السلطات المحلية العربية بين البنيوي والعارض وبين الاجتماعي والسياسي والسيكيولوجي

أشهر قليلة تفصلنا عن الإنتخابات المحلية، وستشهد الساحة كما في كل مرة السباق الأكثر سخونة لدى عرب الداخل ،لاسيما وأن الانتخاب والترشح لا يتم وفق الكفاءات والمؤهلات، بل تحتكم على موازين قوى حمائلية ومصالح أفراد وجماعات في إطار اصطفافات وتحالفات عائلية أو عائلية حزبية،ويرى البعض بأن هذا من شأنه أن يكرس القائم ويحد من امكانية التقدم الفعلي والتطور بدلا من تقويضه ،حول ذلك استطلعت "فصل المقال" عددا من الآراء والرؤى لتسليط الضوء بشكل أعمق على جوانب هذه القضية..

السلطات المحلية العربية بين البنيوي والعارض وبين الاجتماعي والسياسي والسيكيولوجي

أشهر قليلة تفصلنا عن الإنتخابات المحلية، وستشهد الساحة كما في كل مرة السباق الأكثر سخونة لدى عرب الداخل ،لاسيما وأن الانتخاب والترشح لا يتم وفق الكفاءات والمؤهلات، بل تحتكم على موازين قوى حمائلية ومصالح أفراد وجماعات  في إطار اصطفافات وتحالفات عائلية أو عائلية حزبية،ويرى  البعض بأن هذا من شأنه أن يكرس القائم ويحد من امكانية التقدم الفعلي والتطور بدلا من تقويضه ،حول ذلك استطلعت "فصل المقال" عددا من الآراء والرؤى لتسليط الضوء بشكل أعمق على جوانب هذه القضية.
 

بروفسور جمال: السلطة المحلية دخيلة ومفرغة من أي مضامين قيمية
المحاضر ومدير مركز "اعلام" برفسور أمل جمال يعتبر أن الموارد لدى السلطات المحلية هائلة، ولكن النتائج سيئة ويعزو ذلك لعدد من العوامل الذاتية والموضوعية ويقول:نهدر طاقات هائلة في التنافس السلبي ومحاولات الشطب المتبادلة لكل فكرة إيجابية، وتشتد الى عملية تناحر ليس لها علاقة بالشأن العام، وغالبًا ماتكون شخصية ضيقة وأنه في أغلب الحالات هذا التناحر الشخصي أو العائلي يقطع الطريق على تنفيذ برامج ومشاريع إيجابية، عادة ماتكون لها ميزانيات مخصصة ومحكومة بفترة زمنية محددة، وأن غياب العمل المشترك والتخطيط السليم يضيع الفرصة لتنفيذ هذه البرامج في الفترة الزمنية المحددة، كما يعتبر بروفسور جمال  أن السلطات المحلية لم تنشأ داخل المجتمع العربي في إطار سيرورة تاريخية وتطور طبيعي، وبالتالي فإن التعامل معها يتم بشكل مشوه ويضيف "في الثقافة السائدة فإن المواطن العربي يرى بالمجالس المحلية كمؤسسات دخيلة ممكن استباحتها وهدر مواردها بخلاف المؤسسات العضوية المتأصلة مثل المعابد من المساجد والكنائس والخلوات وغيرها، أي أن آداب وأخلاقيات التعامل مع الموارد شبه غائبة، وهي لاتتماشى مع آداب المجتمع العربي من جهة، ولا مع فكر حداثي يعتمد البرمجة والتخطيط بمقاييس موضوعية، ويتابع برفسور جمال أن سوء الأداء والنقص بهذا النوع من البرمجة والتخطيط يعود أساسا للبنية الإجتماعية التي تفضل الانتخاب على أساس القربى العائلية أكثر منها على أساس المؤهلات، هذا من جهة.

