رياض الأنيس الراحل الباقي: تأبين القائد الوطني

رياض الصديق ورفيق الدرب، والأخ الساكن في شغاف القلب، رياض الأنيس بسمة الأمل والتحدي، الابن البار والصرح الوطني الشامخ

رياض الأنيس الراحل الباقي: تأبين القائد الوطني
"لله درك رياض تمزج نسيما بعاصفة، لله درك تصول مجلجلا في ردهات المحاكم، قر عينا رياض حيث انت، فباقات النرجس والخزامى تنعف طيبا ولطفا، ورفاق دربك على العهد يجلونك رجلا ووقفة". بهذه الكلمات افتتحت مراسم تأبين القائد الوطني، المرحوم، المحامي رياض الأنيس، ابن مدينة أم الفحم الذي غيبه المرض وهو في أوج عطائه.

المئات من جميع أنحاء البلاد توافدوا بعد عصر اليوم الجمعة إلى مسقط رأسه في أم الفحم واحتضنتهم قاعة الهندسة التابعة للبلدية، شخصيات وطنية وأكاديمية واجتماعية ومندوبون عن مختلف التيارات والحركات السياسية، قيادات التجمع الوطني النواب جمال زحالقة، سعيد نفاع وحنين زعبي، الحركة الإسلامية الجناح الشمالي ورئيسها الشيخ رائد صلاح، أدارة بلدية ام الفحم ورئيسها الشيخ خالد حمدان، الجبهة الديمقراطية ممثلة بالنائب عفو اغبارية، وفد حركة أبناء البلد، وفود عن مختلف الجمعيات الناشطة في المجتمع العربي، رجال قانون وحقوق ومحامون، أسرى محررون ومندوبون عن ذوي الشهداء، قدموا للمشاركة في التأبين الذي تولى عرافته المحامي حسين أبو حسين، وافتتح بآيات من الذكر الحكيم للمقرئ الشاب، حسام محاجنة.

كان المرحوم محاميا لامعا ملتزما ومخلصا، وكان له دورا بارز في أسماع صوت أهالي الشهداء في انتفاضة الأقصى أمام لجنة "أور" وفي الدفاع عن الدكتور عزمي بشارة وعن رهائن الأقصى والأحزاب العربية اثر محاولة إلغاء شرعيتها.

مراسم التأبين شملت العديد من الكلمات لكل من روان رياض الانيس، وكلمة مصورة ومسجلة للدكتور عزمي بشارة، وكلمة للمحامي حسين أبو حسين، كما وتحدث واصل طه رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، وكانت كلمة للنائب الدكتور عفو اغبارية، وأخرى للشيخ خالد حمدان رئيس بلدية أم الفحم، والمحامي سليم وكيم، الدكتور محمود يزبك رئيس الإدارة في مركز عدالة، والأب الدكتور فوزي خوري، والكلمة الأخيرة كان للدكتور محمود عباسي خال الفقيد وحماه.

وتحدث الجميع في كلماتهم، عن رياض الإنسان، الأب الغالي، القيادي، المحامي المتميز، ورياض الصديق ورفيق الدرب، والأخ الساكن في شغاف القلب، عن رياض الأنيس بسمة الأمل والتحدي، الابن البار والصرح الوطني الشامخ.

وشملت مراسم التأبين عرض فيديو مصور من أعداد التجمع الوطني الديمقراطي. الفيلم استعرض مسيرة المحامي الأنيس، في أروقة المحاكم دفاعا عن الأسرى والأقلية العربية متحديا تلك القوانين العنصرية، وصورا عائلية جسدت رياض الأب والأنيس الجد، صورا جسدت إنسانيته، وابتسامته وتفاؤله وحبه لعائلته وشعبه ووطنه.

انتسب رياض للتجمع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه حيث شغل منصب عضوية في اللجنة المركزية للحزب والمحرر المسؤول لصحيفة فصل المقال، وتم انتخابه مرشحا للكنيست في القائمة للانتخابات الأخيرة. إضافة لذلك لرياض نشاط في العمل الأهلي، حيث كان عضوا مؤسسا في المؤسسة العربية لحقوق الإنسان وجمعية الهدف وعدالة وترأس جمعية الأهالي. تزوج رياض عام 1978 من نرجس وتولد لهما أربعة أولاد، ميس الريم، عمار، مرام روان، وهو جد لثلاثة أحفاد رام احمد ورياض الأنيس.

