الغوص الحرّ في بحر غزة: الطبيعة التي سلمت من القصف والحصار

على بعد أمتار من الحافة الغربية لواحدة من أفقر مدن العالم وأكثرها بؤسًا، على شاطئ مدينة غزة المحاصرة منذ 13 عاما، يلتقي النّاظر بنفسه في انعكاسه على مياه زرقاء يكشف نقاؤها ما تخفيه أعماقها من شعاب مرجانية وصخور تنتنفض حياة بأسماك تخفيها بين ثناياها.

الغوص الحرّ في بحر غزة: الطبيعة التي سلمت من القصف والحصار

فتيان يغطسون في البحر بغزة (أ ب أ)

على بعد أمتار من الحافة الغربية لواحدة من أفقر مدن العالم وأكثرها بؤسًا، على شاطئ مدينة غزة المحاصرة منذ 13 عاما، يلتقي النّاظر بنفسه في انعكاسه على مياه زرقاء يكشف نقاؤها ما تخفيه أعماقها من شعاب مرجانية وصخور تنتنفض حياة بأسماك تخفيها بين ثناياها.

ولم يكن سكان غزة يعلمون الكثير عن هذه المشاهد البحرية قبل أن يبدأ بعض الشبان بممارسة رياضة "الغوص الحر" والصيد بـ"الهاربون" (مسدس مخصص لصيد الأسماك)، ويلتقطوا خلال رحلاتهم الخريفية صورا حية للطبيعة البحرية الغزية.

بداية الرحلة

الرحلة إلى أعماق الطبيعة الغزية، التي باتت تلقى إقبالا من الشبان الفلسطينيين، الذين لا يجدوا ما يفعلوه في ظل ندرة فرص العمل، تتطلب الاستيقاظ قبل الشروق والتوجه إلى الشاطئ للاستمتاع بجمال زرقة مياه البحر النقية الهادئة في مثل هذا الوقت من العام، كما يقول هاوي الغوص الحر، أدهم الشريف.

شبان قرب البحر بُعيد شروق الشمس (أ ب أ)

ويطلق من يعرفون أوقات البحر على هذا الوقت من العام اسم "أيام التشارين"، وهي فترة تمتد من 27 أيلول/ سبتمبر من كل سنة وتنتهي في 5 تشرين/ نوفمبر الثاني، ويكون خلالها البحر نقيا وهادئا.

وبعد احتساء فنجان من القهوة الساخنة يبدأ الغواص الثلاثيني بتجهيز مسدس الصيد وارتداء ملابسه الخاصة وهي قناع زجاجي سميك، وقصبة تسمى "سنوركل" تتيح له التنفس قريبا من سطح الماء، وبدلة غوص داكنة تحمل لون الصخر البني والأسود تخفيه عن عيون الأسماك، إضافة لحزام ثقيل مصنوع من سبائك الرصاص يمنع جسده النحيل من الطفو ويساعده على الثبات تحت مياه البحر.

ويثبت الشريف، وهو يعمل صحفي في إحدى الصحف المحلية، كاميرا خاصة على مقدمة مسدس الصيد لتسجل رحلته ومشاهد الطبيعة البحرية الخلابة التي ينشر بعضها على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي.

وقبل أن يدخل إلى الماء يربط الشاب الثلاثيني، كرة مطاطية ذات لون مميز بحبل رفيع وطويل يثبته في مسدسه. ووظيفة الكرة الملونة تحديد موقع الغواص والابتعاد عنه، ففي حادث وقع قبل أيام أصابت شفرات محرك قارب سريع أحد الغواصين بجروح عميقة في يده وظهره، بسبب عدم استخدامه لهذه الكرة.

وعلى بعد 10 أمتار تزيد أو تنقص قليلا يبدأ الشريف أولى غطساته ليستطلع طبيعة المنطقة وصخورها وأماكن تجمع الأسماك وإن كان هناك شباك للصيادين في المكان حتى يبتعد عنها ولا يعلق بها.

ثمّ يخرج هاوي الغوص الحر من المياه الضحلة ويستأنف رحلته، بالسباحة على السطح لمئات الأمتار في عرض البحر حتى يصل لهدفه وهو منطقة مياهها نقية هادئة يزيد عمقها عن 10 أمتار وتنتشر فيها صخور عملاقة تكسوها الطحالب الملونة.

"سبر نوايا البحر"

وفور وصوله إلى تلك المنطقة يتأكد الشريف مرة أخرى من خلوها من شباك الصيادين، قبل أن يأخذ نفسًا عميقًا يملأ صدره بالأوكسجين النّقي قبل أن يعيد تثبيت قناع الوجه جيّدًا وينثني بسرعة ليهبط بشكل عمودي إلى أسفل ويبدأ حينها رحلة الغوص إلى القاع مستعينا بزعانف بلاستيكية مرنة يرتديها في قدميه.