من جهة أخرى فإن سياسات وزارة الداخلية والحكومة التي تعيق عمليات التخطيط والبناء والكثير من المشاريع مستغلة خلافات داخلية لشرعنة سياسات تتعارض مع المصالح الأساسية للمجتمع العربي، أي أن المؤسسة الرسمية تتعامل مع السلطات العربية كجزر منقطعة عن محيطها، وعلى أنها فائض وعبء بدلا من التعامل معها كجزء من منظومة الخدمات كحق متساو لكافة المواطنين،وتابع جمال أن سياسات الحكومة المتبعة مع العرب ما زالت تعيد انتاج سياسات الحكم العسكري وتستغل الثغرات الداخلية لتنفيذ مأربها، كما أن هناك سياسة تتبعها الداخلية تجاه الحكم المحلي لتحقيق مصالح حزبية فئوية، لتجنيد  وكسب الصوت العربي ودعم الحزب الإسرائيلي الذي يتولى منصب وزير الداخلية، وهذا ما يعلل النسبة الكبيرة  من الأصوات العربية التي يحصل عليها حزب شاس.ويعتبر جمّال أن هناك قصورا وخللا كبيرا ليس عارضا وطارئا بل هو بنيوي ويقول:إن غياب الرؤى والتخطيط، تجاهل الثقافة والشباب لدرجة كبيرة، وإن الحكم المحلي لم يطور نفسه كمحور مركزي لإعادة تصنيع المجتمع من جديد، الأمر الذي يستلزم رؤية وتخطيطا  وأهدافا مستقبلية ورسالة واضحة تتماشى وتستجيب مع هواجس وتطلعات الشباب العربي، وانعدام كل ما ذكرت يعود الى كون السلطة المحلية دخيلة ولم تتجاوز كونها دخيلة على المجتمع، وتم فرضها فوقيا من المؤسسة الرسمية، وليست نتاج سيرورة تطور طبيعية، لذلك هي لم تطور رسالة وتطلعات المجتمع الحقيقية،إنما تبقى إما مقدمة خدمات سيئة، وإما جزءًا من آليات السيطرة للحكومة في تنفيذ سياسات موجهة.

برفسور دويري: معظم المثقفين العرب لايختلفون كثيرًا عن بقية افراد المجتمع
البرفسور والمحاضر في علم النفس مروان دويري يحمل وجهة نظر مغايرة، وردا على أسئلة فصل المقال يقول:يسهل للبعض التعامل مع الانتماء الحمائلي على أنه آفة يجب التخلص منها، كي تبقى الانتماءات القومية أو الإيديولوجية -الحزبية هي الأساس. بين التمني وبين الواقع بون واسع.

وتابع برفسور دويري  أوروبا لم تتحرر من الانتماءات القبلية إلا بعد إقامة دول قومية أخذت على عاتقها رعاية مواطنيها، فأصبح الفرد يعتمد في بقائه على مؤسسات الدولة، وعندها فقط بدأ يتحرر من تبعيته النفسية والإجتماعية للقبيلة، وبزغ ككيان مستقل في رأيه وسلوكه، وهكذا بدأ عصر الفردية Individualism. المواطنون العرب-الفلسطينيون في إسرائيل لا يحظون بدعم الدولة في بقائهم بل إن بقاءهم مهدد من قبل مؤسسات الدولة. الحمولة هي التي توفر المسكن وليس وزارة الإسكان، هي التي توفر العمل وليس وزارة العمل، وتدافع عن أبنائها وتحمي مصالحهم أكثر من الشرطة. إذن في غياب دولة ترعى شؤون المواطنين العرب فلا بد للانتماء الحمائلي أن يكون مركزيا.

واضاف دويري، من جهة أخرى فإن الانتماءين القومي والأيديولوجي يتطلبان وعيا عاليا يتجاوز المصالح الشخصية، لذلك فقلة من المواطنين العرب استطاعت تجاوز الإنتماء الحمائلي ونشطت في الأحزاب. زد على ذلك أن أداء الأحزاب في السنوات الأخيرة مخيب لآمال كثير من الناس. كوادر الأحزاب أصبحت "شغيلة" لدى قيادات الأحزاب، التي لا تصغي لنبضها وحاجاتها الأمر الذي أحدث تراجعا في السنوات الأخيرة في الاصطفافات الحزبية وتصاعدا في الاصطفافات الحمائلية.

وقال: ان معظم المثقفين العرب لا يختلفون كثيرا عن بقية أفراد المجتمع. هم أيضا يكنون امتنانا لحمولتهم التي دعمتهم في تعليمهم ومسكنهم، وفي إيجاد وظائف لهم، وعليه بقوا عالقين في هذا الانتماء والولاء. من جهة أخرى حصل تحول ما في النهج الحمائلي. معظم الحمائل التي تريد المحافظة على مصالحها في البلدة تختار مثقفا ليمثلها ويرعى مصالحها، وهكذا يصبح التحالف بين المثقف وحمولته أقوى ويشد إليه مثقفين آخرين.
وأردف برفيسور دويري "أنا لا أعتقد أن الانتماءات الحمائلية هي آفة يجب اجتثاثها، بل هي انتماءات لها دور سوسيولوجي بقائي يجب فهمه. ما يمكن فعله معها هو جعلها تصب في التيار الوطني بدل  أن تصب في التيارات المعادية. في الحقيقة هذا ما تفعله معظم الأحزاب القومية والأيديولوجية. جميع هذه الأحزاب تعطي وزنا كبيرا لانتماءات مرشحيها الطائفية والحمائلية لجني أكبر عدد من الأصوات، وبهذا تدفع بهذه الانتماءات في الاتجاه الوطني وإن كانت بهذا تكرس هذه الانتماءات" .

