كما هو الحال في المجتمعات المختلفة، تُعتبر المرأة عنصرًا مهمًّا وفعّالًا لا غِنى عنه في أيّ وقتٍ ومكان، حتّى وإن لم تحصل على حقوقها الأساسيّة، بعدُ، من الاحترام والحبّ والتّقدير، وحتّى لو كانت الأحلام في البقعة الّتي تعيش فيها حِكرًا على الرّجال فقط، فيما تُزجّ أحلامُها هي في دُرجٍ قديم وبائس تفوحُ منه رائحة الذكورة المقيتة.
المجتمع الفلسطينيّ، تحديدًا، متنوّع الشّرائح واللهجات، إحدى هذه الشّرائح المهمّة، والّتي كانت وما زالت مثالًا جليًّا وفاضحًا على تماهي الفلسطينيّ الأصليّ، ابن هذه الأرض وشَذاها، الفلسطينيّ ذاته، الذي عاش أجداده في هذه البقعة الفاتنة قبل أن يلوّثها الاحتلال، وقبل أن ينجح في خلخلة وأسرلة أفراد كُثر منها، هم البدو، الّذين سمّوا 'بدوًا' لأسلوب عيشهم ولهجتهم فقط وليس لإظهار اختلافهم عن باقي شرائح المجتمع الفلسطينيّ المتشابِهة في جوانب حياتيّة كثيرة قبل النكبة.
ينقسم البدو في فلسطين إلى قسمين: بدو يقطنون في جنوبها، والآخرون في شمالِها؛ الشّمال الآسر الّذي نفث عذوبته في قلوب النساء البدويّات وأحلامهنّ.
المرأة الفلسطينيّة البدويّة في شمال فلسطين
بطبيعة الحال، هنالك فروق جليّة بين كلا الطرفين، تكمُن في العادات واللغة ونمط الحياة، لكنّ التّشابه كبير، أيضًا، ويظهر في جوانب كثيرة. في هذه المساحة الصغيرة، سنركّز على المرأة الفلسطينيّة البدويّة في شمال فلسطين. أنا، كما هو الحال، مع فتيات بدويّات كُثر، نعيش في بيئة مغلقة نوعًا ما مقارنةً ببيئات مدنيّة أخرى، يأتي ذلك بحُكم العادات والتّقاليد ونمط الحياة، الّذي اعتاد عليه البدو على مرّ سنين طويلة، تشرّبت عقولهم من خلالها تفاصيل كثيرة بالية، حالت ما بين انطلاق المرأة إلى العالم الكبير؛ حيث الدراسة والحبّ والأحلام.
المرأة البدويّة في الماضي، وعلى مرّ التاريخ والسنون، لا تختلف كثيرًا عن قريناتها من النساء الفلسطينيّات الأخريات، تعيش في بيت تحكمه السلطة الذكوريّة، تصرخ صرختها الأولى في ليلة تعيسة، تكبر وتتزوّج وتنجب، تخدم الرجل كما لو أنّها أَمَة له. الأمر حاليًّا يختلف بطبيعة الحال، لكنّ ترسّبات هذا التخلّف ما زالت إلى يومنا هذا.
