بابور النّاصرة... طاحونة تبلغ من العمر مئة عام

يعتبر البابور أو الطاحونة في مدينة الناصرة، أحد أقدم المعالم التي يقصدها المئات أهل المدينة وسكّان القرى والبلدات العربية المجاورة، وإن تبدّلت غايات الزّيارة والزائرون؛ ففي الماضي كان معظم زواره من الفلاحين وتجار الحبوب.

بابور النّاصرة... طاحونة تبلغ من العمر مئة عام

الطّاحونة الّتي لم تتغيّر منذ مئة عام (عرب 48)

يعتبر البابور أو الطاحونة في مدينة الناصرة، أحد أقدم المعالم التي يقصدها المئات أهل المدينة وسكّان القرى والبلدات العربية المجاورة، وإن تبدّلت غايات الزّيارة والزائرون؛ ففي الماضي كان معظم زواره من الفلاحين وتجار الحبوب، فيما أصبح اليوم معظم زائريه من السائحين وطلاب المدارس الذين يتجوّلون في أرجاء البابور ويتعرفون على هذا المعلم القديم والمميز والذي ما زالت طواحينه تعمل منذ أكثر من مئة عام.

جرجورة قنازع (عرب48)

وتمتلك عائلة قنازع الطاحونة منذ سنوات طويلة، فالمدير العام لـ"مطحنة الجليل" (وهو الاسم الّذي يطلق على البابور اليوم)، جرجورة قنازع ، ورثها وشقيقه طوني عن والدهما إيليا، الّذي ورثها بدوره عن الجدّ جرجور، الّذي كان قد ابتاع البابور من مالكه الأول وهو رجل ألماني يدعى فاجنر، كان صاحب الفكرة وكان من أنشأ الطاحونة بمساعدة أفراد من عائلة البحطيطي في مدينة الناصرة، لتسمّى الطّاحونة آنذاك منسوبةً إليه "بابور الأعرج"، إذ كان فاجنر أعرج.

وزار موقع "عرب 48" مطحنة الجليل، أو البابور كما يسمّيها البعض حتّى الآن، ليرصد تاريخ هذا المعلم المميّز والقائم منذ نحو قرنٍ من الزّمان، حيث "ما زالت طاحونة القمح والجواريش موجودة وتعمل"، وفق ما قاله قنازع (56 عامًا)، الّذي أوضح أنّ "بعض التعديلات التقنية أدخلت إليها تدريجيا، فقبل مئة عام كانت الطاحونة تعمل بواسطة محرك بخاريّ، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى محرك الديزل الذي يعمل بواسطة الوقود، ثمّ بعد ذلك تحوّلت إلى الكهرباء".

المصدر الأول للمؤن

وكان الفلاحون في بداية القرن الماضي يقصدون الطاحونة في النّاصرة سيرًا على الأقدام أو ركوبًا على الدواب، حاملين أكياس القمح والبرغل والفريكة والزعتر، حيث كانوا يقطعون مسافات تصل إلى عشرات الكيلومترات في الحر الشديد وتحت المطر، من أجل الحصول على المؤن، سواء لطحن ما لديهم من حبوب أو لشرائها من الطاحونة. ويقول جرجورة قنازع "هذا العمل كله بركة، وكانت المؤن في البيوت تعتمد بالأساس على القمح، "لدرجة أن الفلاحين والبدو كانوا يطلقون على الطحان صفة "البرّاك"، وهي كلمة مشتقة من البركة، لأن هذا العمل يبعث على التفاؤل، بحسب قنازع، الّذي استرسل مستذكرًا "حين بدأت أعمل مع والدي إيليا، في الطاحونة قبل عشرات السنين، كان حين يشتري بضعة أطنان من القمح يشعر بأن السعادة بلغت ذروتها، وأن الخير موجود في الطاحونة".  

بين الطاحونة والبابور

أطلق النّاس منذ البدايات على الطاحونة اسم البابور، والّتي لا تزال حتى اليوم تحمله، على الرغم من أنها طاحونة وجاروشة، وعن ذلك يقول قنازع إن كلمة "بابور" كانت تطلق على كل ماكنة تعمل بواسطة البخار وهي كلمة مشتقة من الانجليزية "vapor" ومعناها بخاريّ، وبعض الناس ما زالوا يطلقون اسم بابور على الباخرة، وعلى القطار البخاري وعلى جرّار الذي كان يعمل بواسطة البخار وفي مقدمته "داخون" كلها أطلق عليها اسم بابور، وبما أنّ  الطاحونة كانت تعمل بواسطة محرك البخار وتصدر صوتًا عاليًا جدًّا أطلق عليها الناس اسم بابور الذي التصق بها حتى يومنا هذا.

