ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 1) / د. مصطفى كبها

-

 ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 1) / د. مصطفى كبها
في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني القادم، تصادف الذكرى السبعين لاستشهاد الشيخ عز الدين القسام (1881 -1935 )، الثائر السوري القادم من جبلة ( شمالي سوريا ) إلى حيفا (شمالي فلسطين) في بداية عشرينات القرن العشرين، وتنظيمه، سراً، للفصائل الفلسطينية المسلحة في بداية الثلاثينات، تلك الفصائل التي كانت النواة الأساسية التي فجرت ثورة 1936 -1939.

وفي هذه الذكرى، يجدر بنا أن نقف، وقفة الفاحص والناقد والمتأمل، لنقيّم هذا الحدث التاريخي الهام الذي يمكن اعتباره، بلا تردد، أهم حدث ساهم في بلورة صورة وشكل وآليات الصراع الفلسطيني الصهيوني وصاغ أوليّات الكفاح الفلسطيني وشكّل آلياته وسلوكياته في مرحلة تشكله الوطني. سيما وأن هذه الثورة عانت من تشوّهات كثيرة في الذاكرة الجماعية الفلسطينية التي نتجت، على الأغلب، بسبب المرحلة المتأخرة من الثورة التي يمكن أن نطلق عليها "مرحلة الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي" والتي راح ضحيتها مئات من أبناء الشعب الفلسطيني، الشيء الذي أتى على مساحات كبيرة من صورالكفاح الوطني المشرقة التي ميّزت مراحل الثورة الأولى، وأصاب، في الصميم، اللحمة الوطنية الفلسطينية إلى حد لم يستفق منه الشعب الفلسطيني حين أزوف ساعة الحسم عام 1948، حيث كان الشعب الفلسطيني في قمة ضعفه وقلة حيلته وذلك ازاء المجتمع الإستيطاني اليهودي المهيأ والمعبأ جيداً لساعة الحسم.

ونحن بطبيعة الحال لا نستطيع الجزم بأن انعكاسات مرحلة الاحتراب الداخلي الفلسطيني في مراحل الثورة الأخيرة كانت العامل الحاسم فيما حصل عام 1948، ولكن نرى من الواجب علينا التنويه لمساهمة ذلك في تفتيت قدرة صمود الشعب الفلسطيني إزاء ما تعرض له من شدائد قادت في النهاية إلى نكبته عام 1948.

كان لهذه التشوّهات في الذاكرة الشعبية الفلسطينية، كثير من التأثير على عملية التوثيق والتأريخ للثورة سيما وأن الكثير من الكتّاب والموثّقين الفلسطينيين كانوا عرضة لتأثير السياق، الزماني والمكاني، الذي كتبوا فيه أو تحت تأثير انتماءاتهم العائلية والحمائلية وموقف آبائهم وأجدادهم، السياسية والاجتماعية والطبقية، من الثورة وقت وقوعها. فمنهم من أسماها باسم أشخاص كانوا مسحوقين اجتماعياً قبلها فارتفعت مكانتهم الاجتماعية بسبب نشاطهم بالثورة (1)، ومنهم من كتب كتاباً كاملاً عن قريته التي كانت عائلته العائلة المتنفذة فيها، ولكنه لم يمنح الثورة إلا صفحات قليلة على الرغم من كون هذه القرية تعج بالثوار الذين وصل عددهم العشرات، ولكن معظمهم كانوا من أبناء الطبقات المسحوقة فآثر الكاتب تجاهلها. وهكذا تشظّت الرواية الفلسطينية للثورة وتوهت إما بسبب تجاوزات بعض الثوار في مراحلها الأخيرة وإما بسبب أهوا وميول الكتاب والموثقين خاصة اولئك الذين ناصبت عائلاتهم وحمائلهم الثورة العداء إمّا لأسباب طبقية أو لأسباب انتهازية ليس هنا المكان للخوض فيها.

كان لسقوط الشيخ عز الدين القسام وبعض رفاقه، شهداء في صدام مسلح غير متكافئ مع القوات البريطانية في حرش خربة الشيخ زيد ( بالقرب من يعبد ) في لواء جنين يوم التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1935، بالغ الأثر في تحرير الإحتقان الشديد الذي ميّز الحالة النفسية الجماعية للشعب الفلسطيني في النصف الأول من الثلاثينيات، ابتداءاً بهبة البراق عام 1929 وتداعياتها، مروراً بإعدام الشبان الثلاثة (3)في السابع عشر من من حزيران عام 1930 وانتهاءً بانتفاضة يافا عام 1933 وحادثة اكتشاف الأسلحة المهربة للمنظمات العسكرية اليهودية في صيف 1935.