روان: أبي الغالي

"أبي الغالي الذي علمني كيف أكون بلغة العيون" ، تحدثت عنه ابنته روان قائلة:" لكل موعد نهاية، ولا بد لكل زائر الرحيل، كيف لا وكلنا زائرون في هذه البسيطة، ولكن هناك الزائر الذي لن نعتاد أبدا على غيابه، أنت هو يا أبي. رحيلك عني إلى مسارح الملا الأعلى، أصعب مصاب قد يمر به ابن ادم... من الصعب أن أتحدث عنك يا أبي بكلمات مستخدمة صيغة الماضي في حديثي لأصفك، أو أن أتحدث عنك، إذ أن هنالك العديد من الجوانب المشرقة التي يجهلونها عنك... يجهلون رياضنا شريك الحياة المثالي والأب العطوف والجد الحنون".


العناق الأخير عند الباب


وفي رثاء رياض قال الدكتور عزمي بشارة:" كان رياض الدمث اللطيف المعشر في علاقاته اليومية، ولكنه كان أيضا حزبيا صارما إلى درجة لا يعرفها الناس عنه رغم سعة علاقاته الاجتماعية. فقد كان يمتلك شعور وقناعة رسختهما التجربة، وثبتهما العقل، وكان يشارك بهما أعضاء الحزب في المؤتمرات علنا.... كان رياض اجتماعيا متسامحا متجنبا للصراع الشخصي، ولكنه لم يتردد في الدفاع عن الموقف دون تسويات، بيت رياض هو البيت الأخير الذي زرته في البلاد في طريقي من القدس إلى الحدود، فقد مررت عنده في أم الفحم للتشاور معه.... في حالة رياض كان علي أن أمارس الحزن وحيدا هنا. أمعنت برياض أكثر، بذلك العناق الأخير عند الباب، لكي ألقن نفسي أسبابا جديدة في عدم الصفح لمن حولنا إلى لاجئين في بلدنا، ولمن يحول الوطن إلى منفى. على هذا التقيت مع رياض كل هذه العقود، وعلى قيم إنسانية كثيرة، لا تنظروا من حولكم، انظروا فيكم تجدوها. وعلى هذا نفترق مؤقتا".

أيها الساكن في شعاف القلب
أيها الساكن في شغاف القلب تحدث عنه رفيق دربه المحامي حسين أبو حسين:" كل رحيل مفاجئ مألوف وقاهر، لكن هذا الرحيل، وهذا الموت مختلفان، سيما أذا كان بطل هذا الرحيل ساكنا في مهجة الفؤاد وجزءا من كياني وواقعي اليومي. افتقدك يا رياض كما لم افتقد أحدا من قبل. سأنتظرك حتى أذا عز المكان، سأزور ضريحك وتزور خيالي وتلهب فكري في مشاهد كثيرة عشناها معا... منذ شاع نبأ مرضك، كنت تعرف ما لا تحب أن نعرف عن سفرك القريب إلى عامل الشهادة، لكنك كنت، حتى اللحظة الأخيرة، عاكفا على العمل والحياة كأنك تعيش أبدا. لم تتكلم عن الموت، بل تكلمت عن بيت عمار وزواج أبنائك ومستقبل شعبك".

الراية الراية، كي تصل المسيرة
وتحدث واصل طه رئيس التجمع الوطني الديمقراطي بالقول:" كان على يقين أن المسيرة لم تنته بعد، فالمشوار طويل، مسكون بالشوق والأمل... قبل مغادرته قال "حان وقت السفر..."، وشد على يدي مكررا:" الراية الراية، كي تصل المسيرة إلى المحطة وترفع رايتنا فوق سور أو قبة، جبل أو شجرة". تلاقت نظراتنا وكل واحد قد أحس انه اللقاء الأخير... نعم يا رياض ودعك الوطنيون بعيون متوترة فيها الحزن، ويملؤها أمل الشهداء والمناضلين الذين تؤضأوا بنار عشق فلسطين عطاء وتضحية، وأهات السجناء والأسرى في أقبية القهر والتعذيب... آهاتهم قد اخترقت الأفاق عبر ارض الروحة كي تودعك، علها تستنشق رائحة الحرية والانعتاق...".

