بائعو الورد: تجار السعادة البائسون على جسور مصر

ما إن ينتصف النهار في مصر حتى ينتشر بائعو الورد، وأفرع الفل، على جسور وشواطئ نهر النيل وسط القاهرة، يستقبلون العشاق والمتحابين الذين يقصدون النهر للتنزه، لا سيما "كوبري" قصر النيل المتاخم لميدان التحرير، ومستقر ثورة يناير.

بائعو الورد: تجار السعادة البائسون على جسور مصر

ما إن ينتصف النهار في مصر حتى ينتشر بائعو الورد، وأفرع الفل، على جسور وشواطئ نهر النيل وسط القاهرة، يستقبلون العشاق والمتحابين الذين يقصدون النهر للتنزه، لا سيما "كوبري" قصر النيل المتاخم لميدان التحرير، ومستقر ثورة يناير.

غير أن الباعة الذين قد يجلبون السعادة إلى قلوب المتنزهين، ربما يخفون خلف ابتساماتهم في وجوه الزبائن الكثير من قصص البؤس والشقاء.

على مدخل جسر قصر النيل الذي بني عام 1869 فترة حكم الخديوي إسماعيل (1863 / 1879) تقف السيدة فريال (اكتفت باسمها الأول) تداعب المارة بكلماتها المميزة والملحة، علّ أحدهم يرق لحال صاحبة الـ 57 عاما ويشترى منها بضاعتها.

المضطر يبيع الورد

تبيع فريال الورد على الجسر ذاته منذ نحو ربع قرن، وتحديدا منذ وفاة زوجها، وقتها وجدت نفسها بين عشية وضحاها المعيلة الوحيدة لطفلين، تقول المرأة المتشحة بالسواد.

اضطرت مفرمة الحياة وظروفها الصعبة الأرملة المريضة بالضغط والسكري، إلى العمل بتلك المهنة، إذ لا ترعاها الحكومة المصرية بعد وفاة زوجها سوى بمعاش من وزارة التضامن الاجتماعي يقدر بـ 460 جنيها (16 دولارا)، تؤكد أنها لا تكفي لشراء أدويتها.

وتقول الحكومة المصرية إنها رفعت قيمة المعاشات التي تصرف لقرابة 9.4 ملايين مستحق، وفق تصريحات سابقة لوزيرة التضامن المصرية غادة والي في حزيران/ يونيو الماضي، ووصل إجمالي الإنفاق على المعاشات 155 مليار جنيه سنويا، بعدما كانت 45 مليار جنيه قبل 6 سنوات.

في عقدها الخامس، ووفق ما ترويه، لا تزال "فريال" تتعرض لمضايقات يومية على الجسر الأشهر في مصر، من قبل مستهزئين أو نافرين منها أثناء بيعها للورود.

غير أن البعض ممن قد يرقون لحالها أو يريدون من الورود بهجتها، يشترون منها ما لا يتعدى وفق "فريال" عشرين زهرة يوميا، لا تحدد لها سعرا، بل تأخذ ما يجود به زبائنها من نقود، تقول إنها لا تتعدى 5 جنيهات لكل وردة (نحو 2 سنت).

لا تأمل السيدة التي رسم الزمان أخاديده على وجنتيها سوى أن تكف عن العمل بالمهنة الشاقة التي تكلفها إرهاق الوقوف على قدميها طوال اليوم، وتحلم فقط أن تستريح لما بقي من عمرها عبر تحديد معاش مناسب تغطي تكاليف علاجها الشهري، وما تحتاجه من مأكل ومشرب.

المشاركة في الشقاء

على الجانب الآخر من الجسر، تقف سيدة في العقد الثالث من العمر تدعى "أم عبد الله" (هكذا عرفت نفسها)، تداعب بكلماتها ركاب عربات "الحنطور" (عربة حديدية تجرها الخيل) عارضة ورودها للبيع في المنطقة المخصصة لها، حيث لا يمكن لبائع زهور آخر البيع فيها، فالجسر بحسب ما تقول مقسم لكل بائع وفي وقت معلوم.

تضيف السيدة التي قطعت حديثها لمخاطبة شاب جاء يشتري منها وردة، أن الجميع يفضل الورود ذات اللون الأحمر، كما أنها تبيع ورودا اصطناعية.

تعمل "أم عبد الله" على جسر قصر النيل بالقرب من دار الأوبرا المصرية منذ 4 سنوات، تساعد بما تجنيه من البيع زوجها الأربعيني "أيمن مسعود" الذي يبيع حبات "الترمس" ذات الطعم المميز على مقربة منها.

يخرج الزوج في الصباح من منزله بأحد الأحياء الشعبية بمحافظة الجيزة (غرب) قاصدا الجسر بحبات "الترمس"، لتلحق به زوجته بعد منتصف النهار، بعد أن تنجز مهامها المنزلية، وتمر على أحد متاجر الورود لشراء بضاعتها اليومية.

يجني الزوجان يوميا نحو مائة جنيه (حوالي 5 دولارات)، حصيلة ما يبيعانه، هي كل ما يعولان به طفليهما، ويجلبان به ما تيسر من الطعام والشراب.

الزوج "أيمن" أصيب قبل سنوات بحادث سير خلف له إعاقة أقعدته عن العمل، وفي ظل ضيق الحال، وشظف العيش، وعدم القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية، اضطرت الزوجة للانضمام إلى ركب العاملات في المنازل.

إلا أن "شقاء المهنة ومضايقات أصحاب البيوت، والتعرض للتحرش والاعتداءات الجنسية" حال بينها وبين الاستمرار بالعمل، فكانت الورود مخرجها الوحيد وسيلة لكسب الرزق، كما تقول.

مهنة الإلحاح

لبيع الورود تحتاج السيدة الثلاثينية إلى "الإلحاح" على المارة، ما يجعل المهنة التي تحمل من معاني الجمال أشبه بـ "التسول"، قالتها "أم عبد الله".

توضح "أغلب المارة لا يرغبون في شراء الورد، فهم عادة يحضرون هدايا من مكان آخر، لذلك أستخدم الإلحاح علّهم يشترون".

وللرجال نصيب

لا يقتصر بيع الورد فوق جسور النيل على النساء رغم أنهن يمثلن غالبية العاملين في المجال، فعلى الجهة المقابلة يقف "عوض صدّيق" على شاطئ النيل، مجتهدا في عرض وروده للمتنزهين.

يبتهج الرجل الأربعيني عندما يشتري منه أحد السياح وردا، لما يكسبه من رزق لبناته الثلاث اللاتي يطمحن أن يصبحن طبيبات، ويعوضنه عن كل ما لاقاه في مسالك الحياة الوعرة.

ويندرج باعة الورد في مصر ضمن الباعة الجائلين الذين يصل عددهم نحو 5 ملايين شخص، وفق صحفية الأهرام (حكومية مملوكة للدولة).

وتلاحقهم السلطات الأمنية وتتهمهم بإشغال الطريق أو التسول، وهو ما يعرضهم للغرامة أو الاحتجاز في بعض الأوقات، وفق رواية عدد من الباعة الجائلين للأناضول.

وارتفعت نسبة الفقر المدقع في مصر إلى 5.3 بالمائة من السكان عام 2015، بعد أن كانت 4.4 بالمائة في 2012 / 2013، الأمر الذي أرجعه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي) إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية.

ويعرف المركزي للتعبئة والإحصاء الفقر المدقع بأنه الوضع الذي لا يستطيع فيه الفرد أو الأسرة توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية.

التعليقات