام هو شخصية بشرية تتجول في الشوارع"، قال مستهجنًا.
 
(*) ثالثًا- في شأن السيناريو المشتهى إسرائيليًا بعد رحيل ياسر عرفات بلغ الأمر، لدى أحد الساسة الإسرائيليين الأكاديميين، البروفسور شلومو أفينيري، ولدى غيره كذلك، حدّ تشبيه عرفات بـ.. هتلر، و"التمني" على الفلسطينيين أن "يتحرروا من إرثه حسبما أفلح الشعب الألماني في التحرر من إرث هتلر"! ("يديعوت أحرونوت"، 14/11/2004).
 
ويشيد أفينيري، في سياق آخر، بالمقارنة التي عقدها يوسي بيلين، ضمن مقابلة أجرتها معه صحيفة "لوموند" الفرنسية، ما بين عرفات والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لجهة أن كليهما وعد شعبه بالخلاص لكنه "منحه نظامًا رمزه كامن في البزة العسكرية، التي لم يقدر أي منهما على خلعها حتى ولو للحظة واحدة".
 
وهكذا، حتى بزة عرفات العسكرية لم تسلم من ردات الفعل الإسرائيلية الحاقدة على هذا القائد الوطني والرمز التاريخي الكبير، كما أشارت إلى ذلك ردّة فعل استثنائية صادرة عن المعلق السياسي دورون روزنبلوم في "هآرتس" (12/11/2004).
 
وفيما يبدي المعلق المذكور استفظاعه لهذا الأمر، فهو يلفت الأنظار إلى أنمن يسكن في بيت من زجاجمنالأجدر به ألا يرمي الآخرين بحجارته، ذلك بأن أولئك (من الإسرائيليين) الذين أشاروا في معظمهم باستعلاء إلى "النزعة العسكرية" الكامنة في شخص عرفات وفي أدائه القيادي، لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهميرتدونالبزة العسكرية، وأنه إذا لم تكن تلك بزة مادية يمكن لمسها فإنها بزة ذهنية، بدءًا من "أمان"- شعبة الاستخباراتالعسكرية-وسائر عناصر الاستخبارات مرورًا بالمعارضة الرئيسية وحتى رئيس الحكومة نفسه. ويضيف: ربما كانت البزات العسكريةللقيادةالإسرائيلية أكثر هندامًا، أو أنه تم استبدالها بأخرى مدنية، لكن هذه القيادة لمتتجاوز القوة العسكرية في نضجها، ولم تكف للحظة عن التفكير بمصطلحات أمنية (عسكرية) إزاءالقضيةالفلسطينية و"إزاء مسألة وجودنا عامة".
 
كما يؤكد أنه عما قريب ربما سيتبين أيضًا أنه تحت عباءة عرفات العسكرية ثمـة صف من الشخصيات الفلسطينية التي تتحدث بطلاقة وتملك مواهبدبلوماسيةمؤثرة ومن الممكن أن تجنّد تأييد العالم بسهولة، بل وأن تطرح أجندة أخرى، لكن في مقابل ذلك فإن إسرائيل باقية، حتى إشعار آخر، مع الضابط إيهود باراك كبديل من الضابط أريئيل شارون، ومعالضابطمتان فيلنائي كبديل من الضابط باراك، ومع الضابط عمرام متسناع كخليفة ضائعلباراك،ومع الضابط عامي أيالون كـ "مضاد مدني" لكل هؤلاء!.
 
(*) أخيرًا- لقد تمنى الإسرائيليون غياب عرفات و"تنفسوا الصعداء" مع وفاته، حسبما أكد أكثر من سياسي ومعلق. بيد أن حضور هذا الغياب في المشهد الإسرائيلي كان من القوة والمهابة بما جعل الكثيرين يأخذون جانب التحذير المتكرر تجاه الحكومة اليمينية أو خلافها من مغبة الوقوع في وهم قبول القيادة الفلسطينية الجديدة شروط أريئيل شارون لاستئناف المسيرة السلمية، مؤكدين أن الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي أساسًا، وأنه من غير الجائز مطالبة الفلسطينيين بـ "وقف العنف والإرهاب" من دون أن تقلع الحكومة الإسرائيلية عن تعنتها، تمامًا كما كانت الحال عليه أيام عرفات كذلك.
 
ومن دون الدخول في عناصر هذا التحذير، فإن المعلق العسكري في "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، يرى أن من السابق لأوانه الحديث على عهد (فلسطيني) جديد، وأن بلوغ عهد كهذا يتطلب من إسرائيل أن تتعاون مع الفلسطينيين والأميركيين والأوروبيين، وأن تبدي صبراً، وألا تفوّت هدنة، وألا تقع في فخ الوهم الذاتي بأن فجرًا جديدًا قد بزغ.
 
ويشدّد هذا المعلق على أن التوقعات الإسرائيلية بشأن إمكان حدوث تغير جوهري بعد موت عرفات ليست سوى ضرب من السذاجة الحمقاء لأن القيادة الفلسطينية الجديدة لن تغيّر حتى حرفًا واحدًا من إرث عرفات، بل ستتمسك بكل الأهداف الوطنية التي حدّدها، وربما ستفعل ذلك بقوة أكبر، وبإصرار أشد حزمًا.

التعليقات