حياكة السجاد في لبنان... إرث على شفير الاندثار

ضمن مئات الحرف اليدوية التي اعتاشت عليها القرى اللبنانية، احتفظت بلدة "الفاكهة" في البقاع الشمالي (شرقي لبنان)، لمئات السنين بصناعة السجاد، إلى أن غيّبها انكفاء الأجيال الجديدة على الوظائف عن العمل المنزلي.

حياكة السجاد في لبنان... إرث على شفير الاندثار

(الأناضول)

ضمن مئات الحرف اليدوية التي اعتاشت عليها القرى اللبنانية، احتفظت بلدة "الفاكهة" في البقاع الشمالي (شرقي لبنان)، لمئات السنين بصناعة السجاد، إلى أن غيّبها انكفاء الأجيال الجديدة على الوظائف عن العمل المنزلي.

الحرفة، التي انتشرت منتصف القرن الثامن عشر في لبنان، دخلت إلى المنطقة عن طريق امرأة تركية من أزمير، تزوجت بلبناني من عكار (شمالي)، ثم انتقلت إلى البقاع لتروج وتبلغ ذروة نشاطها في بلدة "الفاكهة" العام 1880 وتصبح حياكة السجاد حرفة كل نساء المنطقة.

وبلغت شهرة سجاد "الفاكهة" مداها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ليهبط الطلب عليها مع دخول السجاد الأجنبي إلى السوق اللبنانية، إذ وجد أهل "الفاكهة" أنفسهم أمام بضاعة خارجية أقل جودة وسعرًا، لكنها أكثر طلبًا.

الحاجة الثمانينية أم خالد، الوحيدة في البلدة التي ما زالت حتى اليوم تغزل الصوف يدويًا بنفس المعدات والطرق التي تعلمتها حين كانت في التاسعة من عمرها، إلى جانب اثنتين احتفظتا بالإرث.

تقول أم خالد إن "حياكة السجاد مهنة متعبة ودقيقة، ورغم ذلك، فإني أجد نفسي متعلقة بها، ووحيدة دونها، كيف لا أكون وقد عملت في هذه المهنة لأكثر من 73 عامًا بمعدل 9 ساعات يوميًا".

وهكذا كان كل بيت في البلدة ينتج حاجاته من السجاد والبطانيات والأغطية معتمدين على طريقة النسج على النول، التي لبت بدورها حاجات البقاع كله، مع حاجات بعض البلدان المجاورة.

وعن آلية التصنيع، تقول أم خالد: "من مواشي قريتنا كنا نأتي بالصوف ونمشطه بمشط خشبي ذي رؤوس حديدية نصنعه بأيدينا إلى أن يصبح خفيفًا ونظيفًا، نستخدم دولاب الغزل عقب ذلك لتحويل الصوف إلى خيط وهذا ما نسميه غزلًا، بعد ذلك نصبغه بألوان نختارها ثم نضعه على النول الخشبي الكبير لتبدأ عملية الحياكة".

حين تنظر إلى المعدّات التقليدية، التي تعمل بها الحاجة أم خالد، تدرك أن عمرها زهاء 100 سنة حتمًا، وعن ذلك تقول: "نقلت هذه المعدات من بيت أهلي الى بيت زوجي، وأشهد أنه لا توجد امرأة في الفاكهة إلا ومرت بنولي الذي أملك، أما وقد أكل على معدّاتي الدهر وشرب، فإني لم أعد أجد من يرغب في أعمال الحياكة ولا بأقل حال من يريد أن يتعلمها".

"تناقلنا هذه الحرفة من جيل لآخر، كبيرنا كان يعلم صغيرنا إلى أن يكبر الصغير ويعلم التالي، لكن مع دخول نظام الوظائف إلى الحياة تغيرت اهتمامات بناتنا ولم تعد إحداهن ترغب في تعلم الحياكة أو ممارستها".

وبأسف المرأة الوحيدة، التي تحتفظ بإرث الغزل، تقول: "أحزن جدًا لما آل إليه واقع هذه المهنة، فبعد أن وصلت سمعة سجاد بلدتنا إلى العالم كله، ووفد إلينا آلاف الناس من كل لبنان وخارجه، أصبحنا نترقب كل سنة بضع طلبات من المغتربين اللبنانيين وعلى الذين يهوون تزيين منازلهم بحرفيات أصيلة".

أما نهلة سكرية "مختارة (عمدة) الحياكة في البلدة"، حسب ما تعرف به بين السكان، فتقول إن العشرين عامًا الأخيرة لم تحمل الخير للحياكة، حتى أنه لم يبق أكثر من 3 حياكات بالقرية، بعد أن كانت تجلس مع 12 امرأة من قبل لإنجاز سجادة واحدة.

ولهذا، فإنها حاولت قبل فترة تنظيم دورة للشابات اليافعات لتعليمهن الحياكة، إلا أنها بعد الدورة لم تجد أيا منهن معها. وأضافت: "أحاول جاهدة أن أحفظ إرث جدتي رحمة سكرية، التي تعلمت الحياكة من امرأة تركية، وعلمتها لكل النساء في المنطقة، لكن لا يمكنني أن أكذب بشأن واقع الحرفة التي أضحت على حافة الاضمحلال".

وعزّت نفسها بأنها بلغت جَهدها في الحفاظ على إرث أجدادها ووفت الأمانة، وحاكت سجادًا "لو فرش في شوارع لبنان وحواريه لغطته شبرًا شبرًا"، حسب وصفها.

في حين تقول الحياكة التي توقفت عن تلبية الطلبات الخارجية واكتفت بصنع احتياجات منزلها، جورية مسلماني: "أجزم أنه لا يوجد سجاد بجودة الذي كنا ننجزه وإن كان سعره مرتفعًا نسبيًا، إلا أن ما نحيك يقي من البرد ولا يحترق بالنار كالسجاد الصناعي الموجود في الأسواق".

"كما أنه يُعمّر لـ300 عام، وبعضه إلى 500، منافسًا بذلك الأنواع العجمية الأصيلة"، حسب قولها.

يشار إلى أن السجاد في الفاكهة امتاز بصوفه الخالص ووبره الطويل، وهو ما جعل سعر السجادة متوسطة الحجم يصل إلى 3 آلاف دور أميركي، كما أن العمل بواحدة بطول 3 أمتار وعرض 4، يستغرق 6 أشهر من العمل تقريبًا.

لكن تآكل المهنة يرجع للمنافسة الأجنبية، التي اعتمدت على النايلون في صناعة السجاد وهو ما جعل سعرها زهيدًا جدًا مقابل المنتجات المحلية، التي تعتمد في الأساس على كلفة تصنيعية عالية بسبب الحاجة إلى أيدٍ عاملة كثيرة.

إلى جانب تحول الجيل الجديد إلى التعلم والتطلع إلى الوظائف في الدوائر الحكومية التي تعود بدخل مستقر.

التعليقات