الباحث والمحاضر في جامعة تل أبيب د. محمد أمارة: اللغة في بعديها الأدائي التواصلي والرمزي العاطفي هي السد المنيع، فهي التي بمقدورها إن تحفظ الرواية والذاكرة..

الباحث والمحاضر في جامعة تل أبيب د. محمد أمارة: اللغة في بعديها الأدائي التواصلي والرمزي العاطفي هي السد المنيع، فهي التي بمقدورها إن تحفظ الرواية والذاكرة..
الصراع على اللغة عرفته تاريخيا الشعوب والأقليات القومية لاسيما الأصلانية منها كجزء من السعي الحثيث للكولنياليات المتوحشة للسيطرة على مقدرات الشعوب المستعمرة والمضطهدة، لضمان استمرارية السيطرة عليها من خلال تفتيت وتذويب عناصر الهوية ومكوناتها. فاللغة بأبعادها الأداتية والرمزية العاطفية تشكل إحدى مقومات الوجود القومي للجماعات الإنسانية في إطار الهوية الجامعة، وطالما حاولت الحركة الصهيونية منذ أوائل أنشطتها في فلسطين أواخر القرن التاسع عشر في عبرنة المكان الذي اشترط عبرنة اللغة، إلا أن اللغة العربية أثبتت بجسارتها وتجذرها في وجدان أهلها بأنها تملك من القوة الرمزية والعاطفية بما يجعل هذه الجبهة في الصراع العربي الصهيوني عصية على الاختراق، وإن انتابها بعض الهوان في غياب وضعف الفاعلية والمبادرة لمواجهة الاستهداف المنهجي من قبل المؤسسة والأجهزة الرسمية، إلا أننا نلحظ في الآونة الأخيرة اهتمامات متزايدة من قبل بعض المثقفين والأكاديميين ممن جعلوا من موضوع اللغة في الصراع ميدانا بحثيا ودراسيا يستحوذ على اهتمام بعض النخب السياسية والثقافية، وربما ما يستفيد منه وكلاء التغيير السياسي والثقافي، بما ينجع من أدائهم المترهـل والتخفيف من هـدر الموارد والطاقات في إطار البرامج المجزوءة.

ومنهم الباحث والمحاضر في جامعة تل أبيب د محمد أمارة المتخصص في علم اللغة الاجتماعي والهوية، ورئيس الهيئة الإدارية لمركز دراسات، وناشط في مؤسسات المجتمع المدني، وله إسهامات بارزة في إعداد الوثائق المستقبلية لعرب الداخل وكذلك مشروع كتاب المصطلحات البديلة.

هل تكفي الدراسات والإسهامات النظرية على أهميتها في ظل التحدي الوجودي الذي تخطى الحقوقي والمطلبي لفلسطينيي الداخل؟

نحن الأكاديميين العرب، نتهم بأننا ننظر ولا نسهم في حل المسائل العالقة في مجتمعنا، إلا أننا نجتهد لنكون فاعلين على أكثر من جبهة، لاسيما وأن مشاكلنا كأقلية قومية لها وضعية خاصة واستثنائية في ظل الصراع القائم. وقد أقمنا مركز دراسات لتقديم البدائل المبنية على دراسات نظرية ميدانية، وذلك ليتسنى لوكلاء التغيير وصانعي القرار العربي تنجيع عملهم السياسي والاجتماعي، أي قمنا بتفكيك لقضايا شائكة بشكل منهجي وعلمي وربما أهمها هي الدراسة التحليلية في المفاهيم اللغوية حول الصراع العربي الإسرائيلي، اللغة في الصراع، ولكن يبقى الأساس الاستفادة منها على الأرض في الميدان العملي.

