ثورة 1936 – 1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية..(الحلقة 4)/ د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 – 1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية..(الحلقة 4)/ د.مصطفى كبها
خرجت الجماعة من حيفا، كما أسلفنا سابقاً، في اليوم الثاني أو الثالث من شهر تشرين الثاني عام 1935. سارت بموازاة الانحدار الشمالي لجبال الكرمل، وقد كانت قرية الياجور أول محطاتهم، حيث اجتمعوا بجملة من شبابها ومن هناك توجهوا شرقاً إلى مساكن عائلة السعديّة في منطقة طبعون وغابة شفاعمرو حيث كانت للشيخ القسّام هناك علاقات مميّزة بحكم علاقات القربى التي كانت تربطهم بنائبه الشيخ فرحان السعدي.

ومن المرجح، أن الجماعة ناموا ليلتهم الأولى لدى وجهاء عائلة السعدية في بيتي الشيخ نمر السعدي والشيخ علي السعدي، وهناك جمع القسّام الرجال وخطب فيهم وحثّهم على الثورة.

أما المحطة الثانية فكانت قرية نورس التي باتوا فيها ليلتهم الثانية، واستقبل فيها القسّام بعض أعضاء مجموعته، من أبناء تلك المنطقة، أو رسلاً عنهم.

كان طلال ناجي أبو جعب، من قرية قباطية – قضاء جنين، أحد هؤلاء الرسل، وقد جاء إلى القسّام موفداً من قريبه الشيخ القسّامي محمد أبو جعب.

قصّ عليّ هذا الرجل في مقابلة أجريتها معه، أنا وصديقي الدكتور نمر سرحان في غرّة نيسان 1999 ( نشرت هذه المقابلة في جريدة الأيام في 199.4.13)، قصة وفوده على القسّام ومقابلته لأفراد الجماعة، حيث قال:

" أذكر من رجال القسّام أحمد التوبة والشيخ سليمان زعرورة وأبو إبراهيم الكبير وأبو إبراهيم الصغير ومحمود سالم المخزومي. كنت صغيراً، عندما أرسلني الشيخ محمد أبو جعب إلى الشيخ القسّام. حملت الرسالة وأنا لا أعرف مضمونها، وضعوها في "دكة " سروالي لأوصلها إلى قرية المزار. قال لي الشيخ أبو جعب حينها :إن لم تجد القسّام إعط الرسالة للشيخ فرحان السعدي.

لم اجد الرجلين في المزار فذهبت إلى نورس، حيث قيل لي بأنهما هناك. وفي نورس رأيت الشيخ فرحان والشيخ القسّام وأربعة رجال من رجالهما. كان الحضور يجلسون على الفراش، فوق الأرض مباشرة، وكان في الغرفة مسدسات وبنادق. أحضروا طعاماً وأكلت معهم، كان الطعام الذي قدّم يومها لجماعة مما يسمى "النواشف" أي المقالي والزيت والزيتون وبعض االخضروات.

كانت مهمتي إيصال الرسالة للشيخ فرحان أو القسّام وحصلت على رد مغلق مرسل لقائد فصيل قباطية الشيخ محمد أبو جعب. أشار عليّ الشيخ فرحان السعدي بضرورة عدم قراءة الرد ووضع الورقة في "دكة" سروالي ثم أرسلني إلى بيت لأنام فيه، وفي صباح اليوم التالي عدت إلى قباطية، سيراً على الأقدام ، مثلما ذهبت.

وجدت الإنجليز يطوقون البلدة وقد أخذ بعض جنودهم يلعبون كرة القدم في إحدى الساحات العامة. وقفت أتفرج على لعبة الكرة ولم يتحرش بي أحد. كنت صغيراً جداً، أرتدي ثوباً وتحته سروال، وكانتن في "دكة " السروال رسالة لا أعرف مضمونها، موجهة من الشيخ فرحان السعدي للشيخ محمد أبو جعب. لم أدرك آنذاك خطورة ما أفعل ولم أفكر في أن أحداً سيفتشني ".