وخلص برفسور دويري أن على الأحزاب ألا تكتفي باحتواء الحمائل فيها، بل تقع عليها مسؤولية التثقيف السياسي والأيديولوجي على مدار السنة، وأن تشجع ظهور قيادات شابة مثقفة ومبدئية. بكلمات أخرى يمكن القول أن استمرار قوة الحمائل لا تتعلق فقط بغياب دولة المواطنين، بل أيضا بضعف أداء الأحزاب التي تتخذ في كثير من الأحيان شكلا حمائليا في أدائها، يشبه كثيرا أداء الحمائل التقليدي. ربما أن الفرق بين الأحزاب والحمائل يكون بارزا في الانتخابات البرلمانية لكن هذا الفرق يتضاءل كثيرا في الانتخابات المحلية. في كثير من القرى والمدن العربية يصعب التمييز في الانتخابات المحلية بين قائمة حزبية وبين قائمة حمائلية، فما العجب.  

د مهند مصطفى: ما يتم في الإنتخابات المحلية لايمت بصلة للديمقراطية
الباحث السياسي والمحاضرد.مهند مصطفى يشير إلى شقي أزمة السلطات المحلية ويستعرض مفهوم الإنتخاب الديمقراطي ويقول: المؤسسة الإسرائيلية لم تكن راغبة بتوسيع ظاهرة الانتخابات في التجمعات العربية أو إعطاء صفة المجلس المحلي للبلدات العربية، خوفا من أن يساهم هذا المبنى الحديث بتمكين مجتمعي وسياسي للقرى العربية ولكنهم اكتشفوا أن هذا المبنى بالذات سيعزز الإنتماءات العصبية الضيقة بالمجتمع.

وتابع د.مصطفى ان تسييس الإنتماءات العائلية والحمائلية من خلال الإنتخابات المحلية أدى الى تخريب العائلة ودورها الحميمي والإجتماعي، وقد ساهمت الأحزاب والحركات السياسية العربية في هذه المهمة من خلال التعامل مع العائلة كرافعة سياسية مضمونة. ربما أتفهم من منطلق أن التغيير لا يمكن ان يكون راديكاليا، إن التعامل مع المبنى الأهلي التقليدي هو بهدف احتواء تسييس العائلات وتحزبها في قوائم عائلية، ولكن لا يمكن البناء على هذه الآلية لفترة طويلة والى الأبد، فيتحول التغيير إلى تكريس وبدل أن تعزف العائلات عن التحزب والتسييس، تتحول الأحزاب الى قوائم عائلية بحتة، لا يستطيع أحد من الأحزاب والحركات السياسية الادعاء انه انتخب على أساس سياسي أو أيديولوجي في الانتخابات المحلية، فالكل يمارس اللعبة العائلية والمناطقية والطائفية بامتياز.

وتابع أن الانتخابات المحلية العربية تدل على أمرين غاية في الأهمية على المستوى النظري والسياسي, أولا: لا تدل كل عملية انتخابات على ديمقراطية، فما يحدث في الانتخابات المحلية لا يمت بصلة من قريب أو من بعيد للديمقراطية، أو "للعرس الديمقراطي" كما يحلو للكثير تسميته، وخصوصا المنتصرين في وصف الانتخابات بعد يوم، ولكنهم لو هزموا لتحول "العرس الديمقراطي" الى لعبة تزييف وشراء أصوات وذمم. فالديمقراطية ليست هي الانتخابات، فالأنظمة السلطوية والملكية مليئة بهذا النوع من الانتخابات وزيادة. ثانيا: إن مبنى الحكم المحلي عموما هو بلا شك مبنى حديث، ويتضح ذلك من خلال توزيع الأدوار المهنية والتراتبية الوظيفية، وطريقة انتخابات الادارة السياسية فيه،إلا أنه لم يساهم في تحديث المجتمع، بل عزز من العصبيات العائلية بداخله، على الرغم من التفكك الذي أصاب الحمولة وفقدانها لوظيفتها الإقتصادية، ففي حالة المجتمع العربي القروي الريفي تحول مبنى الحكم المحلي الى جزء من النظام الإجتماعي التقليدي المسيس، لأن عملية التحديث ربما أصابت الأفراد، إلا أنها لم تصب القرى العربية نفسها. في النهاية أقول, لا يجب أن تكون التنظيمات السياسية ضد العائلية، ولا يجوز أن تكون متشنجة متعالية على مجتمعها، وفي الوقت نفسه لا تسمح لنفسها أن تكون تابعة ومذدنبة للعائلية، ويجب أن يكون لجوء التنظيمات السياسية الى التحالفات التي تقوم على أسس اجتماعية مقبولة، تعود إلى إدراكها بأنه لا يمكن إحداث التغيير دفعة واحدة، وهي تعرف أن هذه التحالفات تنطوي على تنازلات معقولة ومراعاة لبعض جوانب الواقع الإجتماعي الذي تعيشه.