كان لهذا الاحتقان سببان رئيسيان: الأول رسوخ قناعة الفلسطينيين بالانحياز التام لسلطات الإنتداب البريطاني للجانب الصهيوني في الصراع مع الفلسطينيين، وعدم رغبة بريطانيا بمنح الفلسطينيين بعض مظاهر السيادة التي منحتها لأقطار عربية أخرى كانت تحت سيطرتها كمصر والعراق.

أما السبب الثاني فكان تعاظم قوة الاٍستيطان اليهودي الذي سار آنذاك بخطى واسعة نحو بناء مؤسسات الدولة العتيدة ورفد ذلك المشروع بأعداد هائلة من المهاجرين الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف في سني 1934 -1935 .

إزاء هذين العاملين وصلت قطاعات واسعة في الشعب الفلسطيني إلى عبرة مفادها أن تغيير هذا الواقع في الحالتين لا يتم الا من خلال استعمال القوة المسلحة والعنف الثوري.

ولم تقتصر هذه القناعة على الفئات الشعبية التي تضررت بشكل مباشر من هذين العاملين (خاصة من سياسة الأمر الواقع التي استعملتها الحركة الصهيونية على الأرض وكلّفت الكثير من أبناء هذه الطبقة لقمة عيشها وفي بعض الأحيان بيوتها كما حصل في عمليات الترحيل المبكر في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات لقرى فلسطينية كاملة باعها كبار الملاكين من سوريا ولبنان وبعض الفلسطينيين للوكالة اليهودية كجنجار وجيدا وأم العلق وكركور والمراح وغيرها )، بل تعدتها إلى القيادات العليا من أبناء الأسر الاقطاعية والأعيان المدنيين الذين راهنوا (حتى هبة البراق عام 1929 ) على السياسة البريطانية و"نزاهة الضمير البريطاني" الذي لن يرضى، كما اعتقدوا واهمين، الضيم للفلسطينيين.

ولكن هذه النزاهة خدشت، إلى حد كبير، بعد التصريحات المسيئة بحق العرب التي أطلقها المندوب السامي البريطاني على اثر هبة البراق وما واكبها من قمع وتنكيل تجاه العرب. ثم تهشّمت بعد اعدام الشبان الفلسطينيين الثلاثة والعفو عن متهمين يهوديّين في نفس القضية .

وقد كان الشيخ القسّام، بفعل تجربته العريضة في الثورة السورية عام 1920، من أوائل المبادرين لإقامة الفصائل الفلسطينية المسلحة من شبّان عانوا الأمرّين من السياسة البريطانية والمشروع الاستيطاني اليهودي. وقد استغل كونه موظفاً في المجلس الإسلامي الأعلى، واعظاً في مسجد الاستقلال ومعلماً في مدرسة البرج الإسلامية ومأذوناً شرعيّاً لقضاء حيفا، ليعمل في هدوء بعيداً عن أنظار عيون السلطة في جس النبض الشعبي والعمل على تهيئته لانتفاضة مسلحة.

فقد تحدث في دروس الوعظ عن أفكاره الاستقلالية - الوحدوية وضرورة تحقيق وحدة العرب كأساس متين لوحدة المسلمين. وقد كان في ذلك متأثراً، إلى حد كبير، بأفكار الشيخ محمد عبده الذي تتلمذ على يديه في الأزهر ثلة من رجالات النهضة القومية والوطنية في العالم العربي وأعلام الصحوة الاسلامية العامة امثال مصطفى كامل وعبد العزيز جاويش وعبد الله النديم في مصر ومن الشوام أمثال الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ كامل القصاب والشيخ عز الدين القسّام وغيرهم .

أما دروسه في مدرسة البرج (دعاها البعض مدرسة الاستقلال لقربها من المسجد الذي حمل نفس الاسم ) فقد استغلها القسّام لبث الروح القومية والدينية بطلابه وتشجيعه أياهم على ممارسة الرياضة بل والتدرب بالخفاء على استعمال السلاح. في حين استغل القسّام زياراته لقرى قضاء حيفا، التي كان يعقد الأنكحة الشرعية فيها، للوقوف عن كثب على النبض الشعبي العام والعمل على نسج علاقات متينة مع من يمكن أن يساعدوه مستقبلاً في تنفيذ نواياه الثورية.

