16/06/2020 - 23:52

إعادة تصور العمل المكتبي

لقد كان من المفترض أن يتم إعلان وفاة المكتب منذ زمن طويل علما أنه في ستينيات القرن الماضي توقع عالم المستقبليات الأميركي، ميلفن ويبر، أن يصل العالم إلى "عصر ما بعد المدينة" والذي يمكن فيه أن ينتقل المرء إلى قمة

إعادة تصور العمل المكتبي

توضيحية (Pixabay)

لقد أعلن الرئيس التنفيذي لـ"تويتر"، جاك دورسي، خلال الشهر الماضي عن أن الشركة سوف تسمح لموظفيها والذين يعملون حاليا من المنزل طبقا لبروتوكولات التباعد الاجتماعي بالبقاء هناك بشكل دائم.

لقد حذت عدة شركات كبرى أخرى؛ مثل "فيسبوك" والشركة الفرنسية لتصنيع المركبات "بي س أ" حذو "تويتر" وذلك بعمل خطط لإبقاء أعداد أكبر بكثير من الموظفين في المنازل بعد انتهاء أزمة كوفيد-19. إذا هل يكون المكتب ضحية أخرى للجائحة؟

لقد كان من المفترض أن يتم إعلان وفاة المكتب منذ زمن طويل علما أنه في ستينيات القرن الماضي توقع عالم المستقبليات الأميركي، ميلفن ويبر، أن يصل العالم إلى "عصر ما بعد المدينة" والذي يمكن فيه أن ينتقل المرء إلى قمة جبل ما مع الاحتفاظ بتواصل وثيق وواقعي وبدون تأخير مع الشركة أو الزملاء الآخرين".

خلال طفرة الإنترنت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، جعل صعود الشركات القائمة على الإنترنت ذلك المستقبل يبدو أقرب من أي وقت مضى وكما ذكر الصحافي البريطاني فرانسيس كايرنكروس سنة 1997 فإن الإنترنت قد أدى "لموت المسافات" وعندما لم تعد المسافة تشكل أهمية فإنه طبقا لمنطق الأمور تصبح المكاتب وبالتبعية المدن بدون أهمية تذكر.

قد يبدو أننا قد وصلنا بالفعل لهذه النقطة فمن مذيعي الأخبار إلى موظفي المكاتب فإن الوظائف التي كنا نعتقد أنها تحتاج إلى مكان عمل مشترك يتم أداءها خلال الجائحة من المنزل ولكن أي شخص استخدم تطبيق "زووم" من أجل عمل اتصال جماعي يعلم أنه على الرغم من التقدم في تقنيات الاتصالات فإن التواصل مع الزملاء عن بعد عادة ما يكون أصعب بكثير مقارنة بالالتقاء بهم وجه لوجه.

"زووم" (أ ب)

إن المشكلة أعمق من الفواصل الزمنية أو مقاطعة الأطفال وكما جادل عالم الاجتماع مارك جرانوفيتر سنة 1973 فإن المجتمعات العاملة لا تقوم على أساس "العلاقات القوية" (العلاقات الوثيقة) فحسب، بل أيضًا على أساس "العلاقات الضعيفة " (المعارف الذين يتم التعرف عليهم بشكل عرضي) وبينما تشكل العلاقات الوثيقة شبكات علاقات كثيفة ومتشابكة. أصدقائنا المقربين هم عادة أصدقاء مقربين مع بعضهم البعض، فإن العلاقات الضعيفة تربطنا بمجموعة أكبر وأكثر تنوعا من الناس.

إن الربط بين دوائر اجتماعية مختلفة يعني أن هناك احتمالية أكبر أن العلاقات الضعيفة سوف تربطنا بأفكار وتصورات جديدة وتتحدى مفاهيمنا المسبقة بالإضافة إلى تعزيز الابتكار وانتشاره وبينما قد يساعدنا تجاذب أطراف الحديث عبر الفيديو أو وسائل التواصل الاجتماعي في المحافظة على علاقاتنا القوية، فإنه من غير المرجح أن يؤدي لعلاقات جديدة ناهيك عن ربطنا بالعديد من الناس خارج دوائرنا الاجتماعية: موظفو المقهى، الركاب الآخرين في القطار، زملاء لا نعمل معهم بشكل مباشر وهكذا دواليك.

يبدو أن تحليل البيانات من طلاب وأساتذة وموظفي الإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا خلال الجائحة يثبت هذا المفهوم فلقد قمت أنا وزملائي بعمل نموذجين لنفس شبكة الاتصالات، أحدهما يظهر التفاعلات قبل إغلاق الحرم الجامعي والآخر يظهر التفاعلات خلال الإغلاق.

