41 عاما على استشهاده؛ الأسود "جيفارا غزة": أسطورة قائد ورفاق يتحدثون...

جنود الاحتلال، وعندما تأكدوا من تشخيص الجثث الثلاث وكان بينها جثة محمد الأسود، نصبوا حلقات الدبكة فوق الجثث فرحا، وقام وزير العسكر في حينه، موشي ديان، بتوزيع الحلوى بنفسه على جنوده احتفاء بقتل واختفاء الأسطورة

41 عاما على استشهاده؛ الأسود

هكذا قالوا عنه... كان الحكاية وصلب البداية... وبدايته ونهايته حكاية الأسطورة والأيقونة... وكان اسما على مسمى، وعلى لسان الصغار قبل كبار الوطن، والعدو قبل الصديق.

دوى اسمه على عرض وطول مساحة القطاع والوطن المنكوب، واتسع لأمل المعذبين، وصدح صدى اسمه في ضمير ووجدان الفقراء والمقهورين، وكان لهفة المحرومين في عمق الصحراء المحروقة، كما كان حلما في ليل قاتم يخيم بحلمه وكفاحه على الأرض وعلى فلسطينها، كما على مخيمات اللجوء وعلى جمر غزة "الرمال والشاطئ".

كان الإنسان الثائر القادم من فقر المخيم واللجوء، وذلك بعد أن اقتلع طفلا مع عائلته من حيفا عام 1948 وهو قادم من وجع القهر والفقر وعار الهزيمة في العام 1967 إلى وعاء المخيم، لينتقل بإرادة القائد إلى واقع البندقية مقاوما وقائدا أراده القهر والفقر أن يكون كذلك، ولا شيء سواه حتى الشهادة.

بداية ونهاية أسطورة..

كانت نهايته وبدايته في ليل الثامن من شهر آذار في العام 1973 وفي ليل الكبرياء، رغم الحزن والليل القاتم ومر الغدر والغياب، وبعد سنوات من التعقب والملاحقة والمقاومة اقتحمت قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي معززة بالمصفحات وطواقم المخابرات الإسرائيلية والمروحيات العسكرية بيت المناضل الدكتور رشاد مسمار، في حي الرمال "خلة العباس"، وذلك بعد أن تعقبته أجهزة المخابرات وعملاؤها على مدار سنوات.

هو القائد العسكري لقطاع غزة محمد الأسود المعروف بـ"جيفارا غزة"، والذي قارع الاحتلال ببطولة واستبسال نادر، حيث داهم العسكر الإسرائيلي بعد أن أعيتهم مقارعة ومقاومة أسطورة لسنوات، وطالت الملاحقة والمقارعة منزل الدكتور المسمار الذي كان قد تحرر في اليوم نفسه من الاعتقال "من سجن السرايا" الشهير. وبعد التفتيش الهستيري لبيت الدكتور مسمار، كما وصفوه رفاقه، وبعد أن حفروا في كل زاوية وكل جهة وحائط بالبيت وبيوت الحي المقاوم، تمكنوا قبل أن ينصرفوا بلحظات، وبعد محاولات يائسة استمرت حتى ساعات انبلاج الفجر الأولى، من الوصول إلى الحصن الذي كان يتحصن به جيفارا ورفاقه، وعندها بدأ الجنود الإسرائيليون، بعد اكتشاف "الوكر" المحصن، بإلقاء القنابل والاشتباك معهم بالأسلحة الرشاشة وبكل قوة، وتمكنوا من قتل ثلاثة من الفدائيين المتحصنين.

وبحسب الشهود فإن جنود الاحتلال، وعندما تأكدوا من تشخيص الجثث الثلاث وكان بينها جثة محمد الأسود، نصبوا حلقات الدبكة فوق الجثث فرحا.

هكذا يستذكرون العشرات من رفاقه ورفيقاته الذين يفخرون بعلاقتهم الكفاحية والإنسانية معه، ويؤكدون بالإجماع على خصاله كظاهرة متفردة نادرة من ضمن الأسماء التي لا تتكرر لبطل أقرب إلى الواقع من سير أبطال الأساطير.

أمثولة إنسان ونضال ورفاق عايشوه..

نهلة البايض، مربية متقاعدة وأسيرة محررة من غزة، تحدثت لعــ48ـرب بكبرياء واعتداء بالنفس، وهي تستذكر التفاصيل. واستعرضت كل ملامح المرحلة وتفاصيل الكفاحات اليومية وحكاية الاعتقال والأسر والمقاومة، وكانت تتوقف بحسرة كلما تم ذكر محمد الأسود.

تحدثت البايض عن كفاحها وعلاقتها الكفاحية مع الأسود في أواخر الستينيات، وقالت: انتسبت لصفوف المقاومة المسلحة أنا والكثيرات، ولم نتعد في حينه جيل 15 و16عامًا، إلى جانب أعداد هائلة من الفتية والشباب والصبايا، وهذا كان بسبب ما تحلى به القائد محمد الأسود "جيفارا" من خصال الشجاعة والمروءة وكرم النفس والأخلاق العالية والتأثير حتى بات أقرب إلى "الأسطورة".

