المزارعون العرب وخانة الحاضر غائب في الملفات الحكومية - هل من مخرج؟

-

المزارعون العرب وخانة الحاضر غائب في الملفات الحكومية - هل من مخرج؟
الضالعون المطلعون على تاريخ الزراعة العربية يشهدون على مسلسل مريع عاشه ويعيشه المزارعون العرب في البلاد. فالمزارع العربي، في ظل حكومات اسرائيل المتعاقبة، يتعرض لغبن وتمييز منهجيين في توزيع عوامل الإنتاج الأساسية: الأرض والمياه وتوزيع حصص الإنتاج والدعم المادي. يضاف الى ذلك كله اقصاء المزارع العربي عن المشاركة في المركز الزراعي وبعد ذلك في "اتحاد مزارعي اسرائيل" لتجاهل دوره وتهميشه بحيث لايكون شريكا حقيقيا في صنع القرار في قضايا القطاع الزراعي. الإعلام الإسرائيلي يتجند كعادته لخدمة الأجندة القومية اليهودية الصرفة من خلال ممارسة التعتيم الإعلامي على المزارعين العرب.

وبالرغم مما جرى ويجري من ممارسات هي اقرب الى المؤامرة لتصفية الزراعة العربية وتيئيس للمزارع العربي الا ان الواقع يشهد نشاطات زراعية نشطة بعضها مجد اقتصاديا وبعضها الآخر يغطي المجهود المبذول بصعوبة.

جمعية الأهالي - نشأت لتسد الفراغ ابتداء بتنظيم المزارعين في اطار موحد، نقابة تمثلهم، لتكون المفتاح للدخول الى اتحاد مزارعي اسرائيل ومواصلة الضغط والمطالبة بحقوق المزارعين ولغاية تمثيلهم على كافة المستويات المحلية والعالمية.

"الأهالي"، بطاقم خبرائها الزراعيين المهني يتعاطى مع مشاكل الزراعة العربية من منطلق حب الأرض والغيرة عليها ويحاولون تغطية كافة المجالات المتعلقة بالزراعة وباتوا عنوان المزارع الفلسطيني لما توفره الأهالي من نصائح ودعم طالما افتقدها من الجهات الرسمية.

عندما خططت للكتابة عن الزراعة واستشراف مناطق قوتها وضعفها، كان بديهيا ان اتوجه الى الأهالي، وتحديدا مركّز مشروع المزارعين العرب فيها، المهندس وديع غزاوي، في مقره في باقة الغربية. غزاوي اساسا رجل ميدان، يتفقده يوميا ويندر ان تجده جالسا على كرسي. سألته عن الزراعة في قرانا، ورغم الأجوبة الحاضرة في جعبته الا انه اقترح ان نذهب في جولة الى بلدتي التوت والورد الشهيرتين الطيرة وقلنسوة. هناك التقينا المهندس احمد متاني ليضيف ما في سلته من خبرة وحكايات.


الطيرة، هي ابلغ نموذج شاهد على انحسار اللون الأخضر فيها لصالح العمران. الحاجة الى السكن ازاء انعدام الحلول من الدولة غلبت اسباب المعيشة واصبحت العمارات السكنية تنبت عوضا عن البندورة والخيار والحامض والتين. الطيرة قصتها حزينة يسردها بألم الخبراء الزراعيون ابناء المنطقة الذين قابلتهم للتعرف عن كثب على وضع الزراعة العربية في بلادنا التي ما عادت بلادنا.

يقول احمد: لا تملك الطيرة اليوم من مجدها الأحمر إلا مائتي دونم توت بينما امتد في السابق على مساحة لا تقل عن 1000 دونم. ومثلها في قلنسوة، بينما استأثر الوسط اليهودي بـ 2500 دونم موزعة بين عدة تعاونيات زراعية هي: كاديما، ايفن يهودا، تسوفيت، جان حاييم وبورات، كلها في منطقة الشارون المعروفة بتربتها الرملية الملائمة لزراعة التوت. وتبقى الأرقام غير نهائية وضبابية الى حد كبير نظرا لتخوف وامتناع المزارعين العرب من التصريح بالعدد الفعلي للدونمات التي يملكونها ويزرعونها فعليا.

بدأت زراعة التوت في الطيرة وقلنسوة في منتصف الستينيات تنفيذا لمشروع ينخرط ضمن خطط التنمية لتغيير الزراعة التقليدية القائمة على الخيار والبندورة.

في عام 1970 تم ادخال الماء الى الأراضي وقبل ذلك كان الإعتماد على الآبار وكانت معظم الأراضي بورا باستثناء تلك الساحلية، وتم احداث قفزة نوعية فاستصلحت الأراضي بحيث ارتفع عدد الدونمات المزروعة من 300 الى 700 دونم في الطيرة وحدها.