كانت البداية في خريف عام 1929 بتأسيس الفصيل الذي حمل اسم "الكف الأخضر " ووقف على رأسه أحمد طافش في منطقة صفد.

وقصة هذا الفصيل أن السلطات البريطانية، على أثر أحداث آب 1929 في صفد وما واكبها من صدامات دموية بين العرب واليهود، قامت بشن حملة واسعة من الاعتقالات، وقامت بنشر قوائم للمطلوبين، بتهمة الاشتراك بتلك الأحداث. وعلى أثر ذلك، قام قرابة الثلاثين من هؤلاء المطلوبين بالإختفاء في المناطق الجبلية المتاخمة لصفد في المنطقة المعروفة بوادي الطواحين.

في كانون الثاني 1930، قامت السلطات البريطانية بعملية عسكرية واسعة بهدف القبض على المجموعة وذلك بعد أن قام الفصيل بمهاجمة بعض المستوطنات اليهودية في الجليل والأحياء اليهودية في مدينة صفد.

نجح النجليز بالقبض على 16 ثائراً وفر الباقون بمن فيهم أحمد طافش إلى شرقي الأردن حيث جرى تسليمه للبريطانيين الذين حكموا عليه بالإعدام ولكنهم قاموا بتخفيف الحكم تحت تأثير هبة شعبية قادها الصحافي أكرم زعيتر.

أطلق البريطانيون سراحه عام 1946 وقد تنقل بين حيفا وصفد حتى عام 1948 .

ليس هناك الكثير من المعلومات حول شكل العلاقة التي كانت بين القسّام وبين أعضاء هذا الفصيل وخاصة أحمد طافش، ولكن المعلوم أن بعض أعضاء هذا الفصيل الذين بلغوا الثلاثين كانوا يترددون على حيفا للعمل وهناك كانوا يستمعون لدروس الشيخ القسّام ويشاركون في الجولات التي كانت جمعية الشبان المسلمين ( التي كان القسّام نائباً لرئيسها رشيد الحاج ابراهيم) تنظمها لمعرفة تضاريس البلاد. وقد حافظ بعضهم على العلاقة مع الشيخ بعد تشتت فصيلهم وانضم بعضهم للفصائل التالية التي عمل القسّام على تشكيلها.


كانت المحاولة الثانية اقامة الفصيل المسلح الذي دأب القسام على انشائه بضع سنوات وقد عرف، على الأغلب، باسم "جمعيّة الكف الأسود " وأسماء أخرى للتمويه مثل " جمعيّة مجاهدي سوريا" أو " جمعيّة التسليح ". كان معظم أعضاء المجموعة من أصول قروية سكنوا أحياء العمال الفقيرة التي أحاطت كالحزام بمنطقة شرقي حيفا في منطقة حوّاسة وبلد الشيخ والتي عرفت باسم "حارات التنك "، أو من أعضاء جمعية الشبان المسلمين التي أسسها القسّام في قرى قضاء حيفا والناصرة كطيرة الكرمل وصفورية.

قام هذا الفصيل بتنفيذ بعض العمليات العسكرية ضد اهداف يهودية وبريطانية على وتيرة متباعدة (مرة كل أربعة - ستة أشهر ). وجرت العملية الأولى في ليل الخامس من نيسان عام 1931 حين نصبت كميناً لعربة يهودية على طريق الياجور كانت تقل أحد عشر يهودياً كانوا عائدين إلى كيبوتس ياجور من حفلة في حيفا. جراء اطلاق النار على العربة قتل ثلاثة وجرح أربعة. وقد لاذ المنفذون بالفرار مستغلين الظلام الدامس الذي ساد المكان.