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر وصفه المحامي سليم وكيم قائلا:"... سنفتقدك محاميا بارعا ومرافعا لامعا شهد له الخصم قبل الصديق بالمهنية والجرأة في طرح المواقف بالتصدي للظلم في كل المحافل وبما أتيح من وسائل، أو لم تكن يا أبا عمار إضافة نوعية لكل طاقم دفاع، أشعرنا نحن المحامين قبل المتهمين وأهليهم بالطمأنينة وقوة الموقف... لم تكن يا أبا عمار محط رحالنا كلما شعرنا بالضيق والكرب فكانت زيارة إلى دار العم رياض والخالة نرجس كفيلة بان تفرج الكرب وتزيل الهم، كيف لا وأنت الجليس الأنيس والمضيف ذو الظل الخفيف الذي ما فارقت الابتسامة محياه ولا محيا مجالسيه، فكان لقاء لبضع ساعات معك والعائلة كافيا لتبديل الأحوال وإزالة الهم عن النفوس".


الشيخ خالد حمدان رئيس بلدية أم الفحم قال في كلمته:"شاءت حكمة الله أن أتعرف على الأخ أبي عمار من خلال قضية شرف غالية، عاشتها أم الفحم، وعاشتها جماهيرنا الفلسطينية في الداخل والخارج، وعاشها الأحرار والأخيار من شعوبنا العربية والإسلامية... أنها قضية رهائن الأقصى، وجدنا فيه نعم المحامي ونعم المناصر. كنا نلمس فيه انه لا يعيشها مهنيا فحسب، أنما عاشها بلحمه ودمه، وفكره وعاطفته، فتارة ينظر إلى البعد القانوني، وتارة أخرى إلى البعد السياسي، وتارة ثالثة إلى البعد الجماهيري... كنت أتمنى أن أقف هذا الموقف وأنا أكرم الأخ رياض، أبا عمار في غير هذه المناسبة، ولكن شاءت حكمة الله تعالى أن يفارقنا وان نجتمع على تأبينه في هذا اليوم، فنذكر ونتذكر مناقبه ومحاسنه".

بسمة الأمل والتحدي
وتحدث عنه الدكتور محمود يزبك ، رياض الأنيس بسمة الأمل والتحدي:" لقد كان رياض الأنيس ممن ساهموا بإزاحة الحزن جانبا، وتنظيم الصفوف ورصها لخوض معركة جديدة ومحاولة جادة لتحقيق الحق، وعدم الموت في الحزن والأسى. كنت أتوجه إلى رياض في أحلك الظروف وفي كل الأوقات باسم ذوي الشهداء ليرشدنا. كان، رحمه الله، ولعلمه بعدم معرفتنا بالأمور القانونية يشرح بروية واستفاضة حتى يطمئن إلى وضوح الأمور وزوال الالتباس".

أكثر من معنى
وقال الأب الدكتور فوزي خوري:" لقد خدم رياض شعبه، هذا الشعب الذي ينتظر الشمس وراء القتام، وسار مسارا متكاملا فدافع عن الأسرى وعائلات الشهداء... أن الاحتفاء بذكراك اليوم له أكثر من معنى، ففيما نحن نكرمك أيها العربي الأصيل الذي عرف دائما أن يرتقي إلى مستوى الإنسانية، نرى أقزم السياسة يغو صون في وحل الفاشية التي غرق فيه عبر التاريخ كل من تناسى كرامة الإنسان، فكم وكم سنحتاج إلى عقلك وعزمك المميز، إلى كفاءاتك ومراوغتك للقوانين الظالمة، افهمنا ألان كيف أمثالك يموتون؟".

واصل العطاء دون كلل
وقال النائب الدكتور عفو اغبارية :" رغم إدراكه التام لطبيعة مرضه، وانه تماما كما محمود درويش قد امتلأ بكل أسباب الغياب، إلا انه واصل العطاء دون كلل، فليس صدفة أن يرتبط اسم رياض بالعمل الوطني. أيام قليلة قبل رحيله كان يدافع عن شبابنا ضحايا الهجمة اليمينية الفاشية على بلدنا، هذا البلد الذي عاش رياض قصة حب لأرضه وناسه، أحب الناس فأحبوه، أحب الأرض فأحبته إلى درجة الاحتضان. جمعتنا خدمة أهلنا وشعبنا، جمعنا حب الوطن الذي يصعب على غزاته فهم جدليته... عرفت رياضا شابا طموحا، لا تلين له قناة، وعرفت به أيضا صلابة الموقف وشجاعة الرأي، فقد جمع بشكل مثير للإعجاب بين مواقفه السياسية وعمله الوطني الدءوب وصداقاته الشخصية التي تميزت بالمسؤولية والتواضع الشديدين. فما تخلف يوما عن تقديم تضحية أو عمل أو إسداء رأي أو نصيحة، فكان سندا وعونا لكل ذي حاجة، ولكل من أحاق به ظلم ولكل منكوب".

راسخ في وجداننا
وقال الدكتور محمود عباسي خال الفقيد وحماه:" أنت حاضر معنا، راسخ في وجداننا، عبر زخم عطائك ووفائك وحبك الجارف لامتك وشعبك ومنافحتك العارمة المتوقدة، عن الدار والديار وأهل الديار.. أنت عاشق الأرض والوطن... أنت العين الساهرة والحارس القضائي الأمين لقادة مجتمعك والسياسيين والمناضلين والمعتقلين... الحق أقول لك يا رياض انك كنت في سلوكك وتصرفاتك وتعاملك مع الأهل ومع رفاقك ومع كل الناس أنسانا من النوع الطيب الأصيل،ثابتا على مواقفك، نزيها محبا، مهيبا في وسامتك ورزانتك، وفيا كل الوفاء والإخلاص لذويك، لأصدقائك وزملائك في المواقف الوطنية، مرحا، بشوشا، ودودا،عطوفا، ومتواضعا. كنت المثل الأعلى لزوجتك وأولادك في رقتك وإنسانيتك وعرفت كيف تتعامل معهم بالحسنى والثقة فساروا على نهجك وأخلاقك فقرت عيناك بهم...".

ستبقى روحك بيننا

وقال المحامي وسام قحاوش: مساء الخير يا أبو عمّار، هكذا كنت أخاطبه وهكذا سأستمر في مخطابته لأنني لم استوعب بعد الواقع الجديد وأرفض الحقيقة المؤلمة وهي أننا ملتئمون لنتحدث عن أبو عمار بدون أبو عمار.
الروح تأبى الخضوع للعقل. إنه المساء الأربعون الذي أبحث فيه عن أعين أبو عمار لأقول له مساء الخير.. كيف حالك اليوم؟
إنه المساء الأربعون الذي أشعر فيه بالم الفراق، أقف على شرفة بيتي المطلة على بيت رياض علـّني أراه يطل فنتهاتف لنحتسي القهوة ونتبادل أطراف الحديث الذي لا ينضب أبدا معه. لكنه لم يعد يـُطل بمحيّاه الذي يبعث روحـًا معنوية لكل محبيه، فأنصرف إلى شؤوني وذكراه لا تفارقني.
أبو عمّار، فحماويّ الجذور، فلسطينيّ الهوية، وطنيّ الانتماء، تقدمي الروح ، ومنذ انخراطه في ريعان شبابه في الحركة الوطنية وفي الأطر التي تمثلها كان انتماؤه وتفاعله مع أهل بلده دون استثناء قوياً ، كان إبن الجماهير ولم يتقوقع في دوائر مغلقة ، فتجده بين الناس، في الأفراح والأتراح والمقاهي يشاركهم آمالهم وآلامهم، يمازحهم ويمازحونه ويشعرون بألفة كبيرة معه لما يتمتع فيه من جمال الروح وخفة الظل والدم وروح الفكاهة. لقد كان أهلا للثقة وصديقا وفيّا في أحلك الظروف ومحاميّا رأى الناس فيه سندا قويًا وأمينـًا. لقد دافع عن البسطاء والرموز سيّان سيّان.
أينما وليت وجهي أرى بصماتك، أينما ذهبت أرى شيئا يذكرني بك ، حتى بوظة البسيفلوره التي اعتدنا عليها لانها الوحيدة التي كنت تشعر بمذاقها وأنت على فراش المرض تذكرني بك.
أما أنا فلن أكلها بعدك.
رحمك الله يا أبوعمّار و"اللي بخلـّف بموتش"، سأبقى صديقا وفيـًا لعائلتك وستبقى روحك بيننا نحدثك ونمازحك ونشاركك هموممنا وهموم شعبنا.


....................................

التعليقات