ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 9 )/ د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939  والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 9 )/ د.مصطفى كبها
بعد ازدياد عدد الشبان الذين انضموا لحركة عبد الرحيم الحاج محمد، وكانوا من ذنابة وطولكرم وكفر اللبد وعنبتا ورامين وشويكة، أخذ عبد الرحيم يعمل على تدريبهم تدريباً عسكرياً، في المنطقة الجبلية الواقعة بين ذنابة، كفر اللبد وخربة خميش مستعيناً بخبرة جنود عثمانيين سابقين، كمدربين، وبعض الرجال من مسلمي البوسنة لتصنيع الألغام والقنابل البدائية. كما واستعان ببعض الحدادين من منطقة طولكرم لإصلاح بعض قطع السلاح العثماني القديم.

رأى عبد الرحيم أن إقامة فصيل مسلح يحتاج إلى وقت وامكانيات وأسس لوجستية يرتكز عليها، إذ أنه كان ينتقد الفصائل التي كانت تتشكل بسرعة وتختفي بسرعة، بل كان يفضل إقامة فصائل دائمة، ذات جذور تعتمد على نواة من الرجال المخلصين، الذين كانوا يرافقونه أينما ذهب. وعليه يعتبر عبد الرحيم الحاج محمد أحد قادة الفصائل القلائل الذين صمموا "موديلاً" للفصيل الثوري الذي يعيش طويلاً، وهو أول من نظّم نمط "الفصيل الأم" و"الفصائل الفروع". وقد رأى من الصواب أن يكون نشاط الفصيل الأم في منطقة يعرفها جيداً وله فيها مؤيدون وأقارب ومضيفون هذا فضلاً عن كونها منطقة جبلية وعرة، يجيد الثوار معرفة شعابها والتخفي، بشكل شبه تام، عن عيون الجنود البريطانيين.

وقد كانت قرية بلعا بمثابة مركز نشاط عبد الرحيم والفصيل الأم، وفيها كانت مخازن الأسلحة والتموين، وإليها كان يلجأ القائد من حين إلى حين، إلى مناطق عالية ومشرفة ككفر اللبد وخربة خميش والنزلة الشرقية ورامين وشوفة وصيدا وغيرها.

وقد أقام القائد عبد الرحيم الحاج محمد جهازاً إدارياً واستخباراتياً لجمع المعلومات أداره بعض المعارف والأقارب والمقربين، على رأسهم ممدوح السخن من نابلس وعبد الرحيم محمود ( الشاعر الفلسطيني المعروف ) من عنبتا، وعبد الرحيم العلي من قرية ذنابة (أحد أقارب القائد ). كما استعان أبو كمال برجال شرطة عرب، عملوا في الشرطة البريطانية، زودوه بالمعلومات نذكر منهم رشيد عبد الفتاح من ذنابة وعبد الخالق عبد الغني من قرية نحف الجليلية والذي عمل ضابطاً في مخفر شرطة طولكرم. كما استعان بمعلومات وتسهيلات كان يتلقاها من موظفين عرب كبار في حكومة الانتداب مثل عز الدين الشّوا (من غزة) قائمقام جنين، الذي ساعد على تهريب الأسلحة وتمرير الثوار وهم في طريقهم من وإلى دمشق وخاصة في مناطق العبّارات ( المخّاضات ) على نهر الأردن (الشريعة) في منطقة بيسان واطراف سهل طوباس.
بعد أن ازدادت العمليات التي نفذها رجال عبد الرحيم الحاج محمد ضد رجال وموظفي السلطات البريطانية وضد المستوطنات اليهودية، بدأت السلطات بالبحث عنه وأعلنت عنه أنه شخص مطلوب، وقد كانت تفتش بيته بشكل شبه يومي. حيث كان الجنود يحضرون إلى بيته قبل بزوغ الفجر، يوقظون أبناءه الأربعة وأخته حليمة التي كانت ترعاهم ( كانت زوجته قد توفيت قبل اندلاع الثورة ولم يتزوج غيرها ) ويفتشون البيت تفتيشاً دقيقاً ثم يغادرون المكان بعد أن يتوعدوا ويهددوا ساكني البيت.

عندها لجأ عبد الرحيم بشكل تام إلى الجبال، وبدأ ينضم إليه رجال جدد، مثل محمد الصالح الحمد من سيلة الظهر (قسّامي) وابراهيم العموري من طولكرم، الذي أطلق النار على الضابط الانجليزي Follobrok بعد أن أهان هذا الضابط والده، لينضم إلى مقر قيادة عبد الرحيم بعد أن شكّل فصيلاً من أبناء طولكرم، إرتاح ووادي القباني وسمّاه فصيل الزلازل.

