أطفال غزة في المشافي الإسرائيلية: علاج برائحة الموت

عيش المئات من الأطفال الفلسطينيين المرضى في القطاع حالةً من الترقب والخوف من المصير المبهم بانتظار المصادقة على تحويلهم للعلاج في المشافي الإسرائيلية أو مشافي القدس والضفة الغربية

أطفال غزة في المشافي الإسرائيلية: علاج برائحة الموت

والدة من غزة منعت من مرافقة ابنتها إلى مشافي الداخل (أ ب)

يجد المئات من أطفال غزّة الذي يحاصره الاحتلال الإسرائيلي منذ 14 عاما، في معركة الصراع على البقاء ومواجهة الأمراض المزمنة التي يعانون منها أنفسهم في محطات علاجية تتنقل بين مشافي القطاع إلى حين المصادقة على طلبات عائلاتهم لتلقي العلاجات في المشافي الإسرائيلية، قد تصل فترة الانتظار إلى أشهر، وأحيانا إلى سنوات، غالبا ما تشكّل مرحلة ما من "الموت البطيء" التي تفضي بالكثير من الأطفال إلى الموت المحتوم.

ويعيش المئات من الأطفال الفلسطينيين المرضى في القطاع حالةً من الترقب والخوف من المصير المبهم بانتظار المصادقة على تحويلهم للعلاج في المشافي الإسرائيلية أو مشافي القدس والضفة الغربية، إذ توجهت مئات العائلات مؤخرًا للحصول على المساعدة من منظمات حقوق الإنسان بعد أن رُفضت طلبات الحصول على العلاج خارج القطاع، وهي الحالات والطلبات والتوجهات التي تضاعفت بعد وقف التنسيق الأمني.

ووفقًا للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان في قطاع غزة، فالكثير من العائلات التي أضحت رهينة للتنسيق الأمني في الرحلة العلاجية لأحد أفرادها، أكدت بأنها توجهت في الفترة الأخيرة إلى جهات التنسيق الفلسطينية التي كانت مسؤولة عن تنسيق انتقالهم إلى الداخل والقدس والضفة مع السلطات الإسرائيلية، لكنّها توقفت عن تقديم طلبات الحصول على تصاريح خروج لأغراض طبية وعلاجية.

التنسيق والعلاج

ليس هذا فحسب، بل هناك عائلات تبحث عن علاج لأحد أفرادها أو أطفالها المرضى، قالت أيضا إن وزارة الصحة في السلطة الفلسطينية تمتنع وترفض تحديد دور لهم في المستشفيات خارج القطاع وتمويل علاجهم في المستشفيات الإسرائيلية، وخاصة مرضى السرطان ومن بحاجة إلى علاج كيماوي، وحتى من هم بحاجة إلى مراجعة بعد إخضاعهم لعمليات زراعة أعضاء في مستشفيات إسرائيلية أو فلسطينية بالضفة والقدس ويلزمهم المتابعة والتأهيل بعد إجراء العمليات الجراحية.

وكرّس تعليق وتجميد التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي حالة "الموت البطيء"، تحديدًا للأطفال المرضى بالسرطان الذين كانوا أصلا رهينة لهذا التنسيق وإجراءاته، إذ تراكمت ملفات وطلبات البحث عن العلاج خارج القطاع، ومنها من تكدّس وبات مجرد أرقام في لوائح الموت في السجلات المدنية بقطاع غزة، لكنها ملفّات تحمل في طيّاتها معاناة وحسرة وذكرى الفاجعة المرة وألم الفقدان لكل عائلة غزية.

ليست هذه الإجراءات جزءًا من الماضي، بل تتكرر مشاهد المعاناة لتبقى تفاصيل متجذرة في الذاكرة والوجدان لدى العائلات الغزية التي تتوق للحياة وأن ينعم أطفالها بالصحة ويبعد عنهم شبح الأمراض. لكن مسار الخروج من تحت الحصار في غزة لهذا الطفل والفتى أو تلك الرضيعة والفتاة لتفادي الموت البطيء، يتحوّل إلى محطة مثيرة للمشاعر الجياشة ومدعاة للعذابات للأم والأب وحتى العائلة بأكملها.

مصطفى ومحمّد
مصطفى ومحمّد

فرحة ومعاناة

ممتلئًا قلبه بالحزن والوجع، فيما تغصّ حنجرته ألمًا، تفيض منها كلمات الرهبة والأسى، يسرد الأب الثاكل مصطفى خالد الأطرش البالغ من العمر 36 عاما، وهو من سكان رفح بالقطاع، لـ"عرب ٤٨"، كيف انتهى أمل حصول طفله محمد (عام ونصف العام) على العلاج إلى وفاة.

شاحبة هي الحياةُ بالنسبة إلى مصطفى وزوجته، اللذين رزقا بابنهما البكر، محمد، بعد انتظار 8 سنوات، ليجد مصطفى كما زوجته صعوبة بالغة في مشهد الفقدان وموت المولود البكر في غضون أشهر.