الحفيدة والجدّة
زرتُ جدّتي (والدة أمّي) بعد أسبوعٍ كامل من الانقطاع عنها بسبب الدّراسة والعمل، استقبلتني بابتسامة وادعةٍ أعادت إليّ بعضًا من حفنات الفرح الّتي فقدتها. قبّلت يدها الّتي ما زالت قويّة رغم أوجاع المفاصل الشّنيعة المرافِقة لها منذ سنين طويلة. قدّمت لي كأسًا من الشّاي الّذي تحبّه، قلت لها: 'حدّثيني عن شبابكِ'. تنهّدت طويلًا وقالت: 'ترعرعتُ في بيتٍ صغير، كنتُ وأخواتي نساعد أمّي في الطبخ والغسيل وإحضار الحطب والماء، تزوّجت في سنّ صغيرة'، أردفت وهي تفكّر: 'ربّما لم أبلغ حينها الخامسة عشرة. كان مهري خمسة آلاف جنيه فلسطينيّ'. لا أخفيكم أنّ الفرح كان يتغلغل في أعماقي كلّما ذكرت اسم فلسطين في حديثها. أكملتْ: 'أذكر أنّي ارتديت فستانًا أبيضَ طويلًا وحذاءً أسودَ'. نظرت إليها وقلت ضاحكةً: 'أسود يا جدّة؟' بادلتني بضحكة أخرى: 'مهو ما تشان بي غيره'. لم تتأثّر لهجة جدّتي البدويّة بأيّ شيء، ولم أسمعها مرّة تحشر كلمات أخرى فيها، كان عبقُ البداوة حاضرًا في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة كلّها، تلك اللهجة الّتي تلفظُ القافَ 'چ'، والكافَ 'إتش'. كنت أنصت إليها بكامل حواسي، بالرغم من أنّها سردت عليّ هذه التفاصيل مرّات كثيرة، لكنّني، في كلّ مرّة، أشعر بالفرح من جديد. أردفت: 'أنجبتُ أمّك بعد فترة قصيرة من زواجنا، بعد أسبوعين فقط عدتُ إلى جلب الحطب والماء من النبع، كان المكان بعيدًا فنُجبر على المشي لمسافات طويلة'. داعبتها: 'عشان هيتش إنتِ رشيقة وحلوة'. تنهّدت: 'آخ والله شفنا أيّام صعبة'.
جدّتي، كما هو الحال مع جميع النساء البدويّات، لم تحظَ بالحياة المترفة والمريحة الّتي تحلم بها كلّ امرأة. تقول: 'لم يسمح لي أبي بإكمال دراستي، درستُ حتّى الصفّ الثالث أو الرابع، منع أخواتي أيضًا، لكنّي سعيدة لأنّ خالاتك قد أكملن دراستهنّ'. كنت غارقة في مشهد الفرح المنبعث من عينيها وهي تتحدّث بفخرٍ وسكينة عن بناتها المعلّمات، وكأنّها قد حقّقت حلمها الكبير والمُنتظر. توجّهت نحو خزانة قديمة تحتفظ بها منذ زمن طويل، فتحتها فانبعثت منها روائح الماضي الجميل، أخرجت 'شرشًا وحطّة' وهو لباس المرأة البدويّة التقليديّ. تقولُ إنّه لأمّها، وصفَتْها: 'كانت متوسّطة الطول ونحيفة، على ذقنها وشم أو 'دقّ' باللهجة البدويّة، كانت تضع على خصرها حزامًا فوق الشرش، مصنوعًا من قماش قويّ. أمّا والدي فكان يرتدي دائمًا دشداشًا أبيض وحطّة فلسطينيّة، كان يعتاش على المواشي كما هو الحال مع غالبيّة البدو في تلك الحقبة'.
المرأة البدويّة اليوم
اليوم، في الألفيّة الثالثة، ما زالت المرأة البدويّة تكافح وتناضل، ليس كفاحًا شبيهًا بكفاح جدّتي في جلب الحطب والماء، بل كفاحًا في تحقيق الأحلام والخروج من القبو المظلم إلى العالم. كفاحًا في أن تتحدّث وتكتب عن السّياسة والحبّ والجنس والخيانة والدين دون خوفٍ ووجل من سياط الجلّاد المختبئة وراء الباب. هذه الأنثى الصّلبة، الّتي عانت أكثر من غيرها، والّتي كسرت جدران السجن وأصبحت معلّمة، ممرّضة، طبيبة، خيّاطة، عاملة نظافة وزراعة، عاملة اجتماعيّة والكثير من المهن الّتي أصبحت رائدةً فيها. اليوم، ما زالت تناضل هذه الجميلة في مواجهة هذا العالم البشع، الّذي يقتل الأحلام والحبّ في حرشٍ تُسمع فيه أصوات الكلاب الجائعة، والّذي يغتصب الحياة على نافذة الشرف.
التعليقات