وروت البايض أن الأسود كان له ما اسميناه  "وكرا"، وهو تحصين لا يظهر له مدخل أو منفذ باب أو نافذة، كما في الكثير من البيوت الأخرى التي كانت تحتضنه. وكان هو القائد السياسي والعسكري المتواضع والمحب والخجول لكنها الشجاعة والجسارة النادرة، "أحببناه كما كل الغزيين".

وأضافت البايض: "التحقت بصفوف الفدائيين وأنا في سن الـ15 عاما، وصدر علي الحكم بالسجن الفعلي مدة 15 عاما، إلا أنه وبسبب الدور الذي لعبه جيفارا والأجواء الكفاحية التي فرضها الأسود بحنكة وحكمة ومحبة، أشعل القطاع احتجاجا على اعتقالي لا سيما وأنا أول فتاة تعتقل. وتحت تأثير الضغط الشعبي العارم خفضت محكوميتي من 15 عاما إلى ثلاثة شهور فقط".

وتابعت البايض: "الصمود داخل المعتقل تحت الضغط الكبير كنا نستمده من حضور الأمثولة القائد محمد الأسود، وهكذا كل المناضلين الذين تأثروا به إلى حد كبير. الأسود ظاهرة ربما لن تتكرر بزمننا. وفي يوم استشهاده أصر على أن يذهب مع رفيقيه كامل العمصي وعبد الهادي الحايك ليلا لتهنئة رفيقه المحرر من السجن مع كل ما يتمتع به من حس أمني وذكاء، إلا أنه بقدر ما كان يحب رفاقه تخفى وأصر على الاطمئنان على الدكتوررشاد مسمار بتاريخ 09/03/1973، وهناك كانت المصيدة التي حذرته منها حيث تمت تصفيته في المنزل. سيبقى الأسود علامة فارقة، وسيبقى نموذجا للتفاني والاستقامة والشجاعة وإنكار الذات، ونحن نتحسر على رجال بل أبطال استثنائيين بهذا المقام".

النكسة والعودة إلى غزة

المحامي وعضو الكتب السياسي السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يونس الجرو، وهو أحد المناضلين وأحد رفاق جيفارا غزة، قال إن محمد الأسود كان ناشطا في حركة القوميين العرب، وبعد أن درس قرابة السنتين في جامعة القاهرة، عاد، بعد هزيمة 1967، متحمسا ومتأثرا بالناصرية بأفكار ثورية لأبعد الحدود.

وأشار الجرو إلى أن الأسود منحدر من أسرة عاشت تحت طائلة الفقر، وتمتع بشخصية كاريزماتية ورصينة، وتميز بالاتزان والانضباط والذكاء والاحترام. وكان بداية ناشطا في مخيم الشاطئ وفي محاولة لإعادة ترتيب الحركة الوطنية. وبعد العام 67 تم تشكيل جهاز عسكري وسياسي في قطاع غزة ضم الطلائع وحركة القوميين والقيادات الوطنية، منهم منير الريس وفاروق الحسيني. وكان الأسود مسؤول مجموعات عسكرية. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1967 تلقت الحركة ضربة، واعتقل الشباب، ومن ضمنهم كان الأسود، لكن لم تحصل اعترافات من أي منهم، وفرضت الاعتقالات الادارية على العشرات، بينهم الأسود الذي استمر رهن الاعتقال لغاية شهر تموز (يوليو). في حين اعتقل الجرو في تشرين الأول (أوكتوبر) عام 1968، وصدر عليه حكم بالسجن مدة سنة ونصف تسنى له خلالها معايشة الأسود داخل السجن.

ويتابع الجرو أنه بعد خروجه بدأت الجبهة الشعبية بترتيب أمورها التنظيمية. وقال: "تمت الاتصالات بيننا، وخضنا كفاحات نوعية أقلقت مضاجع الاحتلال لسنوات حتى وضعته هدفا رئيسيا لها كمدخل للقضاء على الحركة الفدائية، في حين اعتبر العسكريون الإسرائيليون أنهم يحكمون القطاع نهارا، فيما يحكمه الفدائيون ليلا".

وأضاف الجرو: كان الالتفاف حوله جارفا الأمر الذي عزز من روح المقاومة واحتضانها شعبيا، وكان لدوره الرائد وشخصه تأثير حاسم على الالتفاف الجارف، وهو المثل الأعلى لكل الغزيين. كما يشير إلى أن الأسود كان متواضعا لأقصى الحدود، وأنه عاش في بيئة فقيرة بائسة جدا، وسكن مع عائلته في بيت من الصفيح. ويضيف: "كان لامعا ذكيا، وهو نموذج بكل المقاييس، لكنه لم يكن مندفعا، بل كان رزينا وعقلانيا ومارس دوره بقناعة وشجاعة القائد الحكيم إلى حين استشهاده. ورغم استمرار أبناء المدرسة نفسها التي خرجت المئات المتأثرين بهذا الإنسان والقائد، إلا أنه ترك فراغا كبيرا في حينه. ويبقى أيقونة وصفحة مشرفة في تاريخ شعبنا وللإرادة الكفاحية والإنسانية. إنه مدرسة استثنائية".