من هذه الرسالة التي تضمنت مشاهدات عن إحدى الليالي الفاصلة في رحلة المجموعة، يمكن أن نصل إلى بعض الاستنتاجات أهمها :

1. أن أعضاء الجماعة في القرى المختلفة كانوا على علم مسبق بأمر قدوم المجموعة إلى المنطقة فجاؤوا بانفسهم إلى القسّام أو بعثوا رسلاً من طرفهم إليه ينبئونه بمدى استعداداتهم ويطلبون منه التعليمات، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على علمهم بخطة خروجه مسبقاً. وهذا يقودنا إلى الاعتقاد أن فكرة الخروج كانت وراءها حركة أكبر بكثير مما كان في حرش خربة الشيخ زيد.

2. كان لدى الإنجليز بعض المعلومات حول وجود حركات مسلحة في بعض الأماكن، ولهذا قاموا ببعض الخطوات الوقائية كحصار وتفتيش قرى جاء منها بعض أعضاء الجماعة كقريتي المزار وقباطية. وقد كانت هذه الخطوات بناءاً على تقارير زوّد السلطات بها ضابط البوليس، مصري الأصل، حليم بسطة ونائبه أحمد نايف من شرطة الياجور الذين قاما بزرع بعض العيون والمتعاونين في قرى قضائي حيفا وجنين، وقد تعقب هؤلاء القسّام في حين شارك أحمد نايف في الصدام المسلح الذي جرى مع الجماعة في حرش نزلة الشيخ زيد.


أما صادق جرّار من قرية البارد ( الهاشمية ) والذي قابلناه هو الآخر في نيسان 1999 ( وقد توفي بعد تلك المقابلة بأسابيع قليلة )، والذي كان طالباً في المدرسة الاسلامية الخاصة التي كان يديرها الشيخ كامل القصّاب في حيفا، قال إنه تعرّف هناك على الشيخ عز الدين القسّام الذي كان يأتي إلى المدرسة ليقابل الشيخ القصّاب وليجند الطلاب في جمعية سرية للفتيان سمّاها "جمعية خلاص الوطن" والتي كان الراوي سكرتيراً لها وقد قام، بهذه الصفة، بتدوين محاضر اجتماعات القسّام باعضائها.

روى لنا صادق جرّار عن المرحلة التي تلت لقاء نورس فقال:

" بعد المبيت ليلة واحدة في نورس، انقسم رجال المجموعة إلى قسمين، تسعة ( بمن فيهم الشيخ القسّام ) واصلوا السير إلى قرية اليامون، ثم قرية برقين مروراً بقرية البارد، في حين بقي الآخرون مع الشيخ فرحان السعدي وتوجهوا معه إلى قريته المزار.

أما الذين توجهوا إلى قرية البارد فقد تم اكتشافهم من قبل دورية من البوليس البريطاني التي أخذت بمناوشتهم بشكل جعل محمود سالم المخزومي ( الذي كانت مهمته حراسة المجموعة والاستكشاف ) أن يطلق النار على هذه الدورية ويقتل أحد أفرادها.

كشف هذا الحادث المجموعة بشكل اضطرت فيه إلى اللجوء إلى أحد الكهوف في المنطقة ويقال أنها فقدت أحد رجالها قبل وصولها إلى نزلة الشيخ زيد. أحد رجال الشرطة العرب قام بتتبعهم حيث ارتدى لباس رجل بدوي وذهب إلى يعبد وسأل صاحب مطعم هناك عن خبز وطعام. فقال له: جماعة القسّام أخذوا كل الخبز. وقد عرف الضابط من صاحب المطعم أن الجماعة تنزل في نزلة الشيخ زيد وقام بتوجيه القوات البريطانية إلى هناك".