بشير: السلطة المحلية قد تتحول إلى أداة تخلف بيد الطبقة المتعلمة
الباحث نبيه بشير  يعتبر السلطة المحلية أداة بيد السلطة المركزية لتحقيق أهداف بأقل التكاليف ومنع العرب من التطور و تشكيل رؤية جماعية ويقول:"إن الإرث التاريخي الذي يحمله السكان العرب بخصوص نظرتهم إلى المؤسّسات العامة؛ السياسات العامة للسلطة المركزية والأهداف الكامنة وراء إنشاء هذه السلطات وسعي الدولة إلى الانسحاب من المجتمع المحلي وتوكيل بعض الأذرع الأخرى في التعاطي مع الخدمات،اعتبرت السلطة المحلية ولا زالت أحد أذرع السلطة المركزية تختزل وظيفتها في تقديم الخدمات الحياتية للسكان وتأمين "النظام العام" وتطبيق القوانين.
وأضاف بشير أن السلطات المحلية تعتبر مثالاً نموذجيًا لمعاينة سياسات إسرائيل تجاه السكان العرب. ومن أهم الأهداف السلطوية التي تحقّقها السلطات المحلية العربية: تحمّلها المسئولية بدلاً من السلطة المركزية وتخفيف الأعباء عنها؛ بما أن السلطة المحلية جسم نظامي، بات عليها الإلتزام بوصفها أداة بأيدي السلطة المركزية بتنفيذ القرارات الحكومية وتطبيق القانون حتى وإن كان يعمل ضد مصلحة السكان أنفسهم؛ وقال..إن إقامة سلطة محلية يعني إجهاض أي إمكانية لتطوير رؤية جماعية لكافة السكان العرب، وتابع بشير أن الأسوأ هو تحوّل السلطة المحلية إلى محل أطماع كافة السكان، وخاصة تلك الطبقة المتعلمة والتي تتحوّل حال انخراطها في هذه السلطات إلى قوة تخلّف لسعيها الدؤوب للمحافظة على مكاسبها ومصدر رزقها، إضافة إلى تحوّلها إلى أداة تقنية لتنفيذ القرارات الحكومية بدل أن تتشكّل كقوة ثورية في المجتمع؛ وعليه تتحوّل السلطات المحلية إلى مصدر للنزاعات المحلية وتغذية النزعات الفردانية والعصبية الفئوية في آن معًا؛ تتخبّط السلطات المحلية في حلقة مفرغة مفادها أن دخل السكان المادي لا يسمح لهم بتغطية جميع مستحقاتهم لسلطاتهم المحلية، ومن ناحية ثانية تقوم الدولة بحرمان السكان من أماكن تشغيل ومناطق صناعية، وبالتالي تحرم هذه السلطات المحلية من عائدات الضرائب التي كان يمكن لها أن تجنيها من مثل هذه المناطق الصناعية، وأخيرًا تدعم الدولة السلطات المحلية بحسب قدرتها على جباية الضرائب المحلية. وبالمجمل، تبدو الدولة وكأنها غير مسئولة بتاتًا عن حالة المجتمع وسلطاتها المحلية، وليس هذا هو الحال فعليًا، إذ أن ذلك نابع بالطبع عن خدعة بصرية-فكرية.

وقال بشير :رغم كل ما ذكرت، فقد وعت السلطات المحلية العربية منذ مطلع السبعينيات غالبية هذه المسائل وحاولت اختراقها، إذ بدأت بالنظرة إلى ذاتها كجهاز سياسي أيضًا وليس مجرد كلب حراسة ولا مقدّمًا للخدمات الحياتية فقط، إلاّ أن قدرتها على فعل ذلك محدودة بفعل الأسس القائمة عليها أصلاً وتردّدها في فرض تغيير قواعد اللعبة. ولا أرى أي إمكانية لخروج السلطات المحلية من أزماتها المزمنة، إلاّ من خلال هدمها تمامًا وبلورة رؤى وسياسات محلية وجماعية تسعى إلى الإنفصال بالكلية عن السلطة المركزية، وتتحمّل مسئولياتها عن كافة مناحي حياة سكانها، ولكن ذلك لا يتحقّق إلاّ بتغيير تعريف الدولة لذاتها كدولة مواطنيها بدل أن تكون دولة يهودية تسعى إلى تحقيق الأهداف الصهيونية كما هو الحال حتى وقتنا الحاضر.

التعليقات