د. مريم أبو دقة: 60 ألف دولار لمن يدلي بمعلومة عن "جيفارا غزة"...

د.مريم أبو دقة من رفيقات "محمد الأسود"، وهي عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية والمحاضرة لعلم الاجتماع والفلسفة في غزة، استعرضت نشأتها وتفوقها بالمدرسة وتأثرها بالناصرية، علما أنها لم تتجاوز في حينه جيل 15عاما.

وقالت: "بعد عام 1967 وعندما بدأت الحركة الشعبية بالنضال أردت أن التحق بالعمل الفدائي إلا أنه كان هناك تعميم من القيادة يعلنون فيه افتتاح معسكرات لتدريب الشباب. ورغم صغر سني إلى أنني بعثت رسالة أسأل فيها الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير، لماذا تقتصر المعسكرات على الشباب فقط، وطالبت بفتح معسكرات تدريب للبنات. كما بعثت إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر برسالة مماثلة، لا سيما وأن غزة كانت ناصرية وساحة نشاط لحركة القوميين العرب، فرد علي بالاحترام والتحية وبالإيجاب".

وتحدثت د. أبو دقة عن مشاهد الترويع في اليوم السابع من حرب حزيران (يونيو) الذي سقطت به غزة أثناء هروبهن من المدرسة على دوي القصف والسير بين الجثث. وقالت: "بعد عودتنا اقترح علي قريب للعائلة أن أصبح فدائية من أجل الفقراء، وألتحق في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".

وأضافت أبو دقة: "كان يعلم الجميع أن الاحتلال أعلن عن مكافأة بمبلغ 60 ألف دولار لمن يدلي بمعلومات أو يقود لاعتقال جيفارا حيا أو ميتا. كنا متأثرين به إلى أبعد الحدود. وكان بارعا في التمويه والتخفي، وكان يتستر ويختبئ أحيانا في قاع الشاحنة بين العجلات وتعبر به الشاحنة الحواجز العسكرية".

وتابعت: كان ينوع الوسائل وطرق التمويه والتخفي وتوجيه الضربات الموجعة للعدو، وكان أسطورة بالشجاعة والالتزام والانضباط، وترافق ذلك مع عمليات أخرى في الداخل. كنت التقي معه بالحاكورة حيث حملنا السلاح معا وأنا صبية صغيرة، وعلمت أمي بالأمر الذي كان يخيفني من قبل، لكنها قررت مساعدتي. وكانت تساعدني ونحن نقاتل ونردع العملاء ونوجه لهم التحذيرات مدعومين بقائد أحبه واحترمه الجميع بإجماع منقطع النظير، وبالتالي أقول إن الميزة الأساسية التي انفرد بها محمد الاسود أنه كان إنسانا طبيعيا، لكنه فلسطيني غير طبيعي في شعلته الثورية المتأججة ومحبته لشعبه، يتمتع بذكاء وتفان وشجاعة نادرة، وخلق أرضا خصبة للجميع. وهكذا كنا مع الفدائيين نحكم غزة بالليل رغم صلف وأنف الاحتلال. وكلمة أخيرة: كل ما قيل عن هذا البطل صحيح، وأنا أقول إنها بطولة ليس لها إلا أن تليق به".

 وانتهى من وضع المخططات مستقبلاً حيث لا يتوقع العدو ولا عملاؤه ذلك".

الأسود في سطور..

ولد الشهيد محمد محمود مصلح الأسود (جيفارا غزة) في 06/01/1946 في مدينة حيفا، وخرج مع أسرته بعد النكبة 1948 نازحا إلى قطاع غزة، وسكن في إحدي مخيمات وكالة الغوث، وحاول إكمال دراسته الجامعية في مصر، ولكن عائلته لم تستطع مساعدته، فترك الدراسة، وعاد للقطاع بعد سنة واحدة حيث عمل هناك موظفاً بسيطا.

انضم الأسود إلى حركة القوميين العرب فى عام 1963، وأخذ ينشط فى كل المجالات فكريا وتنظيميا وأصبح من عناصر التنظيم النشطة فى القطاع.

بعد هزيمة حزيران 1967 أصبح قائداً لإحدى المجموعات المقاتلة فى منظمة (طلائع المقاومة الشعبية)، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونفذ مع مجموعته عدة عمليات جريئة خلال بدايات العمل المسلح. قام بعدة عمليات ناجحة.

اعتقل في 15/01/1968، ومكث فىي السجن لمدة سنتين ونصف، وأطلق سراحه في تموز 1970.

واصل نضاله بعد خروجه من السجن مباشرة في صفوف الجبهة الشعبية، وقام بنشاط مكثف في إعداد المجموعات العسكرية وتدريبها وتثقيفها، حتى استشهاده في الثامن من آذار 1973.

 

التعليقات