لكنها تظل دراسات أكاديمية نخبوية، إن جاز التعبير، ولا تلامس ذهنية واهتمام العامة و جيل الشباب الأكثر عرضة للأسرلة والتشوه في ملامح الهوية والسلوك؟

رغم أن الأكاديميين ليسوا أحزابا سياسية بقدر ما يجب أن يكونوا رافدا لحركة التغيير عامة في علاقة تكاملية، وهنا نستطيع أن نتحدث عن مشروع المصطلحات البديلة (الذي قام بتحريره د.محمد أمارة ود. مصطفى كبها باشتراك عدد من الأكاديميين العرب من نشطاء مؤسسات المجتمع المدني، وبرعاية مؤسسة ابن خلدون، ومركز مكافحة العنصرية)، هذه المبادرة أتت لتقول بأننا لا نشجب فقط ونمارس ردود الفعل على ما لا نرتئيه مناسبا لنا، لكن من موقع الفاعلية قمنا بمبادرة واقترحنا مصطلحات بديلة، تناسبنا وتناسب شخصيتنا الوطنية والقومية، وتسرد بصدق روايتنا وتبين وجهنا كما نرتئيه، وهذا بدوره كان تحديا واضحا لما جاء في برنامج المصطلحات الأساسية لوزارة المعارف التي تؤكد على الرواية اليهودية الصهيونية، بحيث كان الوجه العربي إما مغيبا أو مشوها، بل في أحسن حالاته كان تراثيا فولكلوريا، وقد قمنا بطباعة 50 ألف نسخة وتوزيعها على الجمهور العربي، أي انتقلنا من حالة عدم القبول والشجب إلى الفاعلية والمبادرة وآمل أن بعض هذه المواد قد وصلت للجمهور واطلع عليها وما تبقى هو من مهمات الأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية والتربوية.

هل يغضبك لامبالاة السياسيين تجاه الانتاجات الثقافية والبحثية واعتمادها بصفتهم وكلاء تغيير، إلى جانب الجفاء بين المثقف والسياسي؟ أم أنك سلمت بالقول من أجل أن تكون قياديا سياسيا لست بحاجة لمؤهلات ومواهب خاصة؟

حقيقة إن المشروع لاقى تجاوبا من قبل الجمهور العربي إلى حد ما، فشارك في الحلقات التي عقدناها مئات المعلمين، مئات الطلاب ومئات المهتمين. ولا شك أن هذه بداية طيبة، رغم جميع محدوديات وإشكاليات التعليم العربي ووكلائه، وتناولته وسائل الإعلام بكثافة حيث نعتقد أنها وصلت إلى قطاعات واسعة من الناس وأثارت اهتمام أوساط واسعة في مجتمعنا. أما إشارتك لغياب العلاقة التكاملية المفترضة بين المثقف والسياسي، نستطيع القول إن هذه العلاقة غير مرضية على الإطلاق ما بين السياسي والمثقف إن لم نقل محزنة، إلا أننا نلمح في السنوات الأخيرة مبادرات ومحاولات للالتقاء ما بين السياسي والمثقف، وإن كانت متواضعة. نعم ولفترة طويلة نأى المثقف عن السياسة وكانت الجبهة الثقافية بنظر السياسيين حلبة لا جدوى منها أو حتى حلبة فاسدة، ولم يحاول السياسيون بصدق استثمار طاقات أكاديمية وثقافية إبداعية كبيرة ومخلصة. وكان هذا البعد وهذا الجفاء ونحن ما زلنا إلى الآن نتوق لأن تتكامل الروابط التي من المفروض أن تكون طبيعية بين المجالين إلا أننا ما زلنا في بداية الطريق.