كما انضم إلى مقر قيادة عبد الرحيم في الجبال كل من إبراهيم نصّار من عنبتا، وعبد الحميد المرداوي من بيت امرين (مردة) الذي كان قد شارك في الثورة السورية عام 1925.

وصل عدد الفصائل التي عملت تحت إمرة عبد الرحيم في عام 1936، 13 فصيلاً. انخفضت عام 1937 إلى ثمانية فصائل ثم عاد وارتفع عام 1938 إلى 12 فصيلاً وقد تراوح عدد الثوار في هذه الفصائل بين 200 -400 ثائر منظم.

ومن أهم قادة الفصائل لدى عبد الرحيم كان: محمد الصالح الحمد من سيلة الظهر، إبراهيم العموري من طولكرم، عبد الله الطه من سيلة الظهر، محمود اسماعيل البريمي من كفر اللبد، جميل خنفر من الرامة (جنين )، عبد الحميد المرداوي من بيت امرين، سليمان أبو خليفة من وادي الحوارث، مصطفى الأسطة من نابلس، عبد الله الأسعد من عتيل والعبد الصادق من عتيل.
تسمى هذه المعركة أيضاً في الرواية الشعبية "معركة المنطار الأولى" أو "معركة نور شمس الثانية" أو "معركة ليّة بلعا".

وقد وقعت هذه المعركة إثر كمين نصبته فصائل عبد الرحيم الحاج محمد شرقي نور شمس في مكان يدعى ليّة بلعا، حيث يلتف الشارع الرئيسي هناك، التفافاً خطراً يمكن التحكم به من التلال القريبة خاصة جنوبي الشارع. قام القائد عبد الرحيم الحاج محمد بالتخطيط للكمين والاشراف على المعركة من مرتفعات خربة أبو خميش جنوبي الشارع، بينما أشرف قائد الفصيل إبراهيم العموري على التنفيذ.

وصفت المصادر الانجليزية هذه الموقعة بقولها:" في مساء يوم 20 حزيران، وصلت القوات البريطانية المرابطة في طولكرم، إخبارية تقول بأن كميناً سينصب لقافلة انجليزية، ستتوجه في 21 حزيران من طولكرم إلى دير شرف. وقد تقرر أن تسير القافلة العسكرية، في طريقها، حسب المخطط، على أن تكون طائرات سلاح الجو، ووحدة دبابات، على أهبة الاستعداد.

غادرت القافلة طولكرم الساعة الحادية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة. وبعد ثلاثة أميال، شرقي طولكرم، جوبهت بحاجز من الحجارة، يسد الشارع، وقد لاحظ طيّار الطائرة المرافقة للقافلة بأن مجموعة من العرب، ترابط جنوبي الشارع فقام للتو بإطلاق النار عليهم. وقد قام الجنود الموجودون في القافلة العسكرية، بالترجل، وأخذ المواقع على جانبي الطريق، وقامت الطائرة بمطاردة المسلحين العرب وضربهم برشاشاتها.

ووصلت في الساعة الواحدة دبابتان، قدمتا من نابلس، واشتركتا في صد مجموعة عربية مسلحة، قدمت من جهة قرية بلعا. واستمر القتال حتى حلول الظلام. وغداة ذلك اليوم قامت القوات البريطانية بتفتيش قرية بلعا وهدم ثلاثة منازل.

كانت خسائر العرب من 21 -25 إصابة، بينما كانت خسائر القوات البريطانية اربع إصابات : قتيل واحد وجريحان أصيبا بصورة بالغة وجريح واحد جرح بصورة طفيفة ".

وقد حدثني من شهود العيان العرب عطية نايف غزالة، أحد مساعدي القائد العام عبد الرحيم الحاج محمد، في مقابلة أجريتها معه (في 1999.3.31 ) حيث قال : " كانت خسائر العرب أربعة شهداء وبعض الجرحى، وقد قامت السلطات بجر الشهداء وراء السيارات حتى طولكرم وقامت برميهم أمام الجامع هناك، وعند تفتيش أحدهم وجد في أحد جيوبه كسرة خبز وقرن خروب، فقام أحدهم بتعليقها على باب الجامع وكتب فوقها لافتة تقول : " هذا هو طعام الثوار يا أهالي طولكرم".



وللحديث بقية......

التعليقات