العمال الفلسطينيون بين شقي الخط الأخضر ومشقة السعي لكسب الرزق

كان القلق يراودهم كلما حملت الكاميرا لالتقاط الصور، خوفا من الكشف عن وجوههم لتجنب ملاحقة الشرطة لهم، طلبوا أن يكون التصوير ليلا كي لا تكشف الشرطة ولا أهالي البلد المكان الذي يقطنون به

العمال الفلسطينيون بين شقي الخط الأخضر ومشقة السعي لكسب الرزق

تمخضت السماء فولدت بردا قارسا انهال علينا، فأشعلنا المواقد والتزمنا البيوت دون اكتراث لما يحصل مع عشرات يفترشون الأرض الرطبة كالجليد، ويلبسون الأثير البارد كالصقيع، يلتحفون سماء ارحم من إنسانية هذا الوجود، تغفل العين عن أخوة لنا في الجرح والألم النازف الجارف معه الهناء والابتسامات، لربما غطت بصيرتنا أمور الحياة وحجبت عنا رؤيا المشردين من فلسطينيي الضفة الغربية، الباحثين عن لقمة العيش، الهاربين من الفقر القاهر قادمين لقرانا ومدننا ليوفروا العيش الكريم لعائلاتهم، فأصبحوا لاجئين مرتين، الأولى بسبب الاحتلال الإسرائيلي، والثانية بسبب جفاء وقسوة أخيه، وهي القسوة الأشد مضاضة.

مراسلة موقع (عرب 48) التقت بعمال فلسطنيين من منطقة الضفة الغربية والذين يعملون بدون تصريح للعمل في البلاد، وتكشف النقاب عن مسيرة الألم منذ اللحظة الأولى لمغادرة منازلهم وسعيهم وراء رزقهم داخل الخط الأخضر.

كان القلق يراودهم كلما حملت الكاميرا لالتقاط الصور، خوفا من الكشف عن وجوههم لتجنب ملاحقة الشرطة لهم، طلبوا أن يكون التصوير ليلا كي لا تكشف الشرطة ولا أهالي البلد المكان الذي يقطنون به، ذلك أنهم يعانون ملاحقة الشرطة الإسرائيلية لهم، وقيام أشخاص بالتبليغ عنهم لمراكز الشرطة. كان مطلبهم الوحيد للموافقة على اللقاء عدم ذكر أسمائهم الحقيقية لهذا استخدمت أسماء مستعارة، وغالبية الصور كانت في الظلام.

 ليس بالسهل الوصول للمنطقة التي يسكنها العمال من الضفة، فهي طريق وعرة تحيطها الأسلاك وأحيانا الحجارة العالية. ينامون في أكياس نايلون ويصفون سريرهم بالدفيئة، ذلك أنهم يغطون أنفسهم في أكياس نايلون كي لا يتصل مياه الأمطار إليهم.

المعاناة بسبب عدم توفر فرص عمل في الضفة

هربنا من مشقة العيش الذي لا يوفر لنا حتى أماكن عمل في الضفة الغربية، غالبية العمال الفلسطنيين الذين يعملون في الداخل الفلسطيني هم أكادميون لكن حتى الطبيب في بلدي الذي تنزف جراحه بشكل مستمر لا يجد له غالبا عمل، منذ خمسة عشر عاما وأنا أعرض حياتي للخطر عند عبوري الحواجز التي تفصل بيني وبين الشق الآخر من وطني كي أجد عملا لأتمكن من توفير العيش الكريم لأسرتي التي تتكون من والديّ وثلاث أخوات وزوجتي وأخي الذي يصغرني، بحيث أرسل ما أحصل عليه من مال للعائلة لتوفير قسط التعليم الجامعي لأختي الكبيرة، وتوفير ما تبقى لكي أبني لي ولأخي الصغير بيتا'.

الطريق عبر الخطر الأخضر

ويصف (ياسر سليم) الطريق عبر الخط الأخضر للوصول الى المدن العربية في الداخل قائلا: 'قد تستغرق رحلة الوصول من منطقة طوباس إلى الجليل ثلاثة أيام، وعلى مدار السنين استخدمت العديد من الأساليب، وتعلمت الأفضل منها كي أصل إلى المكان المقصود. في السابق كنت أنا ومجموعة شباب نمر من بين كروم الزيتون ونراقب تحركات دوريات الجيش التي غالبا ما كانت تدخل لداخل الكروم. ومع بناء جدار الفصل العنصري أصبح الأمر صعبا، لكننا كنا نضع سلما وأحيانا سلسلة بشرية لكني نجتاز الحاجز العنصري'.

أما عن الأسلوب الجديد والذي يستخدمه غالبية العمال الفلسطنيين في الفترة الأخيرة أشار (ياسر خالد) 'هو اجتيازهم مناطق الضفة الغربية من خلال أنفاق لمياه الصرف الصحي، وقال: 'تستوقفني الذاكرة عند محاولة كانت الأقسى على أكثر من مائتي عامل فلسطيني، بحيث دخلنا عبر نفق مياه صرف صحي ارتفاعه 40 سم وعرضه 50 سم دخلنا جميعا في النفق وإذا بعدد من جنود الاحتلال يتواجدون بنفس النفق من الجانب المقابل وبدأنا بالهروب بالشكل العكسي، البعض تعرض لكدمات، ومنهم من تعرض لكسور، وتمكن الجنود من القبض على بعض العمال'.