الصحفي والغواص أدهم الشريف (فيسبوك)

وما أن يصل إلى قاع البحر ينتقل الشريف في دقيقة ونصف وهي مدة كل غطسة، إلى عالم آخر بعيدا عن ضوضاء المدينة وهمومها وأزماتها التي لا تنتهي، فهناك لا يرى إلا الجمال الصامت.

في العمق هناك تنتشر الشعاب المرجانية، وإن كانت قليلة، بين الصخور المكسوة بطحالب تحمل ألوانا لا توجد في غابات الإسمنت الغزّيّة، وأسراب الأسماك متنوعة الجمال والأحجام تسبح آمنة بين ثنايا الصخور دون أن يعكّر صفوها أصوات الغارات أو الطائرات الحربية الإسرائيلية.

ولكن مسدّس الصيد هو من سيعكر صفو الأسماك، فبين أسرابها كانت تسبح سمكة "حداد" كبيرة رأى فيها الغواص الشريف فريسة جيدة، فاختفى بين مجموعة من الصخور قبل أن يصوب مسدسه نحوها ويلاحقها ببطء قبل أن يطلق سهمه المعدني الرفيع ليخترقها بسرعة ويسقط نحو العمق.

ومع إطلاق السهم تفرقت الأسماك واختفت بين الصخور هربا من سهم آخر، ليغوص "الشريف" ويحصل على صيده الأول بنجاح، خلال دقيقة واحدة فقط، صعد بعدها الصياد إلى السطح ليلتقط أنفاسه ويعيد الأوكسجين إلى رئتيه كي لا يكون معرضا لخطر إصابته بحالة إغماء نتيجة عدم وصول الأوكسجين إلى الدماغ.

طبيعة بحرية ساحرة

وبعد سلسلة غطسات في نفس المنطقة ينتقل الشاب الغزي إلى نقطة أخرى ليستطلع بيئتها البحرية ولعله يجد أعدادا أكبر من الأسماك.

وفي نقطة تبعد عن سابقتها نحو كيلو متر وصل إليها الشريف بعد أن اصطاد سمكة متوسطة الحجم وأخرى كبيرة تعرف محليا باسم الحداد، كان المشهد مختلفا ففي الأعماق تراصت الصخور على شكل حلقات عملاقة وتوزعت بينها شعاب مرجانية صغيرة وطحالب خضراء تشبه الأشجار، وبين كل ذلك يسبح سرب من أسماك البوري الفضية وإلى جواره مجموعة من أسماك اللوكس.

صوب الصياد الغزي مسدسه نحوها بدقة قبل أن يطلق سهمه ليلتقط سمكة لوكس كانت أفضل ما اصطاده منذ فترة طويلة، وبعد أن وجدت السمكة الحمراء مكانا لها إلى جوار الحداد وشقيقتها، عاد الشريف إلى السطح مسرعا فهذه المرة أمضى نحو دقيقة ونصف ويحتاج بسرعة إلى التنفس.

في المساء بعد العودة من العمل يتفقد الصحفي الفلسطيني ما التقطته كاميراته خلال رحلة الغوص ويختار بعض مقاطع الفيديو والصور وينشرها عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ويتفاجأ متابعو الشريف من جمال الصور ومقاطع الفيديو التي ينشرها فمعظم سكان غزة لا يعرفون شيئا عن بيئتهم البحرية فهم لم يجربوا الغوص من قبل بسبب غياب الأندية التي تهتم بهذه الرياضة، إضافة إلى ارتفاع أسعار المعدات اللازمة لهذه الرحلات، بسبب منع إسرائيل توريدها للقطاع.

ويقول الشريف إنّ "أسعار معدات الغوص والمسدس ذات الجودة المنخفضة تزيد عن 1000 شيكل (300 دولار)، وهذا المبلغ كبير بالنسبة لمعظم الشبان في غزة لذلك يعتمد الكثير من هواة الغوص على استعارة المعدات بدلا من شرائها".

ويجد بعض الشبان من هذه الرياضة إضافة إلى الاستمتاع بجمال الطبيعة البحرية، مصدر رزق لهم فهم يبيعون ما يصطادونه من أسماك يوميا لتحقق لهم دخلا ماديا جيدا يتراوح ما بين 35-70 شيكلا (10-20 دولار).

ويفرض الاحتلال الإسرائيلي منذ نحو 13 عاما حصارا مشددا على غزة، ما أدى إلى زيادة كبيرة في نسب الفقر والبطالة في القطاع المكتظ بالسكان. ونهاية الشهر الماضي، قالت اللجنة الشعبية لرفع الحصار عن غزة، في بيان لها، إن 85% من سكان القطاع يعيشون تحت خط الفقر بسبب الحصار الإسرائيلي. وذكرت اللجنة أن معدل دخل الفرد اليومي 2 دولار كحد أقصى، و65% معدل البطالة بين فئة الشباب.

التعليقات