عائلة البكري: «ننتظر ليلة يبزغ الفجر فيها باكرًا، ليخرج فيها الحبيبان ابراهيم وياسين طليقين، ينعمان بالحرية... عندها ستعود ابتسامتنا إلى محيّانا»

عائلة البكري: «ننتظر ليلة يبزغ الفجر فيها باكرًا، ليخرج فيها الحبيبان ابراهيم وياسين طليقين، ينعمان بالحرية... عندها ستعود ابتسامتنا إلى محيّانا»
كانت ليلة الثامن من آب في العام 2002 نقطة تحول في حياة محمد وملكة بكري، إذ خلّف هذا التاريخ المشؤوم أوجاعا ومعاناة تمتد تفاصيلها إلى اليوم.

والدان يعشقان تراب هذا الوطن، ويعشقان فيه عيون أبنائهما، حيث كل الأولاد هم „مهجة القلب” في عيون الأهل، وهم يشعرون بذلك، بل أكثر من ذلك، عندما يغيب أحد أفراد الأسرة في غياهب السجون، ولا تقوى الأجساد على احتضان فلذة من روحها وكبدها، انتزعت عنوةً.

قصة الزوجان بكري تحوي فصولا كثيرة ما زالت أحداثها مستمرة ما دامَ العصفور سجينًا والمفتاحُ مفقودا.

كانت البداية في أوائل صيف 2002 عندما طوقت قواتٍ كبيرة من الشرطة معززة بما يزيد عن عشرين حافلة، بيت البكري في قرية البعنة، حيث قرع الباب، بعنفٍ، ما أدى إلى حالة ذعر وفوضى. وخرج الشاب ابراهيم البكري، ابنُ الواحد والعشرين عامًا، ففتح الباب للقوات المقتحمة التي قام أفرادها بعصب عينيه وعيني أبيه واقتيدا إلى مركز شرطة كرميئيل، ليتبين لهما هناك ان ياسين ابن عم ابراهيم، اقتيد هو الآخر الى المعتقل.

هناك، توجه ضابط المركز في كرميئيل إلى ابو ابراهيم وطلب إليه الاطلاع على تفاصيل ما جرى بين ابنه ابراهيم وبين مجاهد حمادي (منفذ عملية الباص الذي أقلّ الطلبة المتوجهين إلى احد المعاهد الدراسية في صفد- والذي قتل فيه تسعة اشخاص بينهم حمادي)... ولمّا لم يجد أية معلومات في جعبته ليقصها على المحقق، تم نقله الى سجن الجلمة، حيث مورست ضده وعلى مدى شهر، محاولات ضغط حثيثة لاستنطاقه بما ظنّوا لديه من معلومات.

وقد أكد لهم ابو ابراهيم عدم سماعه عن أيةِ عملية، اللهم إلا عملية الليزر التي يحتاجها لتحسين نظره، فاتُهم بالجنون...

التقى الوالد وابنه في السجن، بعد شهرٍ كامل قضياه في التحقيق. ظلّ ابراهيم صامتًا خلال اللقاء لا ينطق، ثم غابَ عنه، ليلتقي الوالد ابن أخيه ياسين الذي قال له: „صار اللي صار يا عمي”. فشعرَ ابو ابراهيم لحظتها بوجعٍ في القلب لم يعرفه من قبل.. وقال للمحقق: „هذا الشاب الذي قام بالعملية، عاش بيننا ثماني سنوات، وابن عمه متزوج من ابنة عمي، لقد عمل في الكهرباء مع اخوتي، ولم يظهر منه أي تصرف سيء، نعم لقد استضفناه في بيتنا، لكننا لم نعرف شيئًا عما يخططه”.

وكي لا نطيل، أصدرت المحكمة الإسرائيلية أحكامًا قاسية على الوالدين أبو ابراهيم وام ابراهيم بالسجن الفعلي لعام والسجن المنزلي لأربع سنوات، وعلى ابراهيم وابن عمه ياسين بالمؤبد تسع مرات و30 سنة أخرى.