في الثمانينيات طرح الورد وتحديدا القرنفل كصاحب اولوية وفرض نفسه على حساب زراعة التوت. خصوصا ان شروط ومواصفات تصدير التوت ارهقت المزارعين في حينه، ففضلوا السوق المحلي الذي يدر ارباحا اكبر دون خسارة خلافا للتصدير. تعززت زراعة القرنفل الذي اكتسح 1200 دونم في قلنسوة وحدها ما يعادل اكثر من 80% مما انتجته اسرائيل في تلك الفترة، فاشتهرت قلنسوة بزراعة الورد واستمر الحال الى ان انتزعت غزة الدفة وتبوأت مركزا حيويا في زراعة الورود وتصديرها.

في عام 1991 عاد الفلاحون الى زراعة التوت، الطيرة كانت الرائدة في المجال ومعظم انتاجها وجد طريقه الى التصدير. لكن الطيرة اليوم تحولت الى مزارع دور. واصبحت جمعية المياه التي تأسست في اواخر الستينيات من اجل تأمين المياه للزراعة، جمعية لمياه الشرب.

اما الضربة القاصمة التي تلقتها الطيرة جاءت من جانب المشروع المعزز ببركة الحكومة "شارع 6" الذي قضى على اي امل نحو توسعها من جهة الشرق، وتكفلت بإتمام المهمة القرى والمدن اليهودية المجاورة مثل كفار سابا ورمات هكوفيش.

قلنسوة تعاني كذلك من مشكلة مشابهة الا ان خط المشروع القطري للمياه لعب دورا ايجابيا باتجاه تثبيت الأرض الزراعية التي تقع غربه من منطلق عدم السماح بالبناء غربي الخط.

لكن قلنسوة سائرة باتجاه نفاذ الأراضي المعدة للبناء الأمر الذي سيؤدي الى التهام الأراضي الزراعية لا محالة. لتجد قلنسوة نفسها تواجه نفس مصير شقيقتها، فهي ايضا محاطة بالمستوطنات والقرى والتعاونيات الزراعية التابعة لدائرة اراضي اسرائيل التي تنفذ احد القوانين العنصرية القاضي بعدم السماح بتأجير هذه الأراضي لمزارعين عرب خشية ان يكسبوا حقوق ملكية فيها.


يبلغ انتاج التوت الإجمالي في البلاد 20.000 طن ينتج منها الوسط العربي (الطيرة وقلنسوة) 7000 طن.

3000 طن يتم فرزها بمواصفات عالمية صارمة تضمن جودة المنتوج وسلامة البيئة وتجد طريقها الى الأسواق العالمية، حصة قلنسوة من التصدير المبكر لا تقل عن 50% وهي تتجاوز بذلك الوسط اليهودي متفوقة عليه، ويبدأ التصدير المبكر من تشرين الثاني ويستمر لغاية كانون الثاني حيث تدخل دول اخرى سوق المنافسة على رأسها مصر. 2000 طن يتم استخدامها للتصنيع سواء المربى او منتجات الحليب، اما الباقي فيسوق طازجا.

مصطفى الناطور مدير مشروع المزارعين العرب في جمعية الأهالي، رافق الزراعة العربية المحلية منذ عام 1956 ، احب الزراعة كونه ابن عائلة مزارعة، وبدأ مشواره المهني مع وزارة الزراعة التي وعدت اكثر ما نفذت لدفع الزراعة في الوسط العربي وسهل البطوف هو قرن قايين على جبين هذه الوزارات على تعاقبها. زرته في مقره، في جمعية الأهالي، ودار هذا الحديث:


تبلغ مساحة سهل البطوف 40.000 دونم. توزعت ملكيته قبل قيام الدولة بين مزارعي صفورية وكفرمندا وسخنين وعرابة والعزير والبعينة وقسم قليل لعيلبون.

حصة اهل صفورية المهجرة، انتقلت ليد كيبوتس "هسولليم" و"يوطفات" وتتراوح مساحتها بين 12 الى 14 الف دونم.الأمر الذي يعني بقاء 25000 دونم بأيدي المزارعين العرب، تقع بضمنها 12.000 دونم ارض غرق، اي انها مغمورة بالمياه لعدم وجود نظام صرف مناسب. وتبقى مغمورة حتى اواسط الصيف، مما يعيق امكانية زراعة المحاصيل الشتوية مثل القمح والحمص والشعير. وتتعاقب سنوات الغمر هذه كل سنتين.

