لماذا يزعج "الكوندوم" إسرائيل؟

لماذا يزعج "الكومدوم" (العازل الذكري) إسرائيل؟ المشاهد التي تحتويها السطور التالية ستقودك حتما نحو الإجابة.

لماذا يزعج

(أ ب أ)

على بعد أمتار من السياج الأمني الفاصل بين قطاع غزة وأراضي الـ48، يحاول شاب فلسطيني ملثم الاختباء خلف تلة رملية مكسوة بالحشائش الطويلة والنباتات الشوكية وتحيط بها شجيرات صغيرة.

وبينما يحاول تجنب انكشاف موقعه أو انغراس الأشواك الحادة في ساقيه ويديه، كان الشاب الملثم يعمل بتركيز ودقة على تعبئة مسحوق "هيدروكسيد الصوديوم" أو ما يعرف محليا باسم "الصودا الكاوية" في "عازل ذكري"، قبل أن يحكم إلصاق فوهته بزجاجة بلاستيكية معبئة بالماء.

وبمجرد أن يرفع أصابعه عن فوهة العازل الذكري يتساقط المسحوق الكيميائي، الذي يستخدم عادة في أعمال التنظيف، داخل الزجاجة ليتفاعل سريعا مع الماء ويبدأ بالغليان مولدا كمية من الغاز الخفيف الذي يتصاعد وينفخ البالون.

ينزع الشاب بالونه من الزجاجة البلاستيكية بحذر شديد، فالمحلول بداخلها قد يحرق جلده لو لامسه، ويحكم إغلاق فوهته بخيط يربطه إلى حجر قريب، حتى لا يطير، فذلك الغاز المتصاعد خفيف كالهيليوم.

وبعد أن ينتهي من صنع بالونه المنفوخ، يخرج الفلسطيني الملثم قطعة قماش من جيبه ويحشوها بمواد مشتعلة استخرجها مسبقا من ألعاب نارية، كما يسحق بداخلها بعض أعواد الكبريت ويغمرها أخيرا بمادة البنزين.

هذا الفتيل الذي صنعه الشاب الفلسطيني سيحظى في النهاية بحاضنة خفيفة من الأسلاك المعدنية الرقيقة تتخذ شكلا اسطوانيا، يُحكم ربطها بطرف خيط البالون الشفاف الذي تم نفخه مسبقا.

وقبل أن يحلق البالون (العازل الذكري) عاليا، حاملا معه الفتيل المشبع بالمواد الحارقة باتجاه مواقع الاحتلال المحاذية لقطاع غزة، يوصل الشاب الملثم طرف الفتيل بسيجارة أو عود بخور ويشعله.

وتعمل السيجارة أو عود البخور كمؤقت اشتعال، فبمجرد وصول شرارتهما إلى الفتيل يشتعل مولدا موجة نارية تفجر العازل الذكري في السماء، لتسقط أخيرا كرة لهب على أحد الحقول الزراعية المغتصبة من قبل إسرائيل مسببة حريقا كبيرا.

ويلجأ الفلسطينيون إلى استخدام العازل الذكري لأن المطاط المصنوع منه أقوى من البالونات العادية ويحلق لمسافة أبعد داخل أراضي الـ48 قبل أن ينفجر، كما أنهم لا يستخدمون غاز الهيليوم لنفخ البالونات نظرا لتكلفته الباهظة وندرته في قطاع غزة، بسبب منع سلطات الاحتلال لتوريده للقطاع.

هذا المشهد الذي يتكرر يوميا منذ أكثر من شهرين، بات يشكل مصدر إزعاج وإرباك للحكومة بإسرائيل، فالمئات من البالونات المصنوعة من العازل الذكري ومواد مشتعلة بسيطة سقطت بالمنطقة المحيطة بالقطاع المحاصر والمسمى إسرائيليًا بمنطقة "غلاف غزة"، وأحرقت آلاف الدونمات الزراعية ما تسبب بخسائر مادية كبيرة.

ويعد البالون الحارق، تطورا طبيعيا، للطائرات الورقية، بحسب ما أفاد به الناشطون القائمون على إطلاقها، نظرا لسهولة إعداده، وفعاليته الأقوى، ولكونه لا يحتاج لخيط طويل، كما الطائرات.

وبحسب شبان "وحدة البالونات الحارقة" أيضا، فإن إطلاق الطائرات الورقية، أصبح قليلا جدا، في هذه الفترة، وبات التركيز بشكل خاص على إطلاق البالونات، التي تعتمد بشكل أساسي على العازل الذكري لإعدادها.