ثم تتابعت العمليات فجرت الثانية في الثامن من آب 1931 ( حيث قتل أحد سكان كيبوتس ياجور في مكان قريب من مكان العملية الأولى ) وفي هذه المرة أيضاً، لم يترك المنفذون أي دليل يقود إليهم. وهكذا كان الأمر في العملية الثالثة ( في العاشر من كانون الثاني 1932، تم قتل أحد سكان مستوطنة بلفورية ) والرابعة ( في الثامن من آذار 1932 تم قتل احد سكان مستوطنة كفار حسيديم ) والخامسة ( تم إطلاق النار على اثنين من سكان مستوطنة كفار يحزقيل واصابتهما بجراح ) ، إلى أن كانت العملية السادسة التي تم الكشف عن المجموعة بسببها ( في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول 1932 تمت مهاجمة أحد البيوت في مستوطنة نهلال وقتل اثنين من ساكنيه ). في هذه المرة، وبسبب أوحال الشتاء، قادت آثار المنفّذين إلى قرية صفورية ( قضاء الناصرة ) حيث تم اعتقال اثنين من المنفذين وقد قاد اعتقالهم إلى اعتقال باقي أعضاء خلية صفورية وعلى رأسهم خليل العيسى ( الذي كان فيما بعد من قادة الثورة وعرف أكثر بأبي ابراهيم الكبير وقد كان من اهم مساعدي القسّام وهو بالأصل من قرية المزرعة الشرقية، قضاء رام الله ).

تم الكشف فيما بعد عن نشاط الجمعية وتم اعتقال العديدين في حيفا، لكن أياً من المعتقلين لم يدل بأية معلومة عن قائد المجموعة، الشيخ القسّام، الذي لم تصل إليه سلطات التحري البريطانية. وقد فضل القسّام تجميد عمل المجموعة سنتين ونيّف، وذلك حتى يتسنى له التقاط الأنفاس والعمل بأجواء أفضل بعد هدوء العاصفة التي أثارتها عمليات المجموعة وفاجأت بها كافة أطراف الصراع بما في ذلك قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية.




وللحديث بقية .....





(1 ) على سبيل المثال، أطلق سكان كفر ياسيف والمنطقة على الثورة، هزءاً، "ثورة العكوز " وذلك نسبة لمحمد العكوز الذي كان حراثاً في القرية وبعد انضمامه للثورة اصبح من أصحاب الشأن في القرية، بشكل قلب الموازين والمعايير الطبقية فيها. عن ذلك أنظر : نمر مرقس أقوى من النسيان ، كفر ياسيف ، 1999 . ص 37 .


(2) هم فؤاد حجازي من صفد وعطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل، اتهمتهم السلطات البريطانية بتدبير الهجمات على الأحياء اليهودية في صفد والخليل والتحريض لقتل سكانها وحرق بيوتهم. وقد قامت السلطات البريطانية بتجريمهم مع 23 متهماً آخرين ( بما فيهم اثنان من اليهود ) وحكمت عليه جميعاً بالاعدام . ولكن المندوب السامي البريطاني قام بتخفيف حكم الاعدام إلى أحكام متفاوتة بالسجن باستثناء الشبان الفلسطينيين الثلاثة الذين نفذ حكم الاعدام فيهم صبيحة يوم الثلاثاء الموافق 1930 .6 .17 في سجن عكا المركزي، وتم دفنهم في المقبرة الإسلامية هناك. وقد تم تخليد هذا الحدث في قصيدة مؤئرة للشاعر إبراهيم طوقان أسماها "الثلاثاء السوداء " وأغنية شعبية صاغها،على الأغلب ، الفنان الشعبي الفلسطيني نوح ابراهيم، الثائر الشاعر الذي استشهد لاحقاً في معركة طمرة عام 1938. وقد كان للقصيدة والأغنية تأثير كبير في صياغة الوجدان الوطني الفلسطيني.

(3) عن ذلك يمكن الرجوع لشهادة المثقف الفلسطيني ابن قرية عين غزال الذي رأى ذلك بأم عينه واشترك بنفسه في بعض التدريبات، الواردة في سيرته الذاتية التي أسماها غربة الراعي ، عمان ، 1996 . ص 74

(4) للتوسع بالمعلومات عن أحمد طافش والكف الأخضر انظر : أرشيف منظمة الهاجاناه ملف رقم 288 \105 وكذلك ارشيف وزارة المستعمرات البريطانية ملف رقم 75-733 C.O. وكذلك كتاب أكرم زعيتر ، بواكير النضال ، عمان 1994 . ص 127 -139 .

(5) عن هذه العملية يمكن النظر في ملفات ارشيف وزارة المستعمرات ملف رقم 871\204\733 . C.O

(6) عن البلبلة التي أثارتها العمليات حتى في الطرف العربي انظر : صحيفة الجامعة العربية ( التابعة لمعسكر الحسينيين ) ،
1932 .4 . 9

التعليقات