12/03/2011 - 10:16

تسونامي الرملة قبل ألف سنة../ زكريا محمد

في جمادى الأولى، كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً

تسونامي الرملة قبل ألف سنة../  زكريا محمد
 (هذه مادة كتبت سابقا، رأيت أن من المفيد التذكير بها، كي نعلم أن غضب الطبيعة ما زال يتكرر)
 
في العام 460 هجرية، أي قبل أقل بقليل من ألف سنة (1067)، حدث زلزال مدمر في فلسطين. زلزال مخيف هائل كما تصفه لنا المصادر العربية، وصلت آثاره حتى إلى المدينة المنورة في الجزيرة العربية.
 
يصف لنا ابن الأثير المؤرخ في (البداية والنهاية) هذا الزلزال بقوله: (وفيها، في جمادى الأولى، كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً).
 
غير أن المربك أن ابن الأثير يتحدث لنا عن زلزال مدمر آخر حدث بعد سنتين، أي في سنة 462 هجرية. وهو ما تبعه فيه مؤرخون آخرون. يقول ابن الجوزي في المنتظم عن الزلزال الأول: (وفي جمادى الأولى (من سنة 460 هجرية): كانت زلزلة بأرض فلسطين أهلكت بلد الرملة، ورمت شرافتين من مسجد رسول الله صلى عليه وسلم، ولحقت وادي الصفراء وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة. وجاء كتاب بعض التجار في الزلزلة، ويقول: إنها خسفت الرملة جميعها حتى لم يسلم منها إلا دربان فقط. وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة، وانشقت الصخرة التي ببيت المقدس، ثم عادت فالتأمت بقدرة الله تعالى. وغار البحر مسيرة يوم وساح في البر، وخرّب الدنيا، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون فرجع إليهم فأهلك خلقاً عظيماً منهم).
 
ثم يضيف في الكتاب نفسه عن الزلزال الثاني: (ثم دخلت سن اثنتين وستين وأربعمائة. فمن الحوادث فيها أنه كان ثلاث ساعات من يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى وهو الثامن آذار زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك ببيت المقدس وتنس، وانخسفت أيلة (العقبة) كلها، وانجفل البحر في وقت الزلزلة حتى انكشفت أرضه، ومشى الناس فيه، ثم عاد إلى حاله. وتغيرت إحدى زوايا الجامع بمصر، وتبع هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان).
 
وهكذا، فنحن أمام زلزالين كبيرين. لكن بما أن الوصف هو ذاته تقريبا، والمدينة المصابة هي ذاتها: الرملة، فإننا نعتقد أن الحديث يجري عن زلزال واحد، لكن خطأ ما حصل وجعل الزلزال يصبح كما لو أنه زلزالان. يؤيد هذا أن الرملة لا يمكن أن تكون قد أعيد بناؤها خلال عامين، كي تدمر من جديد، خاصة وأن ابن شداد في كتابه: (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة)، يخبرنا أن أهل المدينة قد هجروها بعد الزلزال إلى (إليا)، أي القدس: (لم تزل الرملة مذ مصرت عامرة الأسواق. ودارّة الأرزاق. ينتابها السّفّار. ويحط بها التجار. إلى أن جاءتها زلزلة، في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة هدمت دورها، وشقَّت سؤرها، وعفت الآثار. وأطلعت الماء من الآبار. وانشقت منها صخرة بيت المقدس والتأمت. فانتقلت أكثر أهل "الرملة" بعدُ إلى "إليا" فعمروها، ومصروها).
 
عليه، فنحن نتحدث عن زلزلة مدمرة واحدة، تبعتها هزتان ارتداديتان في اليوم نفسه: (وتبع هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان). ويبدو أن زلازل تحذيرية سبقت هذا الزلزال. إذ يحثنا ناصر خسرو في (سفر نامة) عن زلزال قبل ذلك بنحو خمس وثلاثين سنة: (في الخامس عشر من شهر محرم سنة425، 11 ديسمبر 1033، زلزلت الأرض بشدة هنا فخربت عمارات كثيرة ولم يصب أحد من السكان بسوء... وتسمى مدينة الرملة في الشام والمغرب فلسطين).
 
على كل حال، فقد سحق الزلزال مدينة الرملة التي كانت منذ العصر الأموي حاضرة فلسطين الإدارية والاقتصادية، حد أنها صارت تدعى باسم البلد كله، أي فلسطين، كما رأينا أعلاه: (وتسمى مدينة الرملة في الشام والمغرب فلسطين). ويبدو أن المدينة لم تعد إلى سابق عهدها منذ ذلك الوقت أبدا.
 
ومن خلال الوصف المقدم للزلزال يبدو أنه كان مرعبا، وأن مركزه شمل مناطق من البر والبحر. وعلى البر كانت مدينة الرملة في مركز الزلزال كما يظهر. إذ أنها دمرت عن بكرة أبيها تقريبا. وقد قتل من أهلها الألوف. ابن الأثير يتحدث عن خمسة وعشرين ألفا، فيما يتحدث ابن الجوزي عن خمسة عشر ألفا.
 