ويُطلق ناشطون فلسطينيون هذه البالونات الحارقة، والطائرات الورقية، باتجاه أراضي الـ48 منذ انطلاق مسيرات "العودة" (نهاية آذار/ مارس الماضي)؛ للمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين لمدنهم وقراهم التي هجروا منها عام 1948، وبرفع الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2006.

ويقول الشاب الملثم، الذي صنع البالون الحارق الأخير، إن "البالونات والطائرات الورقية الحارقة وسيلتنا الوحيدة لنلفت انتباه العالم إلى ما نعانيه من حصار خانق داخل قطاع غزة منذ أكثر من عشر سنوات".

ورفض الشاب الفلسطيني التقاط أي صور له أو اصطحاب كاميرات إلى موقع إطلاق بالونه حتى لا يلفت انتباه الطائرات الإسرائيلية التي تراقب الحدود بكثافة، وتستهدف مطلقي البالونات بصواريخها كما فعلت مع زملائه، خلال الفترة الماضية.

وأكد "لا يمكن أن نتوقف عن إطلاق البالونات باتجاه إسرائيل قبل أن ترفع حصارها عن غزة".

الاحتلال في مواجهة "معضلة" العازل الذكري الحارق

وبحسب معطيات كشفتها لجنة الأمن والخارجية بالكنيست الإسرائيلي، منتصف الشهر الجاري، فإن البالونات والطائرات الورقية الحارقة، أسفرت عن اندلاع أكثر من 400 حريق بالمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة.

ووفق المعطيات ذاتها، فإن تكلفة مواجهة تلك الحرائق بلغت نحو 2 مليون شيكل إسرائيلي (نحو 554 ألف دولار).

ونقلت صحيفة "هآرتس"، في 15 حزيران/ يونيو الجاري، عن ضابط في جهاز الإطفاء والإنقاذ الإسرائيلي، قوله إن النيران أتت على نحو 25 ألف دونم من الأراضي الزراعية في المناطق المتاخمة لقطاع غزة، خلال الشهرين الماضيين.

وبعد ظهر أمس الأحد أُصيب 3 فلسطينيين، جراء قصف للاحتلال، بينما كانوا يهمون بإطلاق بعض البالونات.

كما استهدفت الطائرات الإسرائيلية كذلك، يوم السبت الماضي، بصاروخ واحد مجموعة من الشبان قرب الحدود الشرقية لقطاع غزة، أثناء محاولتهم إطلاق بالونات وطائرات ورقية حارقة باتجاه الجنوب، دون وقوع إصابات.

الأوضاع الإنسانية في القطاع

ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)، للعام 2017، فإن أكثر من نصف سكان غزة يعانوا من الفقر، بنسبة 53%، فيما قالت الأمم المتحدة، العام الماضي، إن 80% من سكان غزة يتلقون مساعدات إنسانية عاجلة، في إشارة لسوء الأوضاع الإنسانية.

وخلال الربع الأول من 2018، انخفضت قيمة الواردات إلى قطاع غزة بنسبة 15%، مقارنة بالربع الأول من 2017، نتيجة لعدم طلب المستوردين بضائع جديدة بسبب الوضع، بحسب غرفة التجارة والصناعة بغزة.

ولا يوجد من يموّل صناعة البالونات المشتعلة، وفق الشاب الفلسطيني، فتكفلتها بسيطة للغاية ولا تتجاوز قيمة إعدادها 5 شواقل، فالعازل الذكري ثمنه شيكل واحد، وكمية "الصودا الكاوية" المطلوبة لنفخ بالون واحد لا تتجاوز تكلفتها الشيكل أيضا، وثمن البنزين وأعواد الكبريت ومواد الألعاب النارية وعود البخور يبلغ 2 شيكل.

الفلسطيني صانع البالونات الحارقة، عاد ليكمل حديثه بالقول: "الفقر والبطالة والمرض والأزمات الإنسانية أنهكت الفلسطينيين في القطاع، والآلاف من الأسر لم تعد تجد طعاما لأطفالها. كيف نصمت على كل هذا سنواصل إشعال الحرائق حتى تنتهي هذه المأساة".

الاحتلال يواجه البالونات عسكريًا

وتسببت البالونات الحارقة، بموجة تصعيد محدودة بين غزة وإسرائيل، الأسبوع الماضي، حيث شنت طائرات الاحتلال غارات على مواقع لحركة "حماس"، بهدف الضغط عليها لإيقاف هذا الظاهرة، فيما رد فلسطينيون (لم يعلنوا عن هويتهم) بقصف المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع.