إن النتائج الأولية والتي لا تزال تحتاج إلى المزيد من التحقق ومراجعة النظراء توحي بإن التفاعلات تتناقص حيث يتبادل الناس المزيد من الرسائل ضمن مجموعة أصغر من الأشخاص الذين يعرفون بعضهم البعض أي باختصار فإن العلاقات القوية الموجودة بالفعل تتعمق بينما تتداعى العلاقات الضعيفة.

ربما في المستقبل سيكون من الممكن تقليد عملية التعارف بالصدفة التي عادة ما تتم على أرض الواقع وتشكيل علاقات ضعيفة على الإنترنت ولكن حاليا يبدو أن المنصات عبر الإنترنت غير مجهزة من أجل عمل ذلك بل على العكس فإن تلك المنصات عادة ما تقوم وبشكل نشط بعمل تصفية تتعلق بالأشخاص غير المعروفين أو الأفكار المتعارضة وهي مهمة كانت تشعل استقطاب سياسي حتى قبل الجائحة ونتيجة لذلك أصبحت الفقاعات الاجتماعية التي يفرضها الإغلاق غير شفافة وغامضة بشكل متزايد.

توضيحية (Pixabay)

يبدو أن المساحات المشتركة على أرض الواقع هي الترياق الوحيد لعلاج لهذا التفكك. أن المكاتب والتي تعمل على تسهيل التفاعلات الأعمق بين المعارف المتنوعين يمكن أن تكون أداة تصحيحية قوية.

لكن من غير المرجح أن يرجع الطلب على المساحات المشتركة إلى مستويات ما قبل الجائحة. إن شركات مثل "تويتر" والتي لم تشهد انخفاضا في الإنتاجية ستكون متحمسة لخفض التكاليف غير المباشرة. أما بالنسبة للموظفين فلقد كان من المتوقع انهم سيعتادون بسرعة على العيش بدون التنقلات الطويلة من وإلى العمل والجداول الزمنية الصارمة للشركات بالإضافة إلى ملابس العمل غير المريحة.

إن هذا سيكون له أبعاد طويلة المدى فحتى انخفاض بنسبة 10% في الطلب على المكاتب يمكن أن يؤدي لانخفاض شديد في قيمة العقارات ولكن بينما ذلك سيشكل خبرا سيئا للمطورين والمصممين والوكلاء العقاريين، إلا أنه سيخفف الضغوط الاقتصادية المرتبطة بالتحسين الحضري الذي يهدف إلى جعل منطقة ما بمواصفات محددة.

على أي حال فإن النصيحة الموجهة للشركات هي عدم التخلي عن مفهوم المكاتب برمته وذلك لأسباب تتعلق بتلك الشركات نفسها. الأفكار الجديدة والمبتكرة والتعاونية ضرورية للنجاح، وبرفاهية وازدهار المجتمعات التي تعمل فيها تلك المكاتب وعوضا عن ذلك فإن بإمكان تلك الشركات السماح للموظفين بالبقاء بالمنازل بشكل أكبر مع اتخاذ خطوات للتحقق من أن الوقت الذي يمضيه الناس بالفعل في المكاتب سيؤدي لتأسيس علاقات ضعيفة.

توضيحية (Pixabay)

قد يؤدي هذا على سبيل المثال إلى تحول في مخططات المكاتب التقليدية المصممة من أجل تسهيل أداء المهام بشكل منفرد لتصبح أماكن أكثر انفتاحًا وديناميكية مع تشجيع ما يطلق عليه تأثير الكافتيريا. (لا يوجد مكان أسهل لتأسيس علاقات ضعيفة من وقت تناول طعام الغداء في الكافتيريا).

من الممكن أن يتبع ذلك عمليات إعادة تصميم أكثر راديكالية حيث يجد المصممون طرقا لتساعد الناس في التعارف عن طريق الصدفة على سبيل المثال من خلال مساحات يتم تصميمها بشكل متخصص لعمل الفعاليات.

لقد أظهرت أزمة كوفيد-19 أنه يوجد لدينا الأدوات للمحافظة على تواصلنا مع الآخرين سواء من قمة الجبل أو من طاولة المطبخ ولكن التحدي اليوم هو كيفية الاستفادة من المكاتب عندما نريد أن ننزل من قممنا المنعزلة وهذا يعني السعي إلى ولادة جديدة للمكتب بشكل يعزز من أهم شيء يميز المكاتب وهو القدرة على رعاية جميع الروابط التي تربط الناس معا.


الكاتب: كارلو راتي هو أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حيث يدير مختبر "سينسيبل سيتي" وهو مؤسس مشارك لمكتب التصميم العالمي "سي ر أ"- كارلو راتي أسوسياتي، وهو أيضا رئيس مشارك لمجلس المستقبل العالمي للمنتدى الاقتصادي العالمي المعني بالمدن. وتنشر المادة بالتعاون مع موقع "بروجيكت سنديكيت".

التعليقات