ومن خلال الوصف المقدم أعلاه لآثار الزلزال يمكن للمرء أن يتصور أن قوته كانت لا تقل عن سبع درجات على مقياس ريختر. بل لعلها زادت عن ثماني درجات. ذلك أن آثاره وصلت حتى المدينة المنورة وخيبر والكوفة.
 
كما أن هذا الوصف قد يتيح لنا القول بأن تسونامي هائلا قد تبع الزلزال، وأدى إلى دمار لا مثيل له. بالطبع، فإن تأكيد حصول تسونامي يجب أن يتم بواسطة خبراء الزلازل. لكن الوصف المقدم يشير إلى ذلك، في ما يبدو. إذ تجمع المصادر التي تحدثت عن الزلزال على أن تراجعا قد حصل في مياه البحر، وأن أرض البحر قد انكشفت لمسافة كبيرة، ولفترة من الزمن لا بأس بها. فقد سار الناس إلى مسافة كبيرة داخل ما كان بحرا قبل الزلزال.
 
ويحدثنا ابن الأثير عن تراجع البحر مسيرة يوم، أي عن تراجعه إلى ما يقرب من ثلاثين كيلومترا تقريبا: (وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم، فأهلك منهم خلقاً كثيراً). يضيف: (وجفل البحر [أي تراجع] حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه، ثم عاد وتغير [أي رجع الماء]، وانهدم إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان). أما ابن الجوزي فيقول: (وغار البحر مسيرة يوم وساح في البر، وخرّب الدنيا، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون، فرجع إليهم فأهلك خلقاً عظيماً منهم). وفي مكان آخر يضيف: (وانجفل البحر في وقت الزلزلة حتى انكشفت أرضه، ومشى الناس فيه، ثم عاد إلى حاله. وتغيرت إحدى زوايا الجامع بمصر، وتبع هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان).
 
بناء على هذا الوصف، يمكن الافتراض أن انخسافا ضخما قد حدث تحت سطح البحر، فأدى إلى تراجع كميات هائلة من الماء نحو مكان الانخساف. ثم حين ارتدت المياه التي انسحبت بعد وقت وعادت في موجات هائلة نحو الساحل، ساحقة كل شيء في طريقها. وكان ألوف الناس الذين يسكنون قريبا من الساحل، قد خرجوا في ما يبدو، كي يتفرجوا على معجزة انسحاب البحر، وكي يلتقطوا ما يعثرون عليه في الأرض التي انسحب عنها الماء فعادت يابسة. ولا بد أنهم وجدوا أسماكا ومعادن وعملات، وبقايا سفن وزوارق، بل وربما عثروا على قطع ذهبية وغير ذلك. كانوا مندهشين من معجزة تراجع البحر، ومذهولين بما يعثرون عليه.
 
لكنهم لم يدركوا أن الوحش سيعود من جديد، وأن موجاته الهائلة ستعاقبهم على ما فعلوه.
أما كمّ الوقت الذي استغرقه البحر كي ينسحب ويعود، فهذا ما على خبراء الزلازل والتسونامي أن يحددوه. لكنه كان، في ما يبدو، وقتا كافيا كي يخرج الآلاف من المدن والقرى التي على الساحل كي يدخلوا أرض البحر التي اكشفت، و يتفرجوا على المعجزة التي حصلت؛ معجزة انحسار البحر. أي أن الأمر كان يتعلق بنصف ساعة على أقل تقدير، إن لم يكن ساعة أو أكثر.
 
لقد (انجفل) البحر وتراجع. ولم يكن هذا تراجعا عاديا في أعين الناس. أي أنه لم يكن جزرا عاديا، يبعد الماء عشرات الأمتار. كان هروبا للبحر لمسافة ثلاثين كيلومترا إلى الوراء.
لكن الوحش الذي انسحب عاد من جديد. ولا بد أن كل موجة من أمواجه قد ارتفعت عدة أمتار. لا بد أن حائطا مائيا هائلا كان يتقدم كي يغرق الساحل من جديد. كما لا بد أن الموج المرتد قد دخل مناطق واسعة من اليابسة. فقوة الارتداد كانت ستدفع الماء لاحتلال مناطق من اليابسة لم يكن فيها أصلا.
كان البحر ينتقم ممن اعتدى على أرضه.
كان يدخل مناطق جديدة لتحقيق انتقامه.
وقد كان انتقاما رهيبا.
وأغلب الظن أن ضحايا هجومه المرتد لم يكونوا بأقل من ضحايا مدينة الرملة التي سحقت، أي أن الألوف من أهل قرى الساحل قد دفنتهم المياه.
 
نتذكر هذه الزلزال اليوم، وأمام أعيننا الآن ما فعله زلزال هايتي. كما نتذكره وصور تسونامي سومطرة تملأ أذهاننا.
ما نحن بحاجة إليه، هو أن يعمد خبراء الزلازل عندنا إلى التنقيب في تاريخ فلسطين عن ما حصل من زلازل، وأن يدرسوها، لعل هذا يفيدنا في الاستعداد لزلازل لا بد أنها قادمة.

التعليقات