يقول ابو ابراهيم في حديث مع "فصل المقال" أجريناه هذا الأسبوع: „لأول مرة في حياتي أقاد الى السجون، لم اكن اعلم انّني في الرابعة والخمسين من عمري، سأكون سجينًا أمنيًا أنا وابني وزوجتي”.

تركتُ ابا ابراهيم يسرد التفاصيل دون أن أقاطعه: „كان الشاب صديق ابني ويبيت في الطابق العلوي، حيثُ ينام ابراهيم، وكنا نقدم لضيفنا الواجب كعاداتنا وتقاليدنا المألوفة.

حوكمنا ظلمًا، لأنّ الإعلام الإسرائيلي ضخّم القضية وكتبت صحفهم „عائلة القَتَلة، قتلة أيضًا”...

حدثني ابو ابراهيم عن تجربته المريرة في السجن فقال: „في العام 2006 جيء بي الى سجن كيشون-الرملة، وبادرني مأمور السجن بسؤال ايُ سجنٍ ستختاره، اعتقدتُ في البداية ان في سؤاله شيئا من الانسانية، لكنني لما قلتُ له اتمنى لو حولتني الى سجن سلمون او حرمون في الجليل، أجابني بامتعاض „قَتلة ولديكم طلبات؟” عندها قلت له ارسلني حيثُ ما تشاء... فاختار سجن عتليت”.

وتابع: „قادتني رجلا مأمور السجن الى (العنبر الرابع) في سجن عتليت، حيثُ يعيثُ متعاطو المخدرات في المكانِ فسادًا، وبعد ايام قيل لي اطلب من السجان ان يجري لي فحصًا طبيًا يظهر نظافة جسمي من المخدرات لأتحول الى عنبرٍ آخر، وهذا ما حصل، طلبتُ تحويلي الى الفحص الطبي، فرد عليّ السجان بشكلٍ قاطع لا استطيع ان انقلك الى قسم آخر ولن اسمح لك بالعمل داخل مصنع السجن بادعاء أنني أشكل خطرًا على أمن الجمهور.

"وأخيرًا التجأتُ الى ممارسة الرياضة في السجن، فتحمس المدمنون لتقليدي الأمر الذي ازعج المأمور، فحولني الى العنبر الثالث وليتني لم انتقل الى هناك، فلقد تعرفت على منافقين واصحاب سوابق ورجال همهم الأول والأخير إيذاء الأخرين. وانتهت مدة محكوميتي بالسجن سنة كاملة رفض خلالها الاستئناف بشأن تخفيف مدة الحكم واقتطاع الثلث الأخير... ثم افرج عني، فذهبت وزوجتي الى مركز الشرطة القريب كي تقضي ام ابراهيم مدة محكوميتها، كما اتفقنا مع محامينا افيغدور”.

ملكة بكري: انتزعوني من عائلتي

وقالت ملكة بكري ام ابراهيم عن تجربتها الفريدة كأسيرة أمنية في السجون : „عشتُ بين نارين – نار السجن وعذاباته ونار انتزاعي من أبنائي في قمة احتياجهم إليّ.... كان ابني علي في السابعة عشرة من عمره، فتوقف عن التعليم ولم يتقدم لامتحانات البجروت، وكذلك الحال بشأن حسين، الأصغر منه. والمأساة الكبيرة ان في حضني طفلا في الخامسة من عمره، تركته يتألم لبعدي عنه....

"نقلوني الى سجن اللد – الرملة وبعد ستة اشهر خرجت في أول عطلة للقاء عائلتي... وعدتُ الى السجن لخمسة أشهر أخرى".

"بيد أنّ تجربتي لم تكن سهلة أبدًا، ضاعَ وقتي في استرجاع تفاصيل حياتي ومعاناتي وعلاقاتي الجديدة مع صاحبات السوابق في السجن، وأخيرًا التجأتُ الى العمل في الخياطة."

"شعرتُ مع بعض السجينات وتضامنت معهن فكما يقول المثل „ياما في السجن مظاليم”...