سهل البطوف كان في السابق من اشهر المناطق المنتجة لأجود اصناف البطيخ والشمام. لكن افتقادها للمناعة ضد الأمراض المختلفة وخصوصا الفوزاريوم جعل المزارعين يمتنعون عن زراعتها وتحديدا الصنف المعروف بجودته " الملالي". لكنهم عادوا مؤخرا الى زرع البطيخ بمساحات أقل عن ذي قبل، لإنتاج البذور تحديدا، فالفرص غير المتكافئة بين الطرفين جعلت امكانية المنافسة غير واردة خصوصا ان زراعة الري مركزة بيد الكيبوتسات.

«هنالك حاجة ماسة لإقامة نظام صرف للمياه في منطقة الغرق، مع امكانية تجميع المياه في مجمعات ليتسنى استعمالها عند الحاجة.

وزارة الزراعة تباحثت في الموضوع منذ عام 1964 من منطلق الحاجة الى تنفيذ خطة تضمن الحل. الا انه في الواقع يتم تمريره من جلسة لأخرى ومن لجنة للجنة ومن سنة الى سنة، الى يومنا هذا.

اما احدث ما استجد من معارضة صدر قبل ثلاثة اشهر من جانب وزارة البيئة التي عللت موقفها بقلقها من التعرض لهجرة الطيور التي تحط في المنطقة اذا ما تم تجفيف المياه كأنها تقول ان الطيور اهم شأنا من البشر.

ويتابع الأستاذ الناطور حديثه "قبل ثلاث سنوات اجتمعنا بوزير الزراعة في حينه يسرائيل كاتس وهذا ابلغنا ان وزارة الداخلية تعارض الموضوع خشية ان يهرع اهل سخنين وعرابة للبناء في السهل حال تجفيفه. على ضوء الأحداث قامت «الأهالي» بتنظيم جمعيتين تعاونيتين لتفعيل جسم ضاغط والعمل على تجنيد المزارعين لدعم المشروع. ونأمل ان يعاد النظر في الموضوع وان يبدأ التنفيذ خلال سنة او سنتين. الملفت هو ان مشاريع الصرف التي قامت في اسرائيل لم تواجه عراقيل مثلما واجه هذا المشروع، والسبب واضح".


تساوي الثروة الحيوانية في اسرائيل 45% من الدخل العام الناتج من الزراعة. وتعتبر هذه الفروع الأكثر استقرارا اقتصاديا إلا ان العرب محرومون منها، فوزارة الزراعة تبتدع المبررات والمسوغات لعدم اصدار الرخص المطلوبة. بينما تعتبر تربية المواشي والأغنام تحديدا في المثلث والشمال حاضرة بقوة اذ تشير الإحصائيات التي بحوزتنا ان مجموعها في الشمال يصل الى 110.000 رأس بين غنم وماعز للحوم والحليب.

وفي النقب الذي يعاني من نقص في المراعي باطراد مستمر نتيجة مصادرة الأراضي والتضييقات والملاحقات على اختلافها يقدر عدد رؤوس الغنم بـ-140.000.

شركة "تنوفا" بصفتها شركة التسويق الرئيسية هي المكلفة بتسويق حليب الأغنام، وهي تتعذر لعدم تسويق الحليب ومنتجاته القادمة من الوسط العربي بالخشية من ان تؤدي زيادة انتاج الحليب الى انخفاض سعره. وهكذا تبقى قنوات تسويق حليب الأغنام مسدودة بوجه المزارعين ومربي الأغنام العرب.

ان موضوع تجزئة الأراضي بالوراثة بات احد المنغصات التي تقلق بال جميع من يعمل في الزراعة. بل بات من الضروري ان يولي اصحاب الأراضي هذا الموضوع الأهمية اللازمة للتصدي لتفتيت الأرض وتجزئتها ما يفقدها قيمتها الزراعية والعقارية على حد سواء، دون ان يتعارض ذلك مع مبدأ الميراث. خصوصا اننا كمجتمع ريفي نحب الأرض وندرك تماما اهمية المقولة « الأرض لمن يفلحها».

هذا من جهة، ومن جهة اخرى تتعارض مصلحة المزارع صاحب الدونمين مع مبادىء التسويق الحديثة التي تشترط على المنتج ان يكون قادرا على انتاج كميات كبيرة متوفرة طيلة ايام السنة، الأمر الذي يقف حجر عثرة امام تسويق زيت الزيتون بشكل خاص نظرا لأن المزارعين العرب يملكون في الغالب مساحات محدودة وصغيرة من الدونمات، وبالتالي يتم اعتبارهم محدودي الإنتاج فيخرجون من سوق المنافسة.