سُلبت الفرحة والبهجة من قلب الزوجين، وتحول مجيء ابنهم محمد إلى كابوس، فعندما بلغ من العمر 5 أشهر كانت بداية المعاناة. إذ عانى طفلهم الرضيع محمد من ارتفاع شديد في درجات حرارة جسمه التي جمدت الفرحة لدى العائلة التي تنقلت به بين مستشفيات القطاع لإجراء الفحوصات والتحاليل المخبرية، ليرقد في المستشفى الأوروبي لمدة ثلاثة أشهر دون شفاء، بل حصل تدهور خطير على صحّة محمد الذي انتقل لمرحلة الموت البطيء.

أحزان وآلام

جلس مصطفى في حزيران/يونيو 2020، في صمت متمسكا بالحياة من أجل طفله محمد الذي تم نقله إلى مستشفى المقاصد في القدس، بعد تدهور وضعه الصحي واستحالة علاجه في القطاع، وهي رحلة معاناة مع العلاج المفقود والتحاليل والفحوصات المخبرية التي استمرت عشرة أيام، عاشها على بصيص من الأمل.

لكن، كانت الصدمة موجعة عندما وصل الطاقم الطبي في المقاصد أنه لا يتوفر علاج في المستشفى لمحمد الذي يرقد في العناية المكثفة، وبحاجة ضرورية ومستعجلة إلى عملية زرع نخاع في المشافي الإسرائيلية أو أوروبا.

الفراق والفقدان

ظنّ الأب مصطفى بأن العلاج لطفله محمد على مرمى حجر هناك داخل الخط الأخضر. لكنّه كان مصدوما عندما طالبوه بالعودة بابنه محمد إلى القطاع، لكنه أبى وتمسك بمسيرة العلاج لولده البكر رغم ما تحمله في طياتها من صعوبات وأحزان وآلام.

نُقِل محمد إلى مشفى "تال هشومير" (شيبا) في رمات غان، بمساعدة جمعيّة فلسطينية وفّرت تكاليف سيارة الإسعاف للوالد مصطفى، الذي بات لا يملك نقودا حتى لتوفير قوته اليومي.

أخضع الطفل محمد للفحوصات والتحاليل في المستشفى، وأظهرت النتائج بأنه يعاني من مرض سرطان الدم "اللوكيميا". وحينها، بدأ الوالد مصطفى بتجرّع مرّ الفراق ويذوق ألم الفقدان المستقبلي لطفله، الذي عاش لأشهر على جرعات العلاج الكيماوي ووجبات صفائح الدم، وبين الفترات والوقت الانتظاري للوجبات العلاجية.

الموت والحياة

بدت الحياة وكأنها انبعثت بالطفل محمد، بيد أنّ إشكالية التحويلات المالية من السلطة الفلسطينية إلى المستشفى مقابل العلاج أفسدت الفرحة.

لكن الرحلة العلاجية، يقول مصطفى، "استمرت على مدار شهر، وفيما بدا للوهلة الأولى بأن ابني يعود للحياة، صُدمت حين تدهور وضعه الصحي وأخبرني الأطباء بأن العلاج الكيماوي ما عاد مجديا بعد أن استنفد جميع الجرعات والوجبات العلاجية".

أطفال غزيون في مشفى إسرائيلي (أ ب)
أطفال غزيون في مشفى إسرائيلي (أ ب)

عاد مصطفى بطفله محمد إلى غزة ليعيش أيامه الأخيرة بين أحضان عائلته ووالدته التي كانت في أشهر متقدمة من الحمل بالمولود الثاني. هناك، في غزة، وسط العائلة، يقول مصطفى "تحسن وضع محمد قليلا، لكن لم تمض 48 ساعة حتى ارتفعت حرارته، وما أن ألقت العائلة نظرة الوداع عليه حتى سارعت إلى العودة به إلى مستشفى ’شيبا’، حيث كان فاقدا للوعي، وعاش أيام بين سكرات الموت، واستقدمت والدته على عجالة من غزة، لينتقل على جوار ربه بعد أن احتضنته في ساعاته الأخيرة".

وفي مشوار العودة إلى مسقط رأسه المحاصر، أدرك مصطفى الذي كان برفقة زوجته أنها النظرة الأخيرة، حاملا طفله البكر جثة هامدة بعد رحلة علاجية بين غزة وإسرائيل والقدس، استمرت قرابة عام بحثا عن الحياة، وهي مسيرة تركت حسرة في القلب وجراحًا لا تبرأ للزوجين.

إنّها رحلة الموت التي لا تنتهي، لكنّ الحياة تستمرّ وتبعث لمصطفى وزوجته بالأمل من جديد، حيث رزقا بعد أشهر من رحيل طفلهما محمد بمولودة جديدة اختار لها مصطفى اسم غزل حبا بالحياة وأملا بمستقبل أفضل، رغم الذكريات التي تنتحب حزنا بموت محمد.

التعليقات