هل يمكن إنصاف الأسير الفلسطيني من خلال "العدالة الانتقالية”؟/ نبيل دكور*

يقول الفيلسوف هيغل في تفسير بحث الإنسان عن الحقيقة (وبرأيي قد يختزل ذلك بين ثناياه الكثير من فكرة “العدالة الانتقالية”، مجال اختصاصها، آلياتها ونطاق عملها) ما يلي: ”وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه ما بقي فيه شريان ينبض

هل يمكن إنصاف الأسير الفلسطيني من خلال

توطئة

يقول الفيلسوف هيغل في تفسير بحث الإنسان عن الحقيقة (وبرأيي قد يختزل ذلك بين ثناياه الكثير من فكرة “العدالة الانتقالية”، مجال اختصاصها، آلياتها ونطاق عملها) ما يلي: ”وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه ما بقي فيه شريان ينبض وروح تشعر…”.

فما بالك حين يبحث الإنسان عن الحقيقة كضحية بالذات عندما يكون ذلك الإنسان الضحية اسير حرب او مناضل من اجل الحرية !.

تُطبق العدالة الانتقالية بشكل عام - كمنظومة قانونية وسطية وكتسوية- في حالة الانتقال من نظام حكم ارتكب انتهاكات وخروقات جسيمة لحقوق وحريات الإنسان إلى نظام حكم جديد ديموقراطي يلتزم باحترام حقوق الإنسان وحرياته ويكفل حمايتها. فمنظومة العدالة الانتقالية تعمل على إيقاف انتهاكات الماضي وعلى تفاديها مستقبلا. غالبا ما يحدث هذا الانتقال في نفس البلد أو الدولة، فتكون لدى النظام الحاكم الجديد إشكالية قانونية جدية في تطبيق منظومة قانون جديدة بأثر رجعي من أجل المحاسبة على انتهاكات الماضي وملاحقة مسْؤولي النظام السابق الذي يعتبر نفسه شرعيا.    

إلا أن العدالة الانتقالية في السياق الفلسطيني هي حالة خاصة، شائكة، لها مدلولات وخصائص وإشكاليات قد لا نجدها في أمكنة أخرى في العالم – وذلك يعود أولا لكون المُنتهٍك للحقوق هو "قوة محتلة”؛ وثانيا: الانتقال يحدث من مرحلة ساد فيها "احتلال حربي" (حكم عسكري) إلى مرحلة ما زال الشعب الواقع تحت الاحتلال في الطريق إلى الاستقلال التام والنظام المدني الديموقراطي المنشود ما زال في طور الإنشاء .

لذا، اعتقد -بتواضع- أنه في حالة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي فإن تطبيق منظومة عدالة انتقالية قد يشكل رافعة من أجل بناء الثقة لدى الفلسطيني لا سيما لدى الأسير (المحرر أيضا) الذي أُنتِهكت حقوقه وحرياته على يد الاحتلال بشكل جسيم، كون العدالة الانتقالية قد تعمل على إيقاق تلك الانتهاكات، على تفاديها وعدم تكرارها مستقبلا وبالتالي إنصاف الأسرى كضحايا الانتهاكات.

والسؤال المطروح: هل يمكن من خلال العدالة الانتقالية إنصاف الأسرى الفلسطينين؟ 

للإجابة على هذا السؤال يجب أولا أن نشخص الانتهاكات لحقوق وحريات الأسير، وأن نقف على حجمها وخطورتها واقعيا وقانونيا:    

1.انتهاكات الاحتلال الHساسية لحقوق وحريات الأسير الفلسطيني، واقعيا وقانونيا:


أ. الاختطاف والتوقيف التعسفي: دون مذكرة اعتقال، توقيت مباغت وليلي، استخدام السلاح، التنكيل.
ب. الاعتقال الإداري لا سيما المطول: أداة قمع، ورقة مساومة، سجن من دون محاكمة، ستخدام جارف متكرر ومطول، مواد سرية، حرمان من حقوق قضائية. (قانون سجن المقاتلين غير القانونيين الذي سرى مفعوله في العام 2002  وبحسبه يتم اعتقال فلسطينييين من غزة اثناء الاجتياحات)
ج. التنكيل والتعذيب: أساليب تعذيب محظورة، استشهاد معتقلين، إتفاقية مناهضة التعذيب.
د. الإهمال الطبي: المعاملة المهينة والقاسية بحق الأسرى المرضى (حرمان من الفحوص والمتابعة – استخدام الحالة الصحية للابتزاز- معاناة "البوستة - سفرة الموت").


2. إشكالية تجاهل الأسرى الفلسطينيين في عملية المصالحة، المفاوضات والاتفاقيات لحل النزاع:                        

الأسرى الفلسطينيون هم لأسرى حرب فعلا كونهم أُسروا على يد "قوة محتلة" جراء احتلال حربي - Belligerent occupation. ناضلوا من أجل حق مشروع وفي صفوف حركة تحرر وطني وفي إطار مشروع وطني فهم إذن مناضلون من أجل الحرية والاستقلال.

إسرائيل تنتهك علنا وعلى مدار عشرات السنين حقوق وحريات الأسير والمعتقل الفلسطيني، وتنتهك بشكل صارخ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان. لذلك أي عملية سلمية أو مصالحة أو إتفاقية إسرائيلية - فلسطينية لا تتطرق بشكل محوري لقضية الأسرى ولا تطرح حلا عادلا لهم كضحايا احتلال لإيقاف تلك الانتهاكات وإنصاف بالذات القدامى والمرضى منهم قد يعيق تحقيق العدالة الانتقالية. 