الجواريش (عرب48)

صوت مدوٍّ

ويروي كبار السن ممّن يتذكرون الطاحونة حين كانت تعمل بواسطة محرك الديزل، أنّ المحرّك حين كان يدور كان يطلق صوتًا مدويًّا يصل إلى معظم أحياء المدينة، خاصّة أنه في تلك الفترة كانت طبيعة الحياة مختلفة وقليلة الضوضاء، إذ عدد المركبات والباصات محدودًا جدًّا ولم تكن هنالك صناعات، لذلك فقد كان صوت محرك الطاحونة يمزق الأجواء ويكسر الصمت. ويشرح قنازع عملية تدوير محرك الطاحونة قائلًا إنّها كانت مزودة بمكبس واحد "piston"، يعمل بواسطة "مناويل"، إذ يحرّكه عمال المطحنة بيديهم لجعل المحرك يعمل، وهذا المكبس كان يطلق صوتًا كصوت أزيز الرصاص، مضيفًا  أنّه هذا الصّوت كان بمثابة تنبيه لأهالي القرى المجاورة بعمل الطاحونة ليبدؤوا بالتوافد إليها.

مركز تواصل اجتماعي

وقد شكّلت الطاحونة خلال العقود الماضية مركزًا للتواصل الاجتماعي، فيقول قنازع لـ"عرب 48" إنّ الزّبائن "كانوا يصلون إلينا من قرى المرج والقرى المجاورة لمدينة الناصرة، وفي الطاحنة كان الملتقى الذي يجمع أبناء هذه البلدات جميعًا، وكان طحن القمح يستغرق أحيانًا ساعات طويلة، يجلس فيها الناس مع بعضهم البعض يتعارفون ويتعاونون في رفع الأحمال ونقلها على الحمير"، مضيفًا "كانت نواياهم طيبة يحبون الخير ويتراحمون فيما بينهم، وكثيرًا ما كان يتم التعارف من أجل الزواج بين أبناء البلدات المختلفة: فهذا رجل محترم لديه فتاة في سن الزواج، وذاك يبحث لابنه عن فتاة معدنها طيب".

طرائف ونوادر

تحدّث قنازع لـ"عرب 48" عن بعض الطّرائف والنّوادر الّتي حدثت في الطّاحونة الّتي كانت ملتقى اجتماعيًّا ومعلمًا أساسيًّا في المدينة، فقال إنّ إمام مسجد جاء من إحدى القرى قضاء جنين، ليسكن مع زوجته في الناصرة، وقد استأجر الإمام البيت المجاور تمامًا للطاحونة، في فترة كان محرك الديزل في الطاحونة يعمل على مدار الساعة باستثناء نهاية الأسبوع. وكان الإمام في الأسابيع الأولى يشكو من ضجيج الطاحونة، لكن أحدًا لم يستمع إلى شكواه بسبب ضرورة عمل الطّاحونة، فمنها يعتاش أهل المدينة والمنطقة؛ ومع مضي الوقت اعتاد الإمام صوت الطاحونة، وأصبح ينام قرير العين الى أن حدث عطل في محرك الطاحونة وتوقفت لبضعة أيام عن العمل، فلم يتذوّق الإمام طعم النوم لعدّة أيّام دون ضجيج الطاحونة الذي كان يؤنسه في الليل".

داخل الطاحونة (عرب 48)

الرّد والمقايضة

وعن سؤال موقع "عرب 48" حول ما إذا كان في الطاحونة بيع وشراء، أم اقتصر عملها على الطّحن والجرش، أجاب قنازع قائلًا إنّ "في البداية كان البابور طاحونة فقط، إلّا أنّ بعض الفلاحين كانوا لا يملكون "الفكاك"، أي أجرة الطحن، فكانوا يدفعون "الرّد" وهو جزء من البضاعة يدفع كأجرة مقابل الطحن، ويحسب بالصّاع، ويعود لأصحاب الطاحونة، كما هو الحال في بعض معاصر الزّيت اليوم؛ كما كان هناك بعض الزّبائن ممّن دفعوا أجرة الطحن بالمقايضة، فحصلوا على القمح مقابل الأجبان أو الألبان، أو مقابل دجاجة أو بيض، أو حتى صوف الأغنام، وهكذا فقد أصبح في الطاحونة فائض من المواد التموينية فخصّصنا الطاحونة عقدًا واحدًا من المبنى المؤلف من أربعة عقود لبيع المؤن إلى جانب كونها مطحنة".

معلم تراثيّ

يسعى قنازع إلى إدخال زيارة الطاحونة في الناصرة إلى منهاج التعليم للطّلّاب العرب، معتبرًا أنّه معلم تراثيّ يثري العلاقة بين الطلّاب وتاريخ شعبهم، فأوضح قائلًا: "تأتي الينا مجموعات طلابية لكنّنا نهمل بحقهم ولا نوفّر لهم الوقت الكافي أو الشرح الوافي بسبب ضيق الوقت وانشغالنا بالعمل في المطحنة، لكننا نسعى لأن تخصص وزارة التّعليم ميزانية خاصة للتعرف على التراث من خلال زيارات منتظمة إلى البابور".

التعليقات