ربع قرن وعُمَر مطارد../ طارق عسراوي

ما أنْ خَمَدت جمرة الحدث على ألسنة الناس حتى تأججت مرة أخرى، لقد أججها عمر بماء وملح، وضجّت المدينة باسمه، لقد فرّ من قبضة السجن المؤبد واختفى!

ربع قرن وعُمَر مطارد../ طارق عسراوي

عمر نايف الزايد

كما صعد الاسم عالياً، وأضاء ليل حديثنا، قبل خمسة وعشرين عاماً، ها هو يعودُ للعلن مرّة أخرى، ويمنح الحكايات وهجاً ووجعاً وأمنيات بالخلاص!

قام ثلاثة شبّان بالاختباء في ثوب البلدة القديمة، في العام 1986 قبل اعتقالهم من قبل جيش الاحتلال في القدس. وصل الخبر سريعاً إلى جنين، كان قلقُ المدينة واضحاً من الأنباء المتضاربة حول إصابة أحد الأشقاء، وقالوا بعدها إن عمر وشقيقه حمزه الزايد وصديقهم سامر المحروم اتّهموا بتنفيذ عمليّة في القدس وحُكِم عليهما بالسجن المؤبّد.

ما زلتُ أذكر، حينَ وقفت مركبات الجنود في شارع السكّه، وترجّل منها جنودٌ لا يشبهون سحنة البلاد، في عيونهم حذر، ويفتّشون في عيون أطفال الحيّ وسكّانه المتجمّعين لمشاهدة الحدث الجلل.

يومها قامت قوّة من جيش الاحتلال بإغلاق منزل أبناء حارتنا بالشمع الأحمر، ولمّا انصرف الجنود ركضنا لنفهم ماهيّة الشمع الأحمر!

ما أنْ خَمَدت جمرة الحدث على ألسنة الناس حتى تأججت مرة أخرى، لقد أججها عمر بماء وملح، وضجّت المدينة باسمه، لقد فرّ من قبضة السجن المؤبد واختفى!

وباختفائه صار ذِكرُ اسمه همساً، كأنّ إحساساً عامّاً أصاب أهل المدينة بضرورة الهمس عند السؤال عن عمر، وأظنّ أنّ الغالبيّة أسقطت الحكاية من التداول لتساهم في تخبئته عن عيون الاحتلال المترصّدة لطرف خيط يدلّ بنادقها عليه.

خمسة وعشرون عاماً، بقي فيها عمر ظلّا للحكاية، وقضاها شقيقه حمزه ورفيقهم سامر خلف القضبان.

حمزه الذي أُبعِدَ في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة بقي مُبعداً، وسامر الذي ما لبث أن عانق مرج ابن عامر حتى نكث الاحتلال باتفاق الصفقة، واعتقله مجدداً وأعاده  لحكم المؤبّد.

أمّا عمر، فله اليوم حكاية أخرى، بل له أن نتمّم حكايته التي أنقصها الناس عمداً وحرصاً!

حكاية لا تتطلّب ذكر اسمه همساً هذه المرّة بل بحنجرة من رعد وبصوت مرتفع جداً، فبعد ربع قرن من الإخفاء المقصود، كسرت مطرقة المنفى قشرة الكلس وطلّت الحكاية برأسها للشمس.

عمر الذي خاض إضرابه عن الطعام في غياهب الظلم والعتمة خلف القضبان حتى نُقل للعلاج، فرّ في مطلع العام 1990 من المشفى، وأخفته قبّعة الفدائي الساحر عن عيون الاحتلال حتى وصل إلى بلغاريا في عام 1994. تزوّج هناك ورزق بالأبناء، وعاش في ظلّ قباب القضيّة حتى جفّ ذكره عن ألسنة الناس.

قبل أيّام، تقدّم الاحتلال بطلب للسلطات البلغاريّة لتسليم عمر باعتباره فاراً من عدالة الظلم الأخير، وآخر احتلالات الكرة الأرضيّة. ولغة المصالح والسياسة لا تكترث بإنسانيّة الفلسطيني، ولا بأسباب نضاله، وقد غابت أدواته الرادعة، ولا يهمّها أن قضاة تقطر أنيابهم وأسلحتهم بدماء الأطفال ولم يخلعوا عنهم ثيابهم العسكريّة هم من أصدروا أحكامهم على ثلاثة شبّان بعمر النسيم، ولم تشكلّ اتفاقات السلام اللاحقة أو ملاحقها سبباً يمنع الأمن البلغاري من مطاردة عمر. وهكذا عاد عمر بعد ربع قرن مطارداً، فهل من فدائي ساحر يُخفي عمر والحكاية عن عين الاحتلال الدمويّة مرّة أخرى؟

أم أن الفكرة هرمت، وبات الخلاص مستحيلاً؟

أمّ أنّ في الحكاية ما بقي مبهماً، تفككه قادم الأيام؟

التعليقات