ويسود جدل في إسرائيل حول سبل مواجهة مطلقي الطائرات الورقية والبالونات المشتعلة، إذ يرى بعض أركان الحكومة، مثل رئيسها بنيامين نتنياهو ووزير أمنه، أفيغدور ليبرمان، تجنب قتلهم، لتفادي تأثير سلبي على صورة إسرائيل عالميا.

وواجهت إسرائيل انتقادات دولية حادة، لقتلها أكثر من 129 فلسطينيا وجرحها الآلاف، استشهدوا خلال مشاركتهم في احتجاجات سلمية، قرب السياج الأمني الفاصل بين غزة وأراضي الـ48، منذ نهاية آذار/ مارس الماضي.

وتميل المستويات الأمنية في جيش ومخابرات الاحتلال إلى التوصية بالامتناع عن قتل المتظاهرين، لتجنب أي تصعيد قد يتحول لمواجهة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في القطاع، فيما أوصى وزراء إسرائيليون، مثل وزير التعليم، نفتالي بينيت، ووزير الأمن الداخلي، جلعاد إردان، ووزيرة القضاء، أييليت شاكيد، بضرورة السماح للجيش بقتل مطلقي الطائرات البالونات الحارقة من غزة، التي تحاصرها إسرائيل منذ 12 عاما.

وناقش المجلس الإسرائيلي الوزاري المصغر (الكابينيت)، في 17 حزيران/ يونيو الجاري، قضية الطائرات الورقية والبالونات المشتعلة لكنه لم يعلن أية قرارات تتعلق بها.

وبحسب آخر ما رشح من معطيات إسرائيلية، فإن هذه البالونات الحارقة قد تشعل مواجهة عسكرية بين غزة وإسرائيل.

ونقلت القناة الإسرائيلية الثانية، الأربعاء الماضي، عن مصادر عسكرية، أن إسرائيل لن تسمح باستمرار ظاهرة البالونات الحارقة، التي يتم إطلاقها من غزة باتجاه المستوطنات، "حتى لو أدّى ذلك إلى الدخول في صراع عسكري واسع".

وقالت المصادر، إن "الجيش الإسرائيلي قال في تقييم ميداني، إن حماس تخطيء بتقديراتها، فإسرائيل لن تسمح باستمرار إطلاق إرهاب الطائرات الورقية والبالونات المحترقة من غزة، حتى لو كان الثمن الدخول في صراع عسكري واسع".

وأضافت: "لن تتمكن حماس من خلق قواعد لعبة جديدة"، مشيرةً إلى أن "الجيش يعد لعملية شاملة في غزة، إذا ما استمرت حماس بمحاولة خلق قواعد لعبة جديدة".

ورغم أن تلك البالونات والطائرات الورقية الحارقة تستنزف إسرائيل من ناحيتي الاقتصاد والأمن القومي، لكن ليس للدرجة التي تتيح لوسائل الإعلام الإسرائيلية بوصف ما يحدث بأنه "حرب استنزاف"، بحسب مراقبين.

تكنولوجيا بالملايين في مواجهة العازل الذكري الحارق

نشر الاحتلال الإسرائيلي، الجمعة الماضية، منظومة جديدة على طول الحدود مع قطاع غزة، وذلك بهدف مواجهة ظاهرة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة.

وبحسب موقع صحيفة "معاريف" فإن الحديث عن منظومة كهروضوئية بإمكانها التقاط الطائرات الورقية من مسافة 7 كيلومترات، بينما لا تزال فوق أراضي قطاع غزة.

وأضافت أنه بعد التقاط الطائرة الورقية، فإن المنظومة قادرة على إطلاق طائرة صغيرة مزودة بمعطيات مكانية، وعندها يتم اعتراض الطائرة الورقية الحارقة.

وأضافت الصحيفة أن الحديث عن منظومة قامت شركة "إلبيت" بتوطيرها، وعرضت على قائد القوات البرية في الجيش الإسرائيلي.

غير أن نشر المنظومة الكهروضوئية الجديدة، لم يسعف الاحتلال، فالبالونات والطائرات الورقية الحارقة لا تزال تتجاوز الحصار وتعبر السياج الأمني الفاصل لتهوي في الحقول الزراعية والأحراش التي تحيط بقطاع غزة.

 

التعليقات