والسؤال الذي طرحه الكثيرون ممن خاضوا في تفاصيل حركة القسّام يتعلق بسبب انقسام المجموعة إلى مجموعتين: واحدة بقيادة القسّام وأخرى بقيادة نائبه الشيخ فرحان. فمنهم من فسّره بأنه كان بسبب خلاف دبّ بين الرجلين حول تكتيك العمل وذلك نتيجة لتسرّع الشيخ فرحان بإعلان الثورة المسلحة وبأسرع وقت إلى جانب تروّي الشيخ القسّام ومحاولة اختياره للظرف المناسب. وقد تذرع أصحاب هذا الرأي بمقتل الشاويش اليهودي روزنفلد، ذلك الحادث الذي كشف عن الحركة قبل الوقت الذي أراده القسّام.

أمّا الإمكانية الأخرى، والتي أميل إلى ترجيحها، فهي أن القسّام لم يرد أن يتواجد مع فرحان السعدي، الرجل الثاني في الجماعة، في مكان واحد لفترة طويلة. لأنه في حالة تعرض السلطات لهم فإن واجب الحذر يقتضي بأن يبقى أحدهم على الأقل طليقاً لمواصلة المشوار. وعليه فإن من المرجح أن القسّام كان قد طلب من الشيخ فرحان أن تنقسم المجموعة لتسهيل الحركة ولعدم تمكين السلطات منهما مجتمعين إذا ما ضاقت بهما السبل.

لكن الأمور لم تسر حسب ما أراد لها الشيخ القسّام أن تكون، فقد تم اطلاق النار عل تلك الدورية وبذلك تم الكشف عن الجماعة قبل تنفيذ المرحلة الأولى للخطة، اي حض الأهالي على الثورة المسلحة الشيء الذي منع تنفيذ الخطة باكملها وبذلك تكون حصيلة العملية التي أراد لها القسّام أن تكون مقدم لثورة شعبية مسلحة، مطاردة من جانب البوليس النجليزي لجماعته وإحكام قبضته عليها في أحراش نزلة الشيخ زيد.

عند اكتشاف البوليس لمكان تواجد المجموعة ووصوله إلى هناك، تقدم بعض أفراده من العرب وطالبوا، بواسطة مكبرات الصوت، الشيخ وأتباعه بالاستسلام. لكن الشيخ طالب أتباعه بعدم الاستسلام والخضوع للتهديد بل دعاهم ليموتوا شهداء.

استمر الصدام غير المتكافئ ساعتين استشهد في نهايته ثلاثة ( الشيخ عزالدين القسّام والشيخ يوسف الزيباوي والشيخ عطفة حنفي المصري ) وجرح آخر ( الشيخ نمر السعدي ) وأسر الباقون. بالنسبة للخسائر في الجانب الإنجليزي فقد كانت مقتل شرطي واحد وجرح آخر.

أمّا البلاغ الذي أصدرته السلطات البريطانية عن الحادثة فكان كالتالي:" كان قد تجمع في المدة الخيرة عصابة من الأشقياء في الجهة الشمالية من قضاء نابلس تنتقل بين الجبال، وكان المدعو محمد أبو القاسم خلف الذي قتله البوليس في كفر قاد يوم 17 تشرين ثاني هو أحد افراد هذه العصابة. وفي فجر اليوم أحاطت قوة من بوليس نابلس وطولكرم وجنين بقرية الشيخ زيد ( شمال يعبد) وعلى بعد عشرة أميال غربي جنين حيث أن الاعتقاد أن العصابة متجمعة هناك وقد اطلق عليها الرصاص من حرش قريب".

من خلال هذا البيان الذي أصدرته سلطات الانتداب، نستطيع أن نفهم بوضوح كيفية فهم تلك السلطات لحركة القسّام وعلى الأقل في بداية الأمر. فقد عرّف كاتب البيان الشيخ القسّام وصحبه بأنهم "مجموعة من الأشقياء" أي المخلون بالنظام العام ليس إلاّ، ولم يدرك ذلك الكاتب بأن خلف عمل تلك المجموعة تختفي أسس أيديولوجية بحتة بغيتها العمل على نشر العصيان المسلح الذي يهدف في النهاية إلى إقصاء سلطات الإنتداب أو حملها على تحسين ظروف حكمها للبلاد كخطوة أولى على طريق إنهاء الانتداب.



وللحديث بقية...

التعليقات