من بين مجمل جبهات الصراع وتعددها، الأرض والهوية والاقتصاد والتعليم وغيرها أين تقف اللغة من بين كل ذلك؟

اللغة في بعديها، البعد الأدائي التواصلي والبعد الرمزي العاطفي هي السد المنيع، لأنها هي التي بمقدورها أن تحفظ الرواية والذاكرة، وإذا خسرنا جبهات أخرى وخسرنا أيضا اللغة نكون خسرنا القضية وأصبحنا أشلاء مجموعة. لكن إذا حافظنا على لغتنا خاصة في بعدها العاطفي والرمزي فهي التي من شأنها إبقاء روايتنا نابضة ومفعمة في الحياة ولا خوف علينا، وان كنا حاليا نمرّ كشعب في أصعب مراحل الصراع منذ مئة سنة، فاللغة كدلالة رمزية وأداة تواصلية تستطيع أن تبقينا أحياء إلى أن تعيد الحيوية لشخصيتنا في أبعادها وجبهاتها المختلفة. ومثال على ذلك أن احد أسباب نجاح الحركة الصهيونية هو إحياء العبرية في سبيل بناء اليهودي الجديد، إلى حد أن بعض الباحثين ادعوا أنه لو لم يتم إحياء العبرية لما قامت دولة إسرائيل وربما كلغة هوية عبر السنين لليهود هي التي حفظتهم من الضياع وهذه عبرة من التاريخ ودرسها امتد حوالي ألفي عام.

أليس في هذا الاستعراض مغالاة وتضخيم لدور اللغة في الصراع واختزال للجبهات الأخرى الملتهبة؟

ليكن واضحا كي لا نفهم خطأ أن اللغة ليست العامل الوحيد والجبهة الوحيدة لكنها أحد العوامل الهامة، لأنه باللغة يتم التنشئة الاجتماعية وباللغة ترسم الحدود الذهنية والثقافية للمجتمعات الإنسانية، ونحن لا نغالي ولا نختزل على حساب الجبهات الأخرى التي نعيها تماما، وإن قلنا ذلك إنما لنؤكد أنها إحدى العوامل الهامة جدا ودورها هام نحو الحفاظ على الهوية وبلورتها، لكني لم أقل إنها العامل والمركب الوحيد.

في سياق الحديث طرحت أنه لا خوف على اللغة وهي صامدة، إذا ما الجدوى من هدر الطاقات والموارد في جبهة حسمت لصالحنا أليس الأجدر بنا أن نتركز في جبهات أكثر حارقة؟

اتفق معك أن اللغة العربية لا خوف عليها من الزوال لكن بالمقابل هناك حالة تآكل للغة العربية، وهناك تغلغل للعبرية والعبرنة، في جميع مناحي الحياة بعد عبرنة الأرض وتهويدها، هذه العبرنة تعكس أسرلة، سواء كانت أسرلة طبيعية كما ادعى البعض أو أسرلة مبتورة، لكننا حقيقة بدأنا نفقد من حيوية اللغة العربية، وهذا بدون شك يؤثر على هويتنا بأبعادها المختلفة، وهذا ما يعطي للغة مركزيتها ومحوريتها بالترابط والتداخل مع باقي عناصر ومركبات الهوية والوجود.

هل من كلمة تود قولها لوكلاء التغيير وخصوصا القيادات السياسية؟

أولا أقول للسياسيين هم بحاجة إلى مرجعية وإلى غلاف يحميهم من تقلبات السياسة، وفي سياقاتنا نحن أحوج للتكاتف وحشد الطاقات أمام التحديات والمستجدات وهي كثيرة وخاصة على ضوء تعزز الاثنية القومية وتقليص هامش العمل السياسي للأحزاب العربية.
ثانيا لا شك أنه حان الأوان للاطلاع على دراسات الأكاديميين والمثقفين العرب التي أصبحت دراساتهم ذات أهمية وزخم محليا وعالميا، ليكون السياسي في المقام الأول إنسانا مثقفا وأيضا أن يقوم بواجبه بالعمل بشكل منهجي ومنظم بعدما يكون قد اطلع على الانتاجات الثقافية والدراسات في المجالات المختلفة.
ثالثا: صحيح أن المجموعتين من السياسيين والمثقفين ليستا في حالة صراع لكن يجب أن تكون مصالحة بين المجموعتين، وأن هذا التحييد أو الجفاء أو الابتعاد من هذا الطرف أو ذاك ليس من شأنه تعزيز القدرات لمواجهة التحديات في هذه الدولة.

التعليقات