وفي الوقت الذي يملك المزارع العربي من خمسة الى عشرة دونمات زيتون، زراعة بعلية، يملك المزارع اليهودي تحت مسميات عديدة، منها كيبوتس او موشاف، 500 دونم او اكثر وحدة واحدة. ما يضاعف الصعوبات امام تسويق زيت الزيتون المحلي وتصبح المنافسة في الأسواق مهمة صعبة بل مستحيلة امام هذه التحديات خصوصا إذا ما اضفنا موضوع التعامل التقليدي مع الزيتون، كل هذه الأمور مجتمعة قد تؤدي الى وضع في غاية الخطورة والمأساوية. مع العلم ان افضل واكبر المعاصر موجودة عند العرب وتحديدا في قرية اكسال، وان كروم الزيتون تمتد على 180.000 دونم في اراضي المثلث والجليل التابعة للمواطنين العرب.

في بعض الحالات يضطر المزارع العربي الى هجر دفيئات اقيمت برؤوس اموال كبيرة،( يتراوح سعر دونم الدفيئة بين 20-25 الف شيكل) ، لعجزه عن منافسة المزارعين اصحاب المزارع الكبيرة. ومن هنا تماما يبدأ خطر تسرب وبيع الأراضي وتفكك العلاقة بيننا وبين الأرض كمصدر عيش وكانتماء مع الإشارة الى ان القيمة الوطنية تفوق القيمة الإقتصادية.

برغم ذلك كله لا تزال هنالك مجموعة غير قليلة تعتبر الأرض بمثابة القاعدة التي تربطها بالوطن، وتعشق العمل في الزراعة وان كان ضمن مساحات محدودة وتراهم يسعون الى ضمان الأرض المجاورة لهم والتي لا يجد اصحابها الوقت لرعايتها.

هل بتنا مجتمعا مدنيا يترفع عن العمل الزراعي؟

الى حد كبير نعم. بوسعنا ان نأخذ طمرة كمثال. طمرة بدأت بإنتاج الخيار للتصنيع سنة 1964/1965 ، في تلك الأيام كنت تشاهد كل افراد العائلة مجتمعة في الحقل وندر ان تشاهد بينهم عاملا مستأجرا واحدا. بينما اليوم ومنذ سنوات تعمل عائلات فلسطينية تأتي من مناطق السلطة، بقطف الخيار في سهول طمرة. لكنني احذر من التعميم، ففي الواقع انا اعرف شخصيا مراقبي حسابات واطباء ومحامين يتفرغون للعمل في ارضهم وبأياديهم.

دعينا نعرف اولا ما هو المجتمع المدني. كل مواطن عربي موجود في البلاد هو عنصر في المجتمع المدني. لكن توجد بداخل المجتمع مجموعات، المهمة بينها هي الجمعيات الأهلية ولدينا والحمد لله عدد لا بأس به.

جمعية الأهالي على سبيل المثال اختارت قطاعات محددة من منطلق تفسيرها للتنمية الجماهيرية. من الضروري، بالدرجة الأولى، تمكين المجتمع من تحديد احتياجاته على اختلافها، وتزويده بالأدوات من منطلق المحافظة على حقوقه. هذا التفكير ترجم الى ارض الواقع عبر تشجير النقب وعبر مشروع تمكين المرأة الريفية وعبر تنظيم المزارعين كذلك.

واطرح جمعية " الجليل" كمثل اضافي لعمل مدني فاعل. تدير جمعية "الجليل" مركز ابحاث يتمحور في ايجاد بوادر ومصالح اقتصادية مبنية على خلفية علمية. وقد يكون الـ"ميسم" اكثر ما يهمنا كمزارعين، فمختبرات الميسم تهتم بالطب العربي وتعكف على انتاج ادوية من الأعشاب الطبية. هذا هو نوع من المحافظة على الأرض برأيي. رسالة الجمعيات الأهلية يجب ان تسير باتجاه تعزيز تمسك الإنسان العربي بالأرض والعمل على تطويرها كفعالية ذات جدوى اقتصادية".

قطاع الزراعة يتنفس بسواعد الكثيرين ممن لم يفقدوا الأمل الذين واصلوا الدرب وحفظوا الميراث بل وطوروا انفسهم وفق المستجدات. الا ان هذا لا يكفي لنقول ان الزراعة العربية في بلادنا بخير.

المسألة بحاجة الى رص الصفوف مقرونا بالعمل على تنشئة قاعدة وطنية تكون شبكة امان للأرض والإنسان. سواء كان ذلك على صعيد حزبي او اهلي يظل الموضوع امرا ملحا يتطلب الأولوية من اجندتنا اليومية على كافة مستوياتها وتوجهاتها.



"فصل المقال"

التعليقات