ويصف (أحمد خليل) مشقة العمال منذ اللحظة الأولى من رحلة كسب الرزق قائلا: 'عندما نتوجه للعمل في الداخل الفلسطيني نقوم بتشكيل مجموعة من الشباب الأمر الذي يسهل علينا مرحلة الاجتياز والتي تعتبر الأصعب بحيث تكون حياتنا معرضة لخطر الموت أو للسجن، عمري 22 عاما، وكنت ضمن مجموعة عمال تتراوح أعمارهم بين 19 و25 سنة، كان عددنا 35 شخصا، قسمنا أنفسنا إلى مجموعات، وكل مجموعة تمر مرحلة من مراحل الاجتياز تتصل بالأخرى، ونستخدم كلمات سرية مثل كلمات 'أقطف الزيتون' أي الطريق آمنة، ' اقطع الزيتونة' أي لا تمر هناك خطر، وبالطبع كنا نغلق الهاتف بعد كل مكالمة، وننتظر أحيانا لساعات ومن ثم نعود للاتصال، هناك مرحلة عبور نفق مياه المجاري ثم الجدار العنصري، وبعد ذلك نمشي مسافة طويلة أحيانا أراضي زراعية وأحيانا أحراش، ونصل جميعنا إلى مكان محدد مسبقا من ذلك المكان. نبدأ بمحاولة أن نستقل مركبة تنقلنا إلى مناطق العمل، وغالبا تكون في منطقة الجليل'.

العيش تحت غطاء السماء وافتراش الأرض

السعي وراء لقمة العيش للعمال الفلسطنيين تحيطه التعقيدات في كل المراحل، فما أن يصل العامل إلى المنطقة التي قرر العمل بها حتى يفترش الأرض ويلتحف السماء. وقال (ياسر سليم): 'عندما يأتي العامل من الضفة فهو لا يحمل سوى قطعة من ثيابه، ولا يعلم في أية مكان سينام أو سيمكثت، في البداية ننام في الأحراش وفي كروم الزيتون والأراضي الزراعية، ونواجه برد الشتاء ومياه الأمطار في الشتاء، وحر الصيف والثعابين في الصيف، والأسوأ من هذا كله ملاحقة الشرطة لنا في النهار في أماكن العمل، وفي الليل تأتي الشرطة وهي تمتطي الخيل لتقبض علينا. قد نجد من يعطف علينا من المقاولين فيعرض علينا المقاول أن ننام في البيت الذي نبنيه، ولكن يجب أن نستيقظ باكرا حتى لا يرانا الجيران خوفا من إبلاغ الشرطة'.

بين بؤس الحال وقسوة مقاولين الأعمال

يتخذ العامل الفلسطنيي من مدخل البلد الذي قصده مركزا ينتظر به المقاولين والمشغلين حتى يطلبوه للعمل معهم، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة، وهي أن يوافق على تشغيله أحد المقاولين في ظل القوانين الصارمة التي تعاقب وتغرم كل من يُشغل مواطن من الضفة يعمل بدون تصريح.

وقال (أحمد خليل): 'خلال فترة عملي في الشمال كنت أدعي بأني من عائلة معينة، ومن بلد محدد، وفقط مقاول العمل يعرف بأني من الضفة، كنت أتلقى معاملة جيدة من الجميع طالما كانت أعرف نفسي بأنني مواطن من الداخل الفلسطيني، وفوجئت حين عرفت على نفسي بأني من منطقة الضفة بالإهانات والمعاملة الجافة من الناس'.

 وتابع :' تعرضت خلال العمل لحادث عمل، أنا وصديقي، حيث انهار علينا جدار خلال العمل، توجهنا للمستشفى ولم أكشف عن هويتي وادعيت بأني لا أحمل هويتي وبأني سأعود للبيت، بفضل الله كانت إصابتي سطحية، ولكن الشرطة اعتقلتني وبدأت بالتحقيق معي. لاحقا، تقرر الإفراج عني إلا أن أحد المترجمين من العربية للعبرية، والذي يعمل في الشرطة، أصر على اعتقالي، وكان يترجم ما أقوله من العربية للعبرية بصورة غير صحيحة فأنا لا أتقن العبرية، أما صديقي فقد بقي في المستشفى لمدة أسبوع بسبب كسور في رجليه، ولم تسأل عنه أية جهة فلسطينية، بل تنكرت له، ولبث مقعدا لمدة ثمانية أشهر بسبب إصابة العمل'.

وعن احتيال مقاولين الأعمال العرب وعدم دفعهم رواتب العمال قال (ياسر سليم): 'عملت مع مقاول من منطقة الشمال في مجال البناء، وكان يستغلني من حيث عدد الساعات مقابل الأجر الذي اتفقنا عليه، وعندما قررت التوقف عن العمل معه هددني بأن يشي للشرطة عن مكان سكني أنا وأصدقائي العمال الفلسطنيين الآخرين، فاضطررت للموافقة والعمل معه لمدة يومين بدون أن أحصل على أجري'.

وعن تجربة (أحمد خليل) مع احتيال المقاولين قال: 'عملت في مجال البناء لمدة شهر، ولم يدفع لي كامل المبلغ الذي اتفقنا عليه، وعندما طلبت منه تكرارا دفع المبلغ لأن أهلي كانوا بأمس الحاجة إليه، قال لي بأنه كان يطعمني وهذا المال ثمن الطعام الذي اشتراه للعمال خلال العمل'.

التعليقات