عندما "يقدر" لك أن تكون بائع صحف

خمسة عقود مرّت من حياة المقدسي الستيني، ماجد دعنا (أبو نوح)، وهو يعمل موزّعًا للصحف، حتى كاد لون حبرها يمتزج بلون أصابع يديه.

عندما

خمسة عقود مرّت من حياة المقدسي الستيني، ماجد دعنا "أبو نوح"، وهو يعمل موزّعًا للصحف، حتى كاد لون حبرها يمتزج بلون أصابع يديه. 

فمنذ نعومة أظافره، ترك ماجد مدرسته، وألعاب طفولته، لينخرط مع والده في بيع الصحف، حتى باتت هذه المهنة "قدره"، كما قال. 

ومع الساعة الثانية من فجر كل يوم، تبدأ رحلة موزع الصحف على دراجته الهوائية الصغيرة، ليستلمها ويرتبها بحسب المناطق التي يذهب إليها، ثم ينطلق ليوزع الصحف على الزبائن والمتاجر والمحلات والمؤسسات. 

وكان أبو نوح يوزّع الصحف على مختلف المدن الفلسطينية، قبل بناء جدار الفصل العنصري حول مدينة القدس، والذي بدأ بناؤه عام 2002، وبعدها اقتصر عمله على القدس المحتلة.

فجدار الفصل العنصري هذا، يلتف حول القدس، جعلها مدينة معزولة، ويحدثنا أبو النوح "كان لي زبائن من رام الله وبيت لحم وأريحا، كانت فلسطين كتلة واحدة، لكن الاحتلال مزقنا وقسمنا، ما عدت قادرا على العمل هناك بسبب الحواجز الكثيرة والجدار والطرق الالتفافية التي تحتاج إلى وقت أطول من السابق".

"نعيش في القدس مثل السمك في البحر لا أستطيع ان أخرج منها" يقول دعنا الذي بين تجاعيد وجهه ترى تاريخ المدينة المقدسة.

رحلة دعنا المبكرة هذه قد تعرضه إلى الكثير من المخاطر، فلا يخلو الأمر من استفزازات المستوطنين وتحرشاتهم التي يتعرض لها. 

وتابع النوح "أنا رجل كبير في السن، وخروجي في ساعات متأخرة من الليل يجعلهم يتجمعون حولي ويحاولون أذيتي، فاستفزازاتهم مستمرة ودائمة، خاصة في البلدة القديمة، وكأنهم ينقضون على فريسة، لكن لا أستطيع التخلي عن عملي، ويبقى الأمان في يد الله". 

يقول دعنا إنه "من عمر العاشرة بدأت في هذه المهنة، تركت المدرسة والتحقت بالعمل مع والدي، تعلمت منه وانطلقت للعمل بحثًا عن لقمة العيش". 

حتى أيام البرد القارص، أو الحر الشديد، لم تثنِ موزع الجرائد عن عمله الذي "أدمنه"، فقد كان الحاج أبو نوح يوزع الجريدة متنقلًا بدراجته الهوائية، لمسافات بعيدة أو قريبة. 

ويمضي بالقول: "أيام الشتاء كنت أذهب إلى أريحا، لتوزيع الجرائد على السكان والمحال هناك، لم أكن أخشى من المطر على نفسي". 

وأردف ضاحكا "في يوم من أيام الشتاء كان المطر شديدًا، ما خشيت على نفسي بقدر خوفي على الجرائد، أخفيتها تحت معطفي، وأصبت بعدها بزكام شديد". 

داخل محل متواضع في شارع صلاح الدين، في قلب القدس، يستريح دعنا بعد عناء توزيع الجرائد في الصباح الباكر، يبيع ما تبقى لديه من صحف، ثم يعود إلى منزله ويجلس مع عائلته التي لا يراها إلا بعد الظهيرة. 

ويقول "كنت أتمنى أن أجلس يومًا على مائدة الإفطار بين أولادي السبعة، أو أن أقلهم بيدي إلى المدرسة، كبروا أولادي وأنا أخرج مبكرا للعمل، وأعود منهكا تَعِبًا أبحث عن الراحة والنوم". 

وأضاف "كل بداية عام أدفع من أجل هذا المحل الصغير مبلغ باهظ من أجل الضرائب التي يفرضها الاحتلال على محل والدي، لكن القدس هي بيتي وعائلتي ومهما ساءت الظروف تبقى القدس أجمل مدن العالم" .

ولم يكن توزيع الصحف مهنة للحاج ماجد دعنا وحسب، فقد جادت عليه صحفه بتعلم القراءة والكتابة، خلال سنوات عمله. 

وعن ذلك يقول إن "الحياة أكبر مدرسة، وقد تعلمت من الصحف القراءة والكتابة، فأثناء بيع الجرائد كنت أعرّج على الناس وأسألهم عن كيفية كتابة الأحرف ولفظها، وأسأل والدي وأتعلم منه، حتى أتقنت اللغة". 

ويضيف "استطعت أن أنمي قدرتي بالقراءة والكتابة، بقراءة جميع الصحف والمجلات التي كنت أبيعها". 

ومع مرور عقود طويلة على العمل، وملاحظته للفرق الشاسع بين الماضي والحاضر، حيث قلّ عدد الزبائن الراغبين بشراء الصحف، يقول "ليتها تعود أيام الزمن الماضي، كان المجتمع قارئًا، الجميع كان يشتري الجريدة وبتصفحها يوميًا". 

ويتابع "اليوم مجتمعنا لا يقرأ، الجميع يعتمدون على الهواتف الذكية والإنترنت، لكن على الرغم من ذلك ذلك لا يزال لدي زبائن إلا أن جميعهم كبار في السن". 

ومن كشكه الصغير يخبرنا أبو نوح أن الحياة بنظره "لا تبدأ إلّا هنا في هذا المكان المتواضع". 

ويقول إن "مهنتي هي قدري التي لا يمكن أن أتنصل منه، الناس يعرفوني أينما ذهبت، والكل يرحب بي بكل مدن فلسطين، منهم من يناديني بأبي نوح، ومن لا يعرف اسمي يلقبني أبو الجريدة". 

 

التعليقات