في اتفاقية إعلان المبادئ أوسلو لم يتم التطرق ولم تبحث كليا قضية الأسرى، ولم تتم الإشارة إلى حقوق الأسرى المكفولة في القانون الدولي. هذا رغم كل الانتهاكات الجسيمة بحقهم ورغم عددهم الكبير الذي وصل آنذاك إلى 12 ألف أسير، كأنه لم يكن هناك أسرى ضحوا وناضلوا ضد الاحتلال.  

نعم تدارك الطرف الفلسطيني هذه المشكلة فيما بعد بالاتفاقات اللاحقة وطالب بالإفراج عن الأسرى، إلا أن الإسرائيلي استخدم قضية الأسرى كورقة وأفرج عن جزء منهم ولكن بقيت قضية باقي آلاف الأسرى رهينة حسن النوايا الإسرائيلية، ورهينة معاييرهم في تصنيف الأسرى جغرافيًا وحزبيًا. (مثلا: قضية الدفعة الرابعة من الأسرى القدامى، 26 أسيرا من الداخل والقدس).

الجدير ذكره أن إسرائيل تقوم بالإفراج عن دفعات من الأسرى ليس من منطلق استحقاق قانوني بل من منطلق قضية خاضعة للمساومة.        

3. أهمية قضية الأسير الفلسطيني في العدالة الانتقالية:

احترام تضحيات الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ومقاومتهم للمحتل والمطالبة بأن يكفل المسار السياسي حقوقهم وحرياتهم كما ينص القانون الدولي الإنساني، قد تعيد الاعتبار لهم، كمقامين أصحاب حق مشروع للشعب الفلسطيني وكضحايا لانتهاكات حقوقهم وحرياتهم.

تجارب حركات تحرر في العالم وأمثلة لاتفاقيات مصالحة تشمل حقوق الأسرى:

اتفاق بين إيرلندا الشمالية وحكومة بريطانيا عام 1998: البند الأول للاتفاق يضمن حق الأسرى الايرلنديين في القانون الوطني والقانون الدولي

عام 1991 في جنوب أفريقيا: اتفاق يعتبر قضية الأسرى قضية محورية في عملية المفاوضات لا بل اللأسرى هم من قادوا المفاوضات بعد تحررهم مع الحكومة العنصرية حتى بعد لأن تم تفكيك دولة الأبرتهايد - الفصل العنصري.  

4. إستراتيجيات وآليات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق وحريات الأسير الفلسطيني:

ضمان تطبيق منظومة العدالة الانتقالية منوط بمواجهة انتهاكات الماضي وتفادي تكرارها في المستقبل. ولتحقيق ذلك وُضعت مبادئ توجيهية وآليات تبنتها وأقرتها الأمم المتحدة وأوصت بتطبيقها في مجتمعات النزاع ومجتمعات ما بعد النزاع كإحدى مكونات "سيادة القانون".

أ.  آليات لمواجهة انتهاكات الماضي:     

مأسسة منظومة العدالة الانتقالية: تبني آلياتها ومبادئها تشريعيا وتنفيذي على يد الدولة.

على الدولة توفير هيئات قضائية رسمية وعملية لمسائلة محاسبة وملاحقة المسؤولين عن انتهاكات الماضي. 

يجب تشكيل لجان للتحقيق ولفحص انتهاكات وخروقات جسيمة بحق الأسرى. اللجان مخولة للالتقاء بالأسرى وبالضحايا استجوابهم وتوثيق أقوالهم بإفادات وشهادات.

الإصلاح - جبر الضرر – تأهيل الأسرى- التعويض، بالذات في حالة الأسرى الذين استشهدوا تحت التعذيب  أو الذين يعانون من عجز طبي (جسدي أو نفسي) جراء استخدام التعذيب بحقهم أثناء الاعتقال.

استخدام الأدوات القانونية والقنوات القضائية الإسرائيلية مساءلة وملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق وحريات الأسير الفلسطيني.

للمحافل والمحاكم الدولية دور كبير في تحقيق ومساندة العدالة الانتقالية. لذلك انضمام دولة فلسطين للمعاهدات الدولية وللمحاكم الدولية لا سيما المحكمة الجنائية الدولية هو مطلب أساسي وملح لتحقيق العدالة الانتقالية.

ب. آليات لتفادي الانتهاكات في المستقبل:

حتى لا تتكرر انتهاكات الماضي على مؤسسات الدولة العمل على تطبيق مفاهيم ومبادئ العدالة الانتقالية كمكون أساسي لمبدأ سيادة القانون، وأيضا على تعزير مفاهيم حقوق الإنسان وحرياته وترسيخها دستوريا تشريعيا وتنفيذيا.

للمجتمع المدني دور كبير في تقوية الديمقراطية ورقابة سلطات الدولة والمطالبة باحترام حقوق الإنسان وحرياته وعدم تكرار انتهاكات الماضي. 

*مداخلة المحامي نبيل دكور في المؤتمر الدولي "العدالة الانتقالية في السياق الفلسطيني" الذي عقدته كلية الحقوق- جامعة الخليل يوم 18.11.14       

التعليقات