وتتابع ام ابراهيم: „الحقيقة ان قلب السجين لا يفرح.. كنتُ أتألم عندما يأتي أبنائي لزيارتي ويقف زوجي بعيدًا عن المكان، لأنه سجينٌ سابق... باختصار لقد حطموا اعصابنا، وبفضلهم أصبحتُ أول سجينة أمنية في قرية البعنة”.

ابراهيم وياسين بكري زينة الشباب

يأخذ الوالد نفسًا عميقًا ويلومني لأنني فتحتُ الجرح النازف من جديد، بينما تنفتح قريحة الوالدة ام ابراهيم فتقول: „عوقبنا ودمرت احلامنا وحياتنا، لم تدخل الفرحة بيتنا منذ سنين، صحيح أنّه في عملية صفد سقط قتلى، لكننا نقتل كل ثانية، وعندما أذهب الى زيارة ابني افكر كيف سيكون، مرتاحًا، متألمًا، جائعًا... ويبدو لي ان بيتنا مصابٌ بالوجع المزمن، يكفيني سجني، ودموعي التي ذرفت عليّ وعلى ابراهيم، ماذا انسى؟! هل انسى دمعة جاري، ابنائي، شقيقتي، ابنتي؟.. نحن الذين سكنا في بيتنا منذ ثلاثين عامًا، لم نؤذِ نملة، ولم نعتد على جارٍ او قريب او بعيد... أما ابراهيم فهو زينة الشباب ويحلف الجميع بحياته وحياة ابن عمه ياسين...”

وتتابع: „عندما التقي ابراهيم، يحثني على الصبر قائلاً: الله يصبرك يا امي، فيما هو صابرٌ محتسب الى ما شاء الله، رغم معرفته انه لن يخرج الا اذا حصلت معجزة،

لستُ ككل الأمهات اللواتي ينتظرن فرحة ابنائهن، كنتُ سابقًا لا اشارك الناس افراحهم ولا اتراحهم، لكي لا ابكي، لكنني وجدتُ في الناس عزاءًا لي، وما زلتُ أبكي ليس لما تراه عيناي إنما لِما يشعر به قلبي من أسىً على فراق ابراهيم”...

هدأت أوجاع ابو ابراهيم قليلاً فراح يحدثني عن مأساة السجناء الأمنيين، فقال: „كُنا قبل سنوات ندخل الى ابننا ما يشاء من المأكولات التي نصنعها في البيوت من زيتٍ وارز وبرغل وزيتون، لكن منذ ان خطف الجندي غلعاد شاليط، ازدادت شدة الخناق على تحركات السجناء وأهاليهم، فمنعنا من اصطحاب الاقرباء من الدرجة الثانية، ومنعنا من ادخال الملابس، فصرنا نضع في „الكانتينا” (تزويد السجناء بالاحتياجات)، مبلغا يصل الى 1500 شيكل شهريًا. وحرمنا من احتضان ابننا أو ملامسته، لنستكفي بلقائه عبر الزجاج، وحتى الكتب التي تثقف وتساعد السجين يقوم السجانون بالتدقيق فيها... ملأوا السجون بالبشر، فهل يمكن أن نصدق ان في اسرائيل الديمقراطية يعيشُ 11 الف سجين لا أحد يسأل عن ظروفهم المعيشية؟!! ورغم غياهب السجن وظلمته إلا أنني أنتظر ليلةً يبزغ الفجر فيها باكرًا، ليخرج فيها الحبيبان ابراهيم وياسين طليقين، ينعمان بالحرية... عندها ستعود ابتسامتنا الى محيّانا”.

وختم بكري بالحديث عن علاقة العائلة بالشهيد الأردني مجاهد حمادي، قال: „عاش معنا ثماني سنوات، كان من جيل ابني، وهو شقيق زوجة ابن عمي، فساد علاقتنا الاحترام والأخلاق النبيلة، حقيقةً لم نكن نعرف ما في داخله، فلا احد يعرف ما يدور في فكر الانسان غير رب